111111111

قلوب نبضت لأجل الحب, وتعلقت ضرباتها بأسسمائهم, لم تحتمل حبيبت السيد كما أطلقت على نفسها, وأخفت عن الجميع اسمها الحقيقي, كانت تتعمد في ذلك إغاظة محمد كما أوهمها بذلك عقلها, فهو لم يحبها قط, وبدأت قصته الحقيقيق مع سمية مع أول نظرة وقعت عيناه عليها, نفذت من خلالها سهام الحب إلى قلبه مباشرة, فسلبت منه سكينته واطمئنانه, وأصبح عقله لا يُفكر في أي شيء سواها, يطلبها في كل حركة, ويدعو الله بها في كل سكنة حتى أصبحت أميرة في عرض بيته ما بين طرفة عين وانتباهتها, تتذكر ليلة زفافهما, وكيف كان سعيدًا بها؟, رغم كونها أمام الآخرين فاقدة للحياة, إلا أنها كانت تتغذي من نبض الذكريات, فترتسم ابتسامة هزيلة على ثغرها وسط قسمات وجه متعب وعين منتفخة من أثر البكاء, ولعل تلك الذكرى مرت بها رحمة من رب العالمين, كل شيء حي أمامها, ينبض بالحياة, لدرجة جعلها تتمنى لو كانت تحيا في ذلك الزمن, ولم يصل بها العمر إلى هنا, لتشهد هذه اللحظات القاسية غير القابلة للاحتمال.
ـ حبيبتي سمية, هل أنتِ معي حقًا أم أنا أتوهم؟, فكم من ليال وأيام مرت علي قاسية بدونك, وكنت أستيقظ فيها فزعًا من عدم وجودك جواري, فوقفت فيها بين يدي الله أدعوه بالقرب, والحمد لله قُرت عيني بالاستجابة.
يُقبل يديها, ويحتضنها بكفوف يديه, لم يكن بالأمر السهل بالنسبة إليه هذه الضمة, فلقد كان محفوفًا بالصعاب, واجتهد العم حسين لتصعيب الأمور عليه حين علم بقصته, وخاصة حين تناهى إلى سمعه رفض أخواته الاعتراف به, فخشي على مستقبل ابنته, إلا أن إصرار محمد جعله يلين, ويوافق على طلبه خاصة بعد تنفيذه لكل الشروط التي حاول قدر الإمكان أن تكون تعجيزية, إلا أن الحب يصنع المعجزات, ليظفر بحبيبته التي لا عيش له دونها.
تربت سمية على يديه في حنان, وتقول له في لطف:
ـ أنا معك يا حبيبي, جوارك هنا, فما من داعٍ لتعكير مزاجك, والتفكير فيما يُزعجك, دعنا فقط في لحظتنا الحالية, ولنرمي الماضي بكل قسوته خلف ظهرنا.
كانت ليلة لا تُنتسى خلال رحلة العمر, لا يكون في مثل سعادة الحبيب أي إنسان, وكأنه حقًا يُرفرف بجناحين, لا تُلامس قدميه الأرض, بل تطير حتى تكاد تبلغ عنان السماء، سريعة في مرورها كغير سابقيها، فريدة في وجودها، عجيبة في فيض المشاعر التي تتدفق خلالها، وإحساس لأول مرة يغزو المرء، وكانت النقيض من ذلك في قلوب الحاقدين، فتلك المرأة التي تحبه كانت تشتغل اشتعالًا، ولا يوجد ما يُطفئها حتى الماء بذاته فقد كل خواصه أمامها، تثور كالبركان الخامل بعد مرور العديد من السنوات، فرغم كل محاولاتها لإيقاف تلك الزيجة، لم تنل أبدًا مبتغاها، تتوعده بكل تدمير سيحل بحياته، لن تتراجع حتى يدفع ثمن ذلك الفؤاد المفتت إلى أشلاء، وإن لم يكن ذنبه، هي أيضًا ليست بمذنبة، فلا سلطان للمرء على أمور القلب، يختار من يشاء، ويُسكن بداخله ما يريده هو، ومرت الأيام على عجل؛ لتوفي بنذرها، إلا أنها لم تحتمل رؤيته بذلك الشكل بين الحياة والموت، ساقتها قدماها إليه، تبكي بحرقة، وهي تقف أمامه، وتطلب السماح قائلة:
- سامحني يا محمد أرجوك، أقسم لك بأني لم أقصد إيذائك، فقط أردتك أن تشعر بذلك الإحساس الذي آلمني طوال هذه السنوات، فكم هو قاسٍ أن تتعرض للرفض من أحب الأشخاص إلى قلبك، وتجد نفسه طريدًا، يغزوك الشرود من كل اتجاه، وتضيق عليك كل الأركان بما رحبت؛ فلا يعد يسعك شيء ولو كنت في أوسع الأماكن على الإطلاق، فكان ذلك البيت الفسيح الذي أخذته عنوة من والدتك، وماتت كمدًا على إثر ذلك، أضيق ما يكون من القبر بالنسبة لي، فيا ليتني مت قبل تلك الزيجة التي دمرتني بشكل كامل، ولا أتحدث هنا عنك؛ بل عني.
تنهار في البكاء أكثر، فتُقاطعها شهقات البكاء، ولكن تُصر أن تُكمل قائلة:
- عد يا محمود إلي أرجوك، فذلك الشخص الذي تزوجته لم يكن بإنسان أبدًا، حتى وإن كان أخوك، فلا مجال للتسوية أبدًا، أنت في السماء وهي في أسفل الأرض، كالشياطين هو لا يعرف حدود للشر أبدًا، فإن كانت هي حية، هو السم الذي يسير في جسدها، ينتظر مني فقط الإشارة، ويفعل بعد ذلك أسوأ ما يمكن تخيله.
تأتي الممرضة، فتتعجب وقوفها بالقرب منه، تتسائل في استنكار عمن هي؟، ومن الذي سمح لها بالدخول إلى هنا؟، ولكن لعل لغة المال هي من تحدثت في ذلك الشأن، ليس من شيء غريب عليها، وإن كانت لا تستطيع كسر كل القيود، إلا أنها تقدر على أغلبها؛ فركضت إلى الخارج، ولم تستطع الممرضة أن توقفها، واصطدمت بالعم قدري بالخارج، جاء لأجل حبيبه وقرة عينه، التي كان من خلالها ينفذ النور إليه، اتشحت الحياة بالسواد، ويتوقف إضاءتها على انعكاس نظرة من عينيه، التقت عينيه بها في صمت، لم تجرؤ على الحديث معه، فماذا تقول له، وهم لم يروا سوى الشر منذ قدومها، خانت العشرة، ولم تتذكر المعروف الذي فعله معها بعد وفاة والديها، يشعر بالأسى، يرى نفسه مشترك في الجرم، حتى وإن كان دون قصد منه، لم يتخيل بأن تلك الأفعى قد نشأت في كنفه منذ صغرها، فكان هو أول من تأذى بسمومها.

- توقفي.
قالها العم قدري على آخر لحظة، كادت أن تصعد في السيارة التي ستنطلق بها مسرعة كما آمرت سائقها، لا تريد أن تبقى هنا أكثر من ذلك، تشعر بالندم الشديد على مجيئها هنا، لم يكن يفترض بها فعل ذلك، وهي الهانم ذات السلطة والمال، كيف تتنازل عن مقامها؟، وتنزل إلى هذا المستوى.
- أ لن تقولي شيئًا يا حبيبت السيد؟، ولا إنتِ حبيبة شخص تاني.
يقولها العم قدري في استهزاء، لتُحدجه في نظرة نارية، وتنهره قائلة:
- الزم حدودك يا عم، وإلا جعل سائقي يُريك مقامك.
- عم!، ويريني مقامي!
قالها في استنكار، فهو من قام بتربيتها، وكان أول يد قامت بعضَها، تنهش في أحبائه الواحد تلو الآخر دون رحمة.
- يبدو بأنك قد خرفت، والشيخوخة نالت نصيبها منك، ماذا تريد مني؟، أخبرني الآن، فوقتي ثمين للغاية، ولا يتسع للخرف من أمثالك.
- أمثالي وخرف!
ترقرقت العبرات في عينيه عند سماع كلماتها، لم يتخيل أن الجحود قد وصل بها إلى ذلك الشكل، ولكن مم يتعجب؟، أ لم تكن هي من تسببت في موت سيدة البيت كمدًا، وطردتها من منزلها قهرًا، فلم تحتمل الحياة من بعدها، وفاضت الروح الطاهرة إلى بارئها، تلحق بزوجها، جمعتها الحياة ولم يفرق الموت بينهما طويلًا، فالأفعى بثت سمها بعد موت الزوج بأشهر قليلة، ليصبح كل شيء تحت طوعها، يسير خلفها ابن العائلة كالجرو، لا إرادة له ولا اختيار، يفعل كما يطلب منه صاحبه.
تركها العم قدري، وغادر، وفي الطريق إلى الغرفة، قابل هدى تبحث عن أختيها في قلق، وتُخبره في ذعر بما حدث لها، ليضمها العم قدري إلى صدره، ويحملها بين يديه، ويسير بها بحثًا عنهم، يشعر بالآسف الشديد حيالهم، فهم بمثابة أحفاده، وإن رحل جدهم، كبر أبيهم بين يديه، يروي عطشها بفيض الحنان الذي حُرمت منه على عجل، لم تشبع من والديها، لتفتك بهم الحياة بذلك الشكل، ويتدمر شمل الأسرة، باع أعمامها ضميرهم واتحدوا مع الشيطان، فسهيلة ليست بأختهم الشرعية، تناسوا فضل والدها الذي لولا ثروته لما أصبح لهم بيت أبدًا.
- لا تحزني حبيبتي هدى، سيعود لنا بابا سالمًا، ولن يهون على ماما أن تُغادرنا، فكلا منهما متصل بالآخر، ولن يلحق أي ضرر بأختيك، فأنا هنا معكن.
كان العم قدري يتقوقع على نفسه داخل غرفته، لا يُغادر منزله قط، عاد إلى تلك القرية التي جاء منها، ويا ليته ما تركها، لما حدث كل ما جرى، فقد كانت مرتبطة بذهابه من هنا، ولكن لم يعد يحتمل أكثر وخاصة بعد علمه بما حدث لولده، وسوء حالته، فقد سئم الأطباء منها، وتمر عليه اللحظات معدودة، سيتولى هو أمر عائلته كما فعل معه، وليكن الله في عونهم.
- هل أنتِ بخير؟
يسأل كريم فريدة في قلق، فقد تبدلت نظراتها إليه، وسادهما الحزن العميق يراه جليًا في بؤبؤ عينيها، تنعكس على ملامحها، فبدت كالوردة الذابلة، وكأن ما وصل إليها أطفأ ما تبقى من ضوء، جلب حضوره النور إلى حياتها منذ اللحظة الأولى كحال والدها مع أمها، يبدو بأنه أمر متوارث في العائلة، ليضحك منها كريم في مزح قائلًا:
- هل تظنين بأن نظرتي التشاؤمية للحب من تجربتي الشخصية؟، لن أكذب عليكِ وأقول لا، ولكنه كان أبي، وأمي من تجرعت من كأس ظلمه، ودفعت أنا ثمن هجرانه لها، لم تحتمل الحياة من بعده، لأصبح يتيمًا، وأبي ما زال على قيد الحياة.
انفرجت أسارير فريدة، ولم تستطع أن تخفي شعورها عنه، أو تتحكم في تعابيرها حتى رغم كم الألم الذي يستوطن داخلها حزنًا على عائلتها، إلا أنها فرحت بشدة عند وقوع تلك الكلمات على مسامعها، إذن ستكون هي حبه الأول، وإن لم تنضج بعد أو تعرف كيف تسميه حبًا؟، إلا أنها مسرورة، وعصافير الفرح تطرب بقلبها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي