١
-عم محمد، عم محمد، حاسب، حاسب.
ضربته السيارة بأقصى سرعتها، ثم ذهبت في طريقها، لم تتوان للحظة أو يرتد لسائقها طرفًا؛ فيترجل من سيارته أو يتوقف حتى ليرى حالة الشخص الذي صدمه للتو، وكأن ما حدث ليس بخطئه، كل الذنب للذي مر أمام سيارته.
-أين الإسعاف؟، هل اتصل أحدكم به؟، تبدو حالته سيئة للغاية، والتأخير لن يكون في صالحه.
يصرخ بشدة فيمن حوله، شاهد الحادثة منذ بدايتها، وحاول تحذيره، ولكن دون جدوى، لم ينتبه العم محمد، وكأنه كان في وادٍ آخر؛ بل عالم غير عالمه.
-عم محمد، لا ترحل أرجوك، ابق معنا، سيارة الإسعاف في الطريق إليك.
صوت صفارتها يرج أركان المكان، ويزلزل القلوب خوفًا عند سماعه؛ فيتراجع لها الجميع، ويفسحون لها المجال كالعادة، ولسان حالهم يقول "يارب سلم، يارب سلم".
-لا تُغمض عينيك لأجل هدى وفريدة ونور، ماذا سأخبرهم عنك؟
يخشى إبراهيم من فقدان العم محمد للوعي، يُريده أن يظل مستيقظًا حتى قدوم الإسعاف، يذكر له أسماء بناته، فهو يعلم حبه الشديد لهم؛ بل يعرف بأنه السند الوحيد لهم في هذه الحياة، أخذ العم محمد يشير إليه، ويهمهم بكلمات غير مفهومة، فهو لا يقوى على النطق من أثر الضربة، ولكن إبراهيم استطاع الفهم، وآلمه الشعور الذي وصل إليه؛ ليربت على يديه قائلًا:
-ستكون بخير يا عم محمد، وأعدك بأنني لن أتخلى أبدًا عنهم.
كالبلسم الشافي دَاوت كلماته جروح قلبه، وشعر بخفة الطير من روعة تأثيرها، كان مفعولها كالسحر؛ فلم يعد هناك أي ألم رغم الجروح والندبات التي تفشت كامل أجزاء جسده، عَلت الابتسامة ثغره، وما هي إلا لحظات، وأغلقت شمس الحياة في عينيه، واستسلم لما يدور حوله.
في منزل العم محمد..
يرن الهاتف الأرضي بلا توقف، يلح المتصل كثيرًا، لن يتراجع حتى يجد إجابة؛ لتسقط السماعة من بين يديها، وهي تصرخ قائلة:
-أبي، أبي، ماذا تقول يا إبراهيم؟
سقطت أرضًا، ولم تقو قدماها على حملها، ترجوه من بين دموعها:
-أخبرني بأنها مزحة أرجوك.
قالت جملتها الأخيرة، ثم انهارت في البكاء، سقط الخبر عليها كالصاعقة، فانتفض من في البيت، هرولت فريدة نحوها في خوف قائلة:
-ماذا هناك يا نور؟، أخبريني لما تصرخين بهذا الشكل؟
لم تقو نور على الحديث، ورغم محاولات أختها لتهدأتها، لم تستجب، فانتبهت فريدة إلى سماعة الهاتف، مازال الخط مفتوحًا، وأحدهم ينادي من خلالها، لترفع السماعة على أذنها، وصُدمت عند سماع الصوت، تنادي باسمه في استنكار قائلة:
-إبراهيم، هل هذا أنت معقول؟
-فريدة، ما الذي حدث لنور؟، أخبريني أرجوك.
فريدة في حدة:
-وما الذي أخبرتها به لتنهار بذلك الشكل؟، ألا يكفيك ما حدث لها من قبل بسببك يا إبراهيم؟
وقبل أن يُجيبها، أغلقت فريدة الخط في وجهه، لم تتوقع قط أن تسمع ذلك الصوت ثانية، انقطعت كل حبال الوصل بينهما، ولن تعود المياة إلى مجاريها مهما حدث، فماذا يريد إبراهيم منها؟
-لا تخافي يا نور، لن أسمح لذلك الوغد بإيذائك ثانية؟
تبكي نور بشدة، وكلما حاولت الحديث، قاطعتها شهقات البكاء، تظن فريدة شيئًا، والحقيقة شيء آخر، فإبراهيم هو خطيب نور السابق، وكم تألمت نور بسببه، وانتهى الأمر بانفصالهما رغم قصة الحب التي جمعتهما.
تمر اللحظات، وتتحول على عجل إلى دقائق، ومازالت نور على نفس حالتها، وشُلت في مكانها من أثر الصدمة، لا تستطيع التحرك ولو قيد أنملة، يمر الوقت في غير صالحهم، فوالدهم في المستشفى وحده، وبحاجة ماسة إلى عائلته.
-اهدأي يا نور أرجوك، أعدك بأنني سأحميكِ، ولن تتعرضي للأذي قط من إبراهيم ثانية.
تهز نور رأسها في نفي، الأمر ليس له علاقة بإبراهيم؛ بل على العكس إن علمت الحقيقة، ستشعر بالامتنان الشديد له، تحرق العبرات وجنتيها، ووجيف قلبها يزداد، وكأنه قد كُتب عليه الأنين، تحاصرها الهموم من كل اتجاه، ولا تعطيها هدنةً ولو للحظة واحدة.
-إلى متى ستظلين بذلك الشكل يا نور؟، هل مازلت تحبينه رغم كل ما حدث؟
تنهرها فريدة في غضب، لم تعرف كيف تُهدئها؟، ويؤلمها رؤيتها تعاني هكذا، فأرادت أن تقسو عليها؛ لعلها تستفيق من ذلك الوهم الذي تعيش فيه، مازالت تفكر به، وهو لم يتراجع قط عن قراره وتخلى عنها.
-ماذا هناك يا فريدة؟، لم تصرخين بأختك بهذا الشكل؟
جاءت والدتهم من الخارج مع هدى -أختهم الصغرى- ارتمت في أحضان نور، تمسح بأناملها الصغيرة الدموع عن خديها، تنظر لفريدة في غضب، ووالدتها أيضًا، نور تبدو في حالة يُرثي لها، ولم تلبث الاتهامات أن توجهت إليها كما ظنتها من قبل بإبراهيم، والسبب الحقيقي مازال مجهولًا لديهم، ليقطع عليهم كل هذه الشكوك رنين الهاتف، ليصبح الصراخ من نصيب والدتها هذه المرة، وركضت مسرعة إلى الخارج، ولحقت بها ابنتيها، لم ينتبهوا إلى الباب خلفهم، تركوه مفتوحًا، ليُغلقه من خلفه، وهو يعتذر منها فى حزن قائلًا:
-سامحيني يا نور أرجوك، سامحيني، فكم كنت ضعيفًا، ولم أستطع حمايتك، سامحيني على كل ليلة مرت من دونك، وتسببت فيها بالألم لسوانا، تعلمين بأني والله أحبك، ولم أعد حقًا أقوى على العيش من دونك.
ذهب إليها إبراهيم في الوقت المناسب، قُرت عيناها عند رؤيته، وبدأت تهدأ، ولوهلة تناست كليةً ما حدث بالماضي، لتتبدل نظرتها عند رؤية قميصه ملطخًا بالدماء، فارتعبت من منظره، وانهارت ثانية.
-لا تقلقي يا نور، أنا بخير، فهذه الدماء ليس بدمائي.
ظن بأنها قلقت عليه، ولكن انهيارها لم يكن لأجله؛ بل خوفًا على والدها، هذا المشهد يوحي بأن الأمر جلل، وقلبها يُحدثها بأنه لن يكون هناك لقاء بينهما بعد هذه الحادثة، وما أسوأه من شعور يفتك بالمرء، حين يرى أحبائه يُعانون، ويقف عاجزًا حتى عن النطق، فتلحق به الظنون من كل اتجاه، يُصدرون عليهم مختلف الأحكام تبعا لأهوائهم.
-تحدثي يا نور، قولي أي شيء أرجوكِ، أ لهذه الدرجة أصبحت تكرهينني، ولا تريدين الحديث معي؟
في المستشفى ….
-زوجي حبيبي، محمد أين أنت يا شريك العمر؟
السيدة سمية منهارة في البكاء، تتخبط هنا وهناك، تبحث عن زوجها في الأرجاء، سقطت أكثر من مرة، وتساعدها بناتها على النهوض، ينزف جرحها على الملأ أمام الجميع، فكم عانت هي وزوجها هذه الفترة، ولم تدع لهم الهموم مجالًا للتنفس بسلام، فجاءت هذه الحادثة لتُكمل عليهم، ولكن هذه المرة سيقع الحمل على عاتقها وحدها، فخارت قواها، وسقطت مغشيًا عليها.
-أمي، أمي، انهضي أرجوكِ، ماذا حدث معكِ؟
تبكي هدى في خوف، تربت بأناملها الصغيرة على وجه والدتها، تظنها نائمة، وتحاول أن تُوقظها، ولكنها هذه المرة لا تستجيب كما اعتادت أن تفعل معها، وينتهي الأمر بمزاح بينهما، فكم كانت تحب أن توقظها ابنتها، ولكنها هذه المرة لا تشعر بأي شيء.
-تعالي هنا يا هدى، دعيها أرجوكِ.
تتشبث هدى بوالدتها كالغريق، يتعلق في كومة القش، ويرى فيها نجاته، فأنىٰ لها أن تعيش دونها؟، وهي تعني لها كل شيء، وكلما أخذتها فريدة بعيدًا عنها؛ لتتمكن الممرضات من إسعافها، ارتمت هدى في أحضانها، لتحول بينهم وبين نقلها، فحملتها فريدة عنوة، ثم لحقت بهم.
قبل الحادثة بشهر….
-أين سنذهب يا محمد؟، لا حول ولا قوة إلا بالله، بم أخطأنا في حقهم؛ ليطردونا بهذه الطريقة؟
وجدت العبرات طريقها في التدفق من عينيها، تبكي الأيام والسنين التي شهدوها في هذا المنزل، والذكريات التي عبقت رائحتها في الأركان، ولم يكن هينًا عليهم الانتقال إليه؛ لتضطر على مضض إلى مغادرته كما حدث من قبل، تُعيد عليها ذاكرتها الأحداث، أخذت زوجها ورحلت مع بناتها، تاركة خلفها كل شيء؛ تودع أملاكها وتسكن بالإيجار كغيرها، فقد كادت تفقد زوجها.
-ابتعدي عن طريقي يا سمية، دعيني لأُريه مقامه، كيف يسيء إليكِ بذلك الشكل؟
تقف السيدة سمية أمام زوجها، تمنعه من الذهاب إلى الخارج، حيث يقف أخيه في انتظاره، يحمل السكين، يريد أن يُنهي حياته، ينازعه على الميراث، يقذف زوجته بمختلف السباب؛ ليُثير استفزازه، فيتقاتلا، وينتهي المطاف بأحدهم صريع والآخر خلف القضبان.
-اخرج أيها الجبان من مخبئك، وتعال هنا وواجهني.
يضحك أخيه فتحي باستهزاء منه أمام شقته، يحد سن السكين، وتقف جواره زوجته التي تُشجعه على قتال أخيه، فهي الأفعي التي بثت سمها على العائلة منذ دخولها إليها، تزرع الحقد والضغينة بداخل قلب زوجها على أخيه، تريد أن تستأثر بالبيت وحدها، فهي أم الرجال، ولم تنجب زوجة أخيه سوى الفتيات، فكانت تفتخر بذلك، وتعايرهم بالبنات، ولأجل ذلك ترى بأنه لا حق لهم في الميراث.
تعلو صرخات السيدة سمية، تستغيث بالجيران، وتتصل ابنتها الكبرى على أعمامها، ولكن دون جدوى، فما من مجيب، تخلى عنهم الجميع، وتركوهم وسط النيران وحدهم، لا قريب أو بعيد يحاول أن يساعدهم، لتضيق عليهم الأركان بما رحبت، لم يدعوا لها خيار قط سوى المغادرة رغم قصر ذات اليد، فزوجها هو العائل الوحيد لأسرتها، لترجوه من بين دموعها قائلة:
-أرجوك يا محمد، تعال معي لنرحل من هنا، لم يعد لنا مكانًا بينهم.
محمد في استنكار:
-وأين نذهب؟، هل تريدين مني أن أترك بيتي؟، وأسكن بالإيجار عند كل من هب ودب، لا، لن أفعل ذلك أبدًا.
-لأجل بناتك يا محمد، فكيف يكون حالهم إن أصابك مكروهًا؟، وقد رأيت الآن بنفسك بأنه ما من سند لهم، فلمن تتركنا يا محمد؟، والذئاب حولنا من كل اتجاه.
لامست كلماتها شغاف قلبه، فاستجاب لطلبها، رحل عن بيت والدايه، وانتقل للسكن في أحد البيوت بالإيجار، لتبدأ معاناة أخرى، لم تكن في الحسبان قط.
-لو رأيت خدش مسمار في الجدران، لن تبقى في الشقة ليوم واحد.
كلمات لم يُفكر صاحبها في وقعها قط، فكان تأثيرها كالسيف الحامي، يخدش في ندباتهم المزيد من الجروح، ضربات الحياة تسقط فوق رؤوسهم الواحدة تلو الأخرى، وشعور أليم يفتك بالمرء حين يكون لديه أملاكه، ويتحكم فيه الآخرين كيفما شاءوا.
الأستاذ محمد في حزن، يُقرأ في ملامحه قبل كلماته:
-لقد أخبرتك من قبل يا سمية بأننا والله لو خرجنا من بيتنا، لن يرحمنا أحد قط، وسترى من أصناف العذاب ويلات ويلات.
لتُجيبه في ألم:
-وما الفارق يا محمد؟، فلقد أكل فينا القريب، واستباح دمائنا، فلا ملامة إذن على الغريب.
ألجمت كلماتها لسانه، فلم ينبس ببنت شفه، يبث شكواه لله، فهو يعلم بأن ألمها ليس بأقل حالًا منه، فكل شيء متصل بينهما.
يحمل العم محمد الهم فوق كاهله، ويسير بثقل، فهو لا يعرف أين يذهب بعائلته؟، صاحب العمارة يريد شقته، وطلب منه تركها في أقرب وقت، الأمر الذي لم يكن بالحسبان، وخاصة بأنه لن يُفكر قط في الرجوع إلى شقته، الأذى الذي تعرضوا له لم يكن هينًا؛ لتُغلق كل الأبواب في وجهه دفعة واحدة.
ضربته السيارة بأقصى سرعتها، ثم ذهبت في طريقها، لم تتوان للحظة أو يرتد لسائقها طرفًا؛ فيترجل من سيارته أو يتوقف حتى ليرى حالة الشخص الذي صدمه للتو، وكأن ما حدث ليس بخطئه، كل الذنب للذي مر أمام سيارته.
-أين الإسعاف؟، هل اتصل أحدكم به؟، تبدو حالته سيئة للغاية، والتأخير لن يكون في صالحه.
يصرخ بشدة فيمن حوله، شاهد الحادثة منذ بدايتها، وحاول تحذيره، ولكن دون جدوى، لم ينتبه العم محمد، وكأنه كان في وادٍ آخر؛ بل عالم غير عالمه.
-عم محمد، لا ترحل أرجوك، ابق معنا، سيارة الإسعاف في الطريق إليك.
صوت صفارتها يرج أركان المكان، ويزلزل القلوب خوفًا عند سماعه؛ فيتراجع لها الجميع، ويفسحون لها المجال كالعادة، ولسان حالهم يقول "يارب سلم، يارب سلم".
-لا تُغمض عينيك لأجل هدى وفريدة ونور، ماذا سأخبرهم عنك؟
يخشى إبراهيم من فقدان العم محمد للوعي، يُريده أن يظل مستيقظًا حتى قدوم الإسعاف، يذكر له أسماء بناته، فهو يعلم حبه الشديد لهم؛ بل يعرف بأنه السند الوحيد لهم في هذه الحياة، أخذ العم محمد يشير إليه، ويهمهم بكلمات غير مفهومة، فهو لا يقوى على النطق من أثر الضربة، ولكن إبراهيم استطاع الفهم، وآلمه الشعور الذي وصل إليه؛ ليربت على يديه قائلًا:
-ستكون بخير يا عم محمد، وأعدك بأنني لن أتخلى أبدًا عنهم.
كالبلسم الشافي دَاوت كلماته جروح قلبه، وشعر بخفة الطير من روعة تأثيرها، كان مفعولها كالسحر؛ فلم يعد هناك أي ألم رغم الجروح والندبات التي تفشت كامل أجزاء جسده، عَلت الابتسامة ثغره، وما هي إلا لحظات، وأغلقت شمس الحياة في عينيه، واستسلم لما يدور حوله.
في منزل العم محمد..
يرن الهاتف الأرضي بلا توقف، يلح المتصل كثيرًا، لن يتراجع حتى يجد إجابة؛ لتسقط السماعة من بين يديها، وهي تصرخ قائلة:
-أبي، أبي، ماذا تقول يا إبراهيم؟
سقطت أرضًا، ولم تقو قدماها على حملها، ترجوه من بين دموعها:
-أخبرني بأنها مزحة أرجوك.
قالت جملتها الأخيرة، ثم انهارت في البكاء، سقط الخبر عليها كالصاعقة، فانتفض من في البيت، هرولت فريدة نحوها في خوف قائلة:
-ماذا هناك يا نور؟، أخبريني لما تصرخين بهذا الشكل؟
لم تقو نور على الحديث، ورغم محاولات أختها لتهدأتها، لم تستجب، فانتبهت فريدة إلى سماعة الهاتف، مازال الخط مفتوحًا، وأحدهم ينادي من خلالها، لترفع السماعة على أذنها، وصُدمت عند سماع الصوت، تنادي باسمه في استنكار قائلة:
-إبراهيم، هل هذا أنت معقول؟
-فريدة، ما الذي حدث لنور؟، أخبريني أرجوك.
فريدة في حدة:
-وما الذي أخبرتها به لتنهار بذلك الشكل؟، ألا يكفيك ما حدث لها من قبل بسببك يا إبراهيم؟
وقبل أن يُجيبها، أغلقت فريدة الخط في وجهه، لم تتوقع قط أن تسمع ذلك الصوت ثانية، انقطعت كل حبال الوصل بينهما، ولن تعود المياة إلى مجاريها مهما حدث، فماذا يريد إبراهيم منها؟
-لا تخافي يا نور، لن أسمح لذلك الوغد بإيذائك ثانية؟
تبكي نور بشدة، وكلما حاولت الحديث، قاطعتها شهقات البكاء، تظن فريدة شيئًا، والحقيقة شيء آخر، فإبراهيم هو خطيب نور السابق، وكم تألمت نور بسببه، وانتهى الأمر بانفصالهما رغم قصة الحب التي جمعتهما.
تمر اللحظات، وتتحول على عجل إلى دقائق، ومازالت نور على نفس حالتها، وشُلت في مكانها من أثر الصدمة، لا تستطيع التحرك ولو قيد أنملة، يمر الوقت في غير صالحهم، فوالدهم في المستشفى وحده، وبحاجة ماسة إلى عائلته.
-اهدأي يا نور أرجوك، أعدك بأنني سأحميكِ، ولن تتعرضي للأذي قط من إبراهيم ثانية.
تهز نور رأسها في نفي، الأمر ليس له علاقة بإبراهيم؛ بل على العكس إن علمت الحقيقة، ستشعر بالامتنان الشديد له، تحرق العبرات وجنتيها، ووجيف قلبها يزداد، وكأنه قد كُتب عليه الأنين، تحاصرها الهموم من كل اتجاه، ولا تعطيها هدنةً ولو للحظة واحدة.
-إلى متى ستظلين بذلك الشكل يا نور؟، هل مازلت تحبينه رغم كل ما حدث؟
تنهرها فريدة في غضب، لم تعرف كيف تُهدئها؟، ويؤلمها رؤيتها تعاني هكذا، فأرادت أن تقسو عليها؛ لعلها تستفيق من ذلك الوهم الذي تعيش فيه، مازالت تفكر به، وهو لم يتراجع قط عن قراره وتخلى عنها.
-ماذا هناك يا فريدة؟، لم تصرخين بأختك بهذا الشكل؟
جاءت والدتهم من الخارج مع هدى -أختهم الصغرى- ارتمت في أحضان نور، تمسح بأناملها الصغيرة الدموع عن خديها، تنظر لفريدة في غضب، ووالدتها أيضًا، نور تبدو في حالة يُرثي لها، ولم تلبث الاتهامات أن توجهت إليها كما ظنتها من قبل بإبراهيم، والسبب الحقيقي مازال مجهولًا لديهم، ليقطع عليهم كل هذه الشكوك رنين الهاتف، ليصبح الصراخ من نصيب والدتها هذه المرة، وركضت مسرعة إلى الخارج، ولحقت بها ابنتيها، لم ينتبهوا إلى الباب خلفهم، تركوه مفتوحًا، ليُغلقه من خلفه، وهو يعتذر منها فى حزن قائلًا:
-سامحيني يا نور أرجوك، سامحيني، فكم كنت ضعيفًا، ولم أستطع حمايتك، سامحيني على كل ليلة مرت من دونك، وتسببت فيها بالألم لسوانا، تعلمين بأني والله أحبك، ولم أعد حقًا أقوى على العيش من دونك.
ذهب إليها إبراهيم في الوقت المناسب، قُرت عيناها عند رؤيته، وبدأت تهدأ، ولوهلة تناست كليةً ما حدث بالماضي، لتتبدل نظرتها عند رؤية قميصه ملطخًا بالدماء، فارتعبت من منظره، وانهارت ثانية.
-لا تقلقي يا نور، أنا بخير، فهذه الدماء ليس بدمائي.
ظن بأنها قلقت عليه، ولكن انهيارها لم يكن لأجله؛ بل خوفًا على والدها، هذا المشهد يوحي بأن الأمر جلل، وقلبها يُحدثها بأنه لن يكون هناك لقاء بينهما بعد هذه الحادثة، وما أسوأه من شعور يفتك بالمرء، حين يرى أحبائه يُعانون، ويقف عاجزًا حتى عن النطق، فتلحق به الظنون من كل اتجاه، يُصدرون عليهم مختلف الأحكام تبعا لأهوائهم.
-تحدثي يا نور، قولي أي شيء أرجوكِ، أ لهذه الدرجة أصبحت تكرهينني، ولا تريدين الحديث معي؟
في المستشفى ….
-زوجي حبيبي، محمد أين أنت يا شريك العمر؟
السيدة سمية منهارة في البكاء، تتخبط هنا وهناك، تبحث عن زوجها في الأرجاء، سقطت أكثر من مرة، وتساعدها بناتها على النهوض، ينزف جرحها على الملأ أمام الجميع، فكم عانت هي وزوجها هذه الفترة، ولم تدع لهم الهموم مجالًا للتنفس بسلام، فجاءت هذه الحادثة لتُكمل عليهم، ولكن هذه المرة سيقع الحمل على عاتقها وحدها، فخارت قواها، وسقطت مغشيًا عليها.
-أمي، أمي، انهضي أرجوكِ، ماذا حدث معكِ؟
تبكي هدى في خوف، تربت بأناملها الصغيرة على وجه والدتها، تظنها نائمة، وتحاول أن تُوقظها، ولكنها هذه المرة لا تستجيب كما اعتادت أن تفعل معها، وينتهي الأمر بمزاح بينهما، فكم كانت تحب أن توقظها ابنتها، ولكنها هذه المرة لا تشعر بأي شيء.
-تعالي هنا يا هدى، دعيها أرجوكِ.
تتشبث هدى بوالدتها كالغريق، يتعلق في كومة القش، ويرى فيها نجاته، فأنىٰ لها أن تعيش دونها؟، وهي تعني لها كل شيء، وكلما أخذتها فريدة بعيدًا عنها؛ لتتمكن الممرضات من إسعافها، ارتمت هدى في أحضانها، لتحول بينهم وبين نقلها، فحملتها فريدة عنوة، ثم لحقت بهم.
قبل الحادثة بشهر….
-أين سنذهب يا محمد؟، لا حول ولا قوة إلا بالله، بم أخطأنا في حقهم؛ ليطردونا بهذه الطريقة؟
وجدت العبرات طريقها في التدفق من عينيها، تبكي الأيام والسنين التي شهدوها في هذا المنزل، والذكريات التي عبقت رائحتها في الأركان، ولم يكن هينًا عليهم الانتقال إليه؛ لتضطر على مضض إلى مغادرته كما حدث من قبل، تُعيد عليها ذاكرتها الأحداث، أخذت زوجها ورحلت مع بناتها، تاركة خلفها كل شيء؛ تودع أملاكها وتسكن بالإيجار كغيرها، فقد كادت تفقد زوجها.
-ابتعدي عن طريقي يا سمية، دعيني لأُريه مقامه، كيف يسيء إليكِ بذلك الشكل؟
تقف السيدة سمية أمام زوجها، تمنعه من الذهاب إلى الخارج، حيث يقف أخيه في انتظاره، يحمل السكين، يريد أن يُنهي حياته، ينازعه على الميراث، يقذف زوجته بمختلف السباب؛ ليُثير استفزازه، فيتقاتلا، وينتهي المطاف بأحدهم صريع والآخر خلف القضبان.
-اخرج أيها الجبان من مخبئك، وتعال هنا وواجهني.
يضحك أخيه فتحي باستهزاء منه أمام شقته، يحد سن السكين، وتقف جواره زوجته التي تُشجعه على قتال أخيه، فهي الأفعي التي بثت سمها على العائلة منذ دخولها إليها، تزرع الحقد والضغينة بداخل قلب زوجها على أخيه، تريد أن تستأثر بالبيت وحدها، فهي أم الرجال، ولم تنجب زوجة أخيه سوى الفتيات، فكانت تفتخر بذلك، وتعايرهم بالبنات، ولأجل ذلك ترى بأنه لا حق لهم في الميراث.
تعلو صرخات السيدة سمية، تستغيث بالجيران، وتتصل ابنتها الكبرى على أعمامها، ولكن دون جدوى، فما من مجيب، تخلى عنهم الجميع، وتركوهم وسط النيران وحدهم، لا قريب أو بعيد يحاول أن يساعدهم، لتضيق عليهم الأركان بما رحبت، لم يدعوا لها خيار قط سوى المغادرة رغم قصر ذات اليد، فزوجها هو العائل الوحيد لأسرتها، لترجوه من بين دموعها قائلة:
-أرجوك يا محمد، تعال معي لنرحل من هنا، لم يعد لنا مكانًا بينهم.
محمد في استنكار:
-وأين نذهب؟، هل تريدين مني أن أترك بيتي؟، وأسكن بالإيجار عند كل من هب ودب، لا، لن أفعل ذلك أبدًا.
-لأجل بناتك يا محمد، فكيف يكون حالهم إن أصابك مكروهًا؟، وقد رأيت الآن بنفسك بأنه ما من سند لهم، فلمن تتركنا يا محمد؟، والذئاب حولنا من كل اتجاه.
لامست كلماتها شغاف قلبه، فاستجاب لطلبها، رحل عن بيت والدايه، وانتقل للسكن في أحد البيوت بالإيجار، لتبدأ معاناة أخرى، لم تكن في الحسبان قط.
-لو رأيت خدش مسمار في الجدران، لن تبقى في الشقة ليوم واحد.
كلمات لم يُفكر صاحبها في وقعها قط، فكان تأثيرها كالسيف الحامي، يخدش في ندباتهم المزيد من الجروح، ضربات الحياة تسقط فوق رؤوسهم الواحدة تلو الأخرى، وشعور أليم يفتك بالمرء حين يكون لديه أملاكه، ويتحكم فيه الآخرين كيفما شاءوا.
الأستاذ محمد في حزن، يُقرأ في ملامحه قبل كلماته:
-لقد أخبرتك من قبل يا سمية بأننا والله لو خرجنا من بيتنا، لن يرحمنا أحد قط، وسترى من أصناف العذاب ويلات ويلات.
لتُجيبه في ألم:
-وما الفارق يا محمد؟، فلقد أكل فينا القريب، واستباح دمائنا، فلا ملامة إذن على الغريب.
ألجمت كلماتها لسانه، فلم ينبس ببنت شفه، يبث شكواه لله، فهو يعلم بأن ألمها ليس بأقل حالًا منه، فكل شيء متصل بينهما.
يحمل العم محمد الهم فوق كاهله، ويسير بثقل، فهو لا يعرف أين يذهب بعائلته؟، صاحب العمارة يريد شقته، وطلب منه تركها في أقرب وقت، الأمر الذي لم يكن بالحسبان، وخاصة بأنه لن يُفكر قط في الرجوع إلى شقته، الأذى الذي تعرضوا له لم يكن هينًا؛ لتُغلق كل الأبواب في وجهه دفعة واحدة.