111111

صوت صراخ وعويل يهز أرجاء المستشفى، طار إلى سهيلة الخبر المشئوم مجرد ما وطأت بقدميها هناك، ظهر الأقارب والأصدقاء الآن بعد وفاة العم حسن، جاءوا لأجل الميراث، وهو قد أغلق عليهم كل الأبواب، لم يترك لهم مجالًا للتمتع في خيراته بعد ما فعلوه معه، تركوه وحيدًا مع ابنته طوال هذه السنوات، ولم يجد منهم سؤالا قط، أو سندًا جوار ابنته، يعينها على هذه الشدة، فكان ذلك الغريب طوق النجاة الوحيد أمامه، يسأله المحامي في استنكار، لحسن الحظ كان يعرفه من قبل، وذلك الاسم الذي يريد نقل كامل أملاكه إليه، لا صلة تربطه به، إلا أن العم حسن حلفه بالعشرة، والأيام الطيبة التي جمعتهما، فقد كانا خير رفقة منذ الصغر، واستعطف الطبيب ليكون حاضرًا، ذلك النوع من العائلات لم يعد غريبًا علينا هذه الأيام، فقد انهدت الأواصر وانقطعت الروابط، ولم يعد الأخ يُبالي بشأن أخيه، يسأله المحامي فريد للمرة الأخيرة:
- هل أنت متأكد يا حسن؟، هذا الشخص غريب عنك، وقد يأخذ كل ما قد تملكه ابنتي.
حسن في ضعف:
- ليأخذ ما يشاء أهون علينا من الدخول في صراع مع أقاربها، أعلم بأنهم لن يرحمونها قط، ولم أذق من العشم به سوى المرض، كان لهم يد فيما وصلت إليه حالتي.
- لكن
يحاول المحامي أن يمنعه، ولكن دون جدوى، فقد أخذ العم حسن قراره، والفقر بالنسبة إليه أهون من الحقد والغيرة والخداع وغيرها من الويلات التي ستحل بابنته إن ترك لها شيئًا، فذلك الشخص أرسله الله إليها في الوقت المناسب، سيودعها بين يديه، وكله رجاء ألا يكون قد أخطأ، ويخيب ظن ابنته، فكم قاسى من هذه الأمور طوال حياته، قتله العشم في المقربين، ما من أحد يشعر بحاله، وكلما توقع شيئًا أصابوه بخيبة الأمل.
- أبي، أبي، انهض أرجوك، لا تدعني يا حبيب، فأنت سندي وظلي، وما لي سواك مُعين على قسوة الأيام.
تبكي سهيلة والدها بحرقة، ضاقت الحياة في أعينها، وفقد كل شيء بريقه، تعاهدا على السير معًا، فلمَّ تراجع الآن؟، عليه أن يعود ليأخذها معه ثم ليفعل ما يشاء، ترجوه وهي تستغيث من ظلم الحياة، تُظهر لها الوجه الخشب، ولم ترى منها أبدًا الابتسام، ولطالما صبرت على الأذى، واحتملت كل شيء دون دمعة واحدة، ما دام والدها بالجوار حتى سقط وغدر به المرض هذه المرة، يأخذه منها دون استئذان.
- هوني عليكِ يا سهيلة، إنا لله وإنا إليه لراجعون، الله يرحمه ويغفر له يارب ويرزقه الفردوس الأعلى من الجنة.
تنهار سهيلة بين أحضانها، لا والله هذا ليس بصحيح، لم يمت والدها، ما زال صغيرًا على الموت، ولن تسمح للموت أن يخطفه منها.
تضرب بشدة على صدره تاركة أحضانها، فهو والله إن رحل، لن يسعها أي حضن آخر، لم تر الحنان قط إلا بين ذراعيه، رفضت الزواج لأجله، وزهدت الحب، ما بال الحياة قد أقسمت ألا ارحمها بذلك الشكل.
- عد يا أبي أرجوك، وأقسم لك بأنني سأفعل أي شيء تريده، فما لي دونك من أحد، ولقد آلمني قلبي من الحزن، عد والله ولن أفعل شيئًا يُزعجك، ويشهد الله بأنني لم أفعلها قط.
- تعالي إلى هنا يا سهيلة، اهدأي يا بنت، فأنتِ لست بصغيرة على هذا الشيء.
ينهرها قريبها في قوة، لا يراعي الموقف أو يصله شعورها، وكيف له أن يفعل ذلك؟، وهو شخص جاحد، لم يسأل عليه قط، متبلد الشعور، فاضت روح قريبه الطاهرة إلى بارئها، لم يهتز له طرفًا أو ينعكس على وجهه أي مسحة حزن، ولو على سبيل التمثيل، فكان كمن صمت دهرًا ونطق صخرًا، لم يواسيها أو يدعو لفقيده بالرحمة، لينظر له الجميع في استنكار وهو يسأل عن الوصية.
- الوصية!، اخرج من هنا، واذهبوا جميعًا، هذا ما جئتم لأجله إذن، فنحن والله لم نر أحد منكم قط قبل اليوم، وبعد ما مات جئتم لأجل الحصول على أمواله.
قالت كلماتها الأخيرة في انفعال واضح، تجتاحها مشاعر قاسية ثم سقطت مغشيًا عليها، ولم تعد تشعر بشيء.
- كان الله في عونها يا إبراهيم، لا أصدق بأن هؤلاء الأشخاص أقرباء لها، يتركونها وسط التيار ويؤذونها بذلك الشكل.
- لا أدري ماذا أقول يا زينب؟، فكم شعرت بالحزن الشديد عليها، ولو كان الأمر بيدي لأخذتها معنا، ولما تركتها وسط الذئاب المسعورة أبدًا، رغم كوننا لا نعرفها، إلا أنني والله يؤلمني رؤيتها بذلك الشكل، كيف يرضى الإنسان بالأذى لأخيه؟، ويقف متفرجًا هكذا، لا يمتلكون ذرة إحساس حتى.
عادت هي وزوجها إلى بيتهم مثقلين بالهموم، يشعرون بالحزن على جارتهم، ولا يدرون ماذا يفعلون حيالها؟، قلوبهم تدمي حزنًا قبل أعينهم، ولسان حالهم يدعو لها بالسلامة.
تضرب الحياة بقوتها، وتتكرر الحكاية مع اختلاف الأزمان، حالة سهيلة لا يختلف كثيرًا عن نور، فهي أيضًا جرفتها الحياة نحو منعطف هاو، ولا تعرف أين تذهب؟، تقف أختها فريدة أمامه، تشعر بالحزن الشديد نحوه، نظرات القلق مع الخوف تنطلق من عينيها تجاهه، تقول له في آسف:
- هل أنت بخير؟
ترتعش بشدة ولا تقوى على النطق، ليربت عليها بدفء كلماته قائلًا:
- أنا بخير، اهدأي أرجوكِ، ما من داعٍ للقلق.
بدأت ملامحها تستكين، وهدأت معالمها، وخاصة مع نظراته لها المليئة بالحب والحنان، يُذكرها بوالدها، فكم افتقدت إليه، ولم تشعر بنفسها إلا والدموع تُغرق وجنتيها من الحزن، يعصف بها من كل اتجاه، يسألها عن عائلتها، ولماذا كانت تركض بهذه الطريقة خلف أختها؟، فأجابته من بين دموعها قائلة:
- أبي محجوز هنا في المستشفى، حالته خطيرة للغاية، ادعٍ الله له.
- سيكون بخير لا تقلقي يا ..
- فريدة، اسمي فريدة.
- جميل هو اسمك كاسم على مسمى يبدو، أنتِ حقا فريدة، جئت للاطمئنان على غريب مثلي في زمن لا يسأل فيه المرء على أخيه، ولا يذكره بالخير حتى، لا يقف جواره، ولا يترك الفرصة للغير كي يفعل.
كم هي صادقة كلماته، لامست شغاف قلبها، وكأنه يتحدث عنهم، لم يكف عمها عن إيذاء والدها بكل الطرق حتى خشي الجميع من تقديم يد المساعدة له، يحتدم الشجار بينهما ويصل إلى ضرب مبرح ولا يجرؤ أي امرؤ على التدخل بينهما؛ ولولا صراخ والدتها، تستغيث بالجيران وتُحيي المروءة داخل القلوب، لفقدوا والدها منذ زمن بعيد، ولأجل ذلك رحلت معه إلى غير مكان، تاركين كل شيء خلفهم، فهو يعني لها الحياة، ودونه لا تطيب أبدًا، ولأجل ذلك لم تحتمل الصدمة، ولا يكفون عن حقنها بالمهدئات داخل المشفى.
- أين تقيمون إذن؟، ومن الذي يقف جواركم في هذه المحنة؟
فريدة في أسى:
- لا أحد، يشملنا لطف الله وأختنا الكبرى لا تتركنا.
لم يتعجب الشاب مما سمعه، ليس هناك من أمر عجيب هذه الأيام، واتصل شعوره بها، فهل من المعقول بأن الأخت الكبرى قد تتخلى عنهم كتلك القصص المشئومة من حولنا؛ ليسألها في استياء:
- أين هي إذن؟، ولمَّ تترككم هنا بذلك الشكل؟، هل هي متزوجة؟، ويرفض زوجها أن تنتقلوا للعيش معها.
تهز فريدة رأسها في نفي، تدافع عنها قائلة:
- لا، هي ليست متزوجة، وتقيم معنا بداخل المستشفى.
ولم تشعر فريدة بنفسها، وأخذت تنقل له حكايتها، وهو يستمع إليها بإنصات، وتتبدل معالمه ما بين الحزن والأسف، يجدر بقصتها أن تكون فيلم أو مسلسل تراجيدي، لا يكون من السهل العودة بالذاكرة إلى الماضي، وخاصة إن حمل بين براثنه الوجع والألم، ساءت حالة نور، وذهبت بها والدتها إلى أحد العيادات النفسية، حيث أخبرها الطبيب بأن تلك الأعراض التي تذكرها ما هي إلا إشارة عن وجود اكتئاب حاد، نور بعد فسخ خطبتها أصبحت مغيبة ولا تشعر بالحياة، تتحدث معها وكأنك تتحدث في الفراغ، ما من استجابة لما تقوله أو رد فعل حتى، لا وجود لها وكأن الروح قد انفصلت عن الجسد، تعيش حالة إنكار، ما زال إبراهيم معها، لم يُغادرها قط أو ينفصلا للحظة.
تحمل هاتفها بين يديها، وتكتب له مختلف الرسائل كما كانت تفعل، وتشكو إليه ما قاله الطبيب لها، فهي بخير وإن كذبها الجميع، يكفي بأنه يُصدقها، ويهون عليها وجوده؛ لتصطدم باختفاء صورته وعدم ظهور أي معالم توحي بأنه ما زال هنا، إذن فهذا هو الواقع الأليم، تخلى عنها إبراهيم، ووافق على قرارها، لم يلومها أو يتخذ أي رد فعل حتى، أ لهذه الدرجة لم تفرق معه؟، وتلك السنوات من أعمارهم التي قضوها معًا ضاعت هباءً، لتصبح كأي علاقة عابرة ولم يمض عليها أيام.
- اهدأي يا نور، الله يعوض عليكِ يا حبيبتي.
- وكيف ذلك يا أمي!، وعقلي لا يكف عن التفكير فيه، إبراهيم ما زال بداخلي حتى وإن رحل بعيدًا، قلبي يشعر به؛ بل ينبض بوجوده، فلمَّ خذلني وترك هذا القلب الذي أحبه أكثر من ذاته.
تمر الأيام بثقل، والليالي تأبى السير، فأعطاها الطبيب مهدئات، وأصبحت عيناها لا تغفل دون أخذ المنوم، ليتبدل الحال، ويمضي الوقت على عجل، وتدور الحياة بسرعة، عام كامل على هذا الحال حتى بدأت نور تستوعب ما حدث معها؛ بل تتقبله ومنذ حينها لم تثق بالحب ثانية، وأغلقت كل الأبواب في وجهه.
في الشركة..
شاب في منتصف العشرينات، قمحي اللون على وجهه مسحة حزن، لم تُخف معالمه أو تنقص من جماله شيئًا، يبدو كممثلين الأفلام خاصةً مع هيئة جسده، عريض المنكبين، مفتول العضلات، يقضي أغلب أوقاته في الجيم، وكأنه يهرب من شيء أو يتناسى همه، وترى ذلك الأمر عند الحديث معه، يُنادي عليه العم محمد منذ زمن، أصبح الشرود مُلازمه، ولا يغادر الألم نبرة صوته، أ لهذه الدرجة لا يمكنه نسيانها؟، وهل تأخر في اكتشاف مكانتها لديه؟، لم يتخيل قط بأن حاله سيصبح هكذا بعد فراقها، يتأمل صورتها عبر الهاتف الذي يحمله، ويُكبرها قائلا:
- لمَّ تركتني يا نور؟، لمَّ لم تُمهليني لأشرح لكِ؟، لمَّ انخدعتِ بالظاهر؟
وبينما هو يتحدث، تخيلها تُجيبه قائلة:
- عن أي ظاهر تتحدث يا إبراهيم؟، وأنت لم تحترمني أو تراعي شعوري قط، تتصور مع هذه وتحتفل بهذه، وتتحدث مع الكثيرات وكنت أنا بالنسبة إليك على الهامش، بل شماعة تُعلق عليها ما تبقى لديك من مشاعر، فأنت تضمن وجودها، لمَّ فعلت ذلك معي؟، وأنا والله لا أستحق ذلك منك.
- أستاذ إبراهيم، يا أستاذ، إبراهيم بيه، أستاذنا.
يحاول العم محمد ثانية، يُناديه بمختلف الأسماء، وما زال على نفس الحالة، ليسأله في يأس قائلا:
- ما اسمها؟
فأجابه الآخر في عفوية:
- نور.
- أ لهذه الدرجة تحبها؟
- أي درجة، أنا تائه دونها.
- لمَّ تركتها إذن؟
- والله لم أتركها، هي التي بادرت بالفراق.
- ولمَّ لم تتمسك بها؟
لم يعرف إبراهيم بما يُجيبه، فعاد إلى الصمت ثانية؛ ليُخرجه الآخر منه قائلًا:
- لمَّ لم تُعيدها؟
إبراهيم في استنكار:
- أُعيدها.
وفي هذه اللحظة التفت إليه، عاد إلى رشده عند سماع آخر جملة، وإن لم يشعر بنفسه في البداية، وتدرج معه في الحديث، إلا أنه استطاع بكلماته أن يفتح منافذ للأمل، تُنير قلبه، وتمسح عن ضلوعه اليأس، هذا العام مر قاسيًا على كلاهما، وإن لم يعرف أحدهم شيئًا عن الآخر، إلا أن حاله تبدل بعد هذا الحديث، وبدأ يمارس حياته بطبيعية على أمل اللقاء، وتشبث بقيام الليل بعد سماعه بما يصنعه، فكم من معجزات تحققت بسببه، وجاءته الإستجابة على عجل، جمعه بها القدر مرة ثانية، ولن يؤل جهدًا كي يُصلح ما أفسده من قبل، يذهب يوميًا للاطمئنان على حالة والدها، ويأتي بالحلوى لهدى، ويدفع باقي الإيجار دون علم نور، اتفق مع صاحب البيت، الذي أوشك قبل مجيئه على رمي أثاثهم في الشارع، ولم يطلب منهم السماح لهم بالعودة إلى الشقة التي كانوا يقيمون فيها؛ كي لا ينكشف ما يفعله، فإيجار المكان الذي يضعون فيه الأثاث لن يكون كإيجار الشقة، فتحمل إبراهيم ذلك الأمر على مضض، لا يهون عليه بقائهم داخل المستشفى وكذلك بغض فريدة الشديد له جعله يحذر في كل خطوة يخطوها، فقد كانت شاهدة على معاناة نور، وإن لم يكن بإمكانه فهم السبب الحقيقي، هو لم يؤذيها قط، ولكن معاناة الإخوة متصلة، وعلمهم والديهم حب بعضهم البعض، والوقوف معًا والتكاتف، ليس لهم من معين سوى أنفسهم، وزرعوا بداخلهم المحبة كأغلى ميراث لهم، فقد رأوا ما فعلته الأموال بالبشر، ولم يسلم الكثير من الإخوة من شرورها، فكانت السبب الرئيسي في فرقتهم ونزاعهم.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي