11111111

نور الوَضَح يُزين الليل, وإبراهيم ما زال في مكتبه, لم يشعر بمرور الوقت, الغرفة مُظلمة بالكامل, وما من إشارة بأن أحد بداخلها, فظن العم محمد بأن الجميع قد رحلوا, وذهب لغلق الباب ورائهم, ففوجئ به, يجلس وحده, ولا يحرك ساكنًا أبدَا, فانتابه القلق عليه, وهرول باتجاهه, يهزه في خوف قائلًا:
ـ إبراهيم, ما بك يا بني؟, هل أنت بخير؟
تبخرت الألقاب, وتناسى المقامات ـ وإن كانوا من وحي عجرفتنا ـ فنحن بشر, ولن ينقص منا شيء إن نادانا أحدهم بدون ذكر للألقاب, وخاصة عند القلق, ليصطدم البعض برد فعل مبالغ فيه في المواصلات والأماكن العامة عند طلب المساعدة من البعض أو التقدم عليهم في الوقوف, يجد الآخر ينهره, ويوبخه بلستة من الألفاظ النابية, يُريه مقامه الذي هو بنفسه جعله ينحدر حين قذفه بالسباب, ولحسن الحظ لم يكن إبراهيم منهم, ليُعيد العم محمد السؤال بشكل آخر قائلًا:
ـ ما هو اسمها يا بني؟
إبراهيم في عفوية:
ـ نور.
ـ نور, يا له من اسم جميل, ويبدو بأنها حقًا نور, فقد سيطر الظلام على ما حولك بغيابها.
ـ نعم كانت بمثابة النور, ولكوني لا أستحقه, غابت عني وأخذت كل جميل.
ـ طالما هي كذلك, لمَ لا تعود إليها يا بني؟
ـ وكيف أعود إليها؟, وأنا حتى الآن لا أصدق أني هنت عليها بهذا الشكل, بادرتني بالفراق, ورغم ذلك لم تُغادر داخلي قط.
يسأله إبراهيم في حدة, فاستوعب العم محمد سبب ردة الفعل تلك, ليُزيد من انفعاله أكثر قائلًا:
ـ هل يصعب عليك الاعتراف بمدى الخطأ الذي ارتكبته في حقها؟, ستظل تُكابر حتى متى؟, حتى تراها في أحضان رجل آخر أم حين تفيض الروح الطهرة إلى بارئها كمدًا, ويبقى ذنبها مُعلقًا في رقبتك, فلا تجد سبيلًا للعيش بعد ذلك أبدًا.
يلومه العم محمد, ويُعنفه بشدة, وشعر إبراهيم بالاستياء من نفسه, حتى ضاقت عليه جدران الغرفة, لم تعد تسعه كحال روحه بداخل جسده, تئن ولا تجد سبيلًا للراحة في داخله, لتندمل الجروح على الملأ, هناك قصة مخفية, تُكشف الأستار عنها الآن, ليتذكر العم محمد سحر، بل الأنين الذي لا يكف عن الصراع داخله، فقد كان الجاني في قصته هو الآخر، لا ترحمه الذاكرة أيضًا، وتعود به إلى أيام الشباب، تصرخ به سحر، وتؤكد له من بين دموعها أنه سيندم، صوت صرخاتها يقترب وكأنها معه الآن، فيتخيلها أمامه ثانية، وتدور الأحداث بنفس الوتيرة.
- ليس من شأني فأنا لم أعد أحبك، اذهبي في سبيلك وأنا في سبيلي، ولن يجمع أي شيء بيننا.
هي في استنكار:
- وذلك الحب الذي جمعنا، وأصبح له ثمرة تنبض في أحشائي الآن.
- ليس ذنبي يا سحر، فأنا لم أرغمك على شيء.
القصة المعتادة بكامل تفاصيلها تُعرض ثانية، فينتهي المطاف بالفتاة إلى التضحية بحياتها خوفًا من العار، تعلم بأن المجتمع سيحملها الذنب وحدها، ولن يرحمها قط، ويصبح الندم ملازمًا للشاب طوال حياته، وقد تدور الدائرة يومًا، وتجعله يدفع الثمن بأغلى ما لديه، وهذا ما لم يتوقعه محمد أبدًا.
- عم محمد، عم محمد، من هي التي ماتت؟، هل أصاب نور مكروهًا؟، أخبرني أرجوك.
ضربات قلبه تتسارع، ويزداد أنينها، أطبقت الحياة بكل جوانبها على صدره، فضاقت أنفاسه، وهرول مسرعًا إلى الخارج.
يخطو المسافات قفزًا، وكأنه في سباق، ورغم أنه في المقدمة لا تلوح أمامه أي بشارات للفوز، فتتدفق العبرات في عينيه، ولا يمنعها من النزول شيء، ذهب كبريائه وتكسر غروره، وبقى فقط الندم والحسرة ليكونا من نصيبه، ولا يعرف سبيلًا لتغيير ذلك القدر الذي وجد نفسه عالقًا به، وإن كان قد اشترك في ذلك، هو من أساء إليها، لم يشعر بها أو يقدرها، لتقف وحيدة في أشد الأوقات احتياجًا إليه؛ وحين لم تجده أثقلت كاهلها الصعاب، وأودت بها إلى إنهاء حياتها دون رجوع، لم يوقفها حبه، الذي ظنته زائفًا وفقدت حصنها المنيع بسقوط عائلتها، وماذا عن فريدة وهدى؟، وإن لم تبق لأجل فريدة، ماذا عن صغيرتها هدى؟، التي كبرت بين يديها، وشربت من فيض حنانها.
يُنادي بأعلى صوته باسمها حتى وصل إلى المكان المنشود، وهناك رافقته النظرات التي تخللت من خلاله، تستنكر هيئته وفعله، وعلى حين غرة سقط أرضًا حين قرت عيناه برؤياها حية، تمالك نفسه قبل أن يقترب منها، ويضمها كالطفل الصغير وجد أمه بعد غياب، ولكنه كان يعلم بأنه لو فعلها لانقطعت خيوط الرجاء أكثر.
اقتربت منه في خوف قائلة:
- إبراهيم، أنت هنا؟، ما الذي حدث؟، هل أنت بخير؟
ساد صمت طويل، والتقت الأعين نظرات ذات معنى مُحملة بالشوق مع العتاب، فكلاهما يتألم، وكانت معاناته غير قابلة للاحتمال، وإن أُخفيت عن أحدهما الآخر، ما زلت تُعالج من الاكتئاب وهو يعيش في حالة رفض لفراقها.
يأتي مديرها، تنتفخ أوداجه عند رؤيتهما يتفرس كلا منهما في ملامح الآخر، وكأنه يراه لأول مرة، فشعر بالغيظ الشديد، ما بالها تُفضل غريب عليه، وهو جوارها لا يُغادرها وكذلك هي لا تُفارق خياله قط.
فترتعب نور عند سماع صوته الغليظ، تُميزه ولو بين آلاف الأصوات، سرت قشعريرة في كامل جسدها، وتعلثمت في النطق، فلم تعرف بمَّ تُجبه؟

يقترب منها المدير في غيظ، البركان أوشك أن يثور، ليحول دون ذلك إبراهيم في حدة قائلًا:
- تحدث معي الآن، فهي لا ذنب لها وكذلك أنا لم أرتكب جرمًا حين جئت لرؤية خطيبتي.
وقعت كلماته عليه كالصاعقة، ونظرات استنكار منها له، فشعر المدير بالدوار، وكأن الأرض تتحرك من تحته، فقد أوشك على التقدم لخطبتها؛ ليصطدم بذلك الخبر الذي ضربه في شغاف قلبه دون رحمة، فغادر على عجل قبل أن يتخذ أي رد فعل يسيء إليه، ويشين متجره الذي اجتهد لرفع سمعته عاليًا، قفز داخل سيارته ثم طار كالرياح من أمامهم.
- ما هذا الذي قلته يا إبراهيم؟، ومن هي خطيبتك؟، فهمني، أ ليس كل شيء قد انتهى بيننا.
تعنفه نور في غضب، نظرات المدير لها لا تُبشر بالخير، وإن طُردت ضاع مصدر رزقها الوحيد، فمن أين ستأتي بالمال؟، يكفي ما تعرضت له من إذلال، فأعمامها ذات مراكز مرموقة، ورغم حب والدها الشديد لهم، لم يرحموه، فكم فرح بأن له إخوة، ليس وحيدًا كما ظن، فالعم قدري الذي تولى رعايته لم ينجب غيره؛ ليكتشف في النهاية بأنه ليس من صلبه، ويرى والده الحقيقي في اللحظات الأخيرة، ثم تفيض روحه الطاهرة إلى خالقها، يحاول الاقتراب منهم ويُفاجئ بتلك الضربة القاتلة منهم، وعلمت نور تلك الحقيقة المرة أثناء مرورها صدفة من أمام غرفتهم، واستمعت إلى حوارهم.
- لا دخل لك يا محمد، استمع لما أقوله يا حبيبي أرجوك، فأنت تعلم الوضع حساس بينك وبين إخوتك، لا تتدخل لأجل بناتنا.
- وكيف لا أتدخل يا سمية؟، يُريدون حرمان أختنا سهيلة من الميراث.
- ولكن سهيلة ليس بأختكم، ولا تحتاج المال، فقد كتب والدها لك الكثير.
- لا تقولي ذلك يا سمية، العلاقات لا تكون بالدم فقط، فهناك صلات أقوى وأشد كالمحبة والترابط، وكما تعلمين ليس هناك من أحن علينا منها، ما بيدها ليس لها، وبفضلها أصبح لبناتنا عمة لطيفة مثلها، لا تتكرر في هذه الحياة مرتين.
شعرت السيدة سمية بالآسف حيال ما قالته، واعتذرت من زوجها، تقف جواره كأي زوجة صالحة، وتُعينه على الصواب بعد ما قومها، فالحوار من أجمل النعم بين الزوجين، الذي أصبح معدومًا مع الآسف بينهم هذه الأيام، فتفشت الفجوة وسلك الكثيرون الطريق الخطأ.
يُعيدها إبراهيم إلى واقعها، وهو يعتذر منها:
- سامحيني يا نور أرجوك، فأنا والله لم أحتمل أن أراه ينظر إليكِ بذلك الشكل، يوشك أن يسيء إليكِ.
- لا، لن يفعلها يا إبراهيم، فإن صرخ بي، أعلم بأنه لا يستطيع إيذائي.
اجتاحت إبراهيم الغيرة عند سماع ما قالته، يسألها في حدة قائلًا:
- وكيف ذلك إذن؟، وما هذه الثقة التي أراها في عينيك لرجل غريب، ولم تنعكس لأجلي ولو لمرة واحدة؟
- لأنكم مختلفون يا إبراهيم.
إبراهيم وقد تملكه الغضب:
- وكيف ذلك إذن؟، أخبريني يا أستاذة؟، يبدو بأنه قد فاتني الكثير هنا.
- إبراهيم لا تتعد حدودك، فلا حق لك بالحديث معي هكذا.
إبراهيم وقد تحول الغضب إلى سخرية، تفوح من بين شفتيه قائلًا:
- نعم، معكِ حق، يحق للغريب ما لا يحق لي، وكأنني لم أعد الأقرب إليكِ يومًا.
- الأقرب إلي!
قالتها نور في استنكار، ثم أكملت:
- كيف تقول ذلك؟، وأنا رغم قربي منك، لم تكن تعرف شيئًا عني، كنت أنام كل ليلة والدموع تُغرق وسادتي، وأنت تلهو وتنعم.
بدأت الدفاتر تُفتح وتسرد منها حكايات لأول مرة، تُلقى على مسامعه، أ لهذه الدرجة كانت تعاني؟، وسيطر عليه الغرور والأنانية؛ فلم يشعر بها، لم يُقاطعها إبراهيم، وأخذ يستمع إليها في ألم، حيث اتصل شعوره بإحساسها الذي يراه جليًا أمامه لأول مرة، وكأنه حقًا لم يكن جوارها؛ بل في عالم آخر كان يعيش، تنهمر الدموع من عينيها، وتحرق وجنتيه هو، تتألم فيرتد معاناتها في صدره، الآن قد عرف السبب، الآن يُمكنه التصديق بأنه قد دمر الحب الذي كانت تحمله له، هزمته الحقيقة فهي مرة كما يقولون، ولم يتخيلها قط.
- اذهب من هنا يا إبراهيم، ولا تعد، فتلك الفتاة التي أحبتك لم يعد لها وجود، وانس الماضي؛ بل ما كان بيننا، فهو لم يكن بحب أبدًا.
في المستشفى..
استدعى الأطباء نور، فغادرت على عجل وتركت عملها دون تفكير؛ ليلحق بها إبراهيم، وأخيرًا قرر الأطباء شرح حالة والدها، فقد كان كاللغز الغامض أمامها، يمنعون عنه الزيارة ولا تراه إلا من خلال ذلك الحاجز الزجاجي، وكلما سألت عن وضعه لم تجد منهم إجابة تُريح ثورة عقلها، يطلب منها الطبيب التماسك فهناك نزيف داخلي لا يعرفون سببه، ولا تحتمل حالة والدها عمل منظار له، الدماء تنزل من الأسفل ولا تُجدي نفعًا أكياس الدماء، الصفائح عددها يقل وتسير الأمور في غير صالحه، دخل إلى المستشفى في حالة خطرة للغاية، وقد تسبب الحادث في إصابته بسكتة دماغية، وقد عملنا على قدم وساق لأجل مساعدته، ولكن بعد ظهور ذلك النزف الداخلي ولا نعلم سببه، يتعسر علينا وقفه، وجل ما يمكننا فعله هو تزويده بأكياس الدماء، وكان لابد لي من إخبارك بسير حالته، يوجه حديثه إلى إبراهيم في آسف قائلًا:
- اعذرني يا أستاذ إبراهيم، لم أستطع إخفاء الأمر عنها أكثر، فحالة والدها رغم كل ما نفعله وكذلك جهودك،

لا تُقصر بالمرة، وتجلب ما نحتاجه، إلا أنه الآن في عناية الله، يتغمده برحمته، ففي أي لحظة قد نف....
وقبل أن يُكمل كلمته، فوجئ بها تسقط مغشيًا عليها، لم تحتمل الصدمة، لا يقوى عقلها على استيعابها كوالدتها التي أصيبت بانهيار عصبي شديد منذ حادث زوجها، لتنتقل المسئولية بأكملها إلى نور، والآن وقد سقطت هي الأخرى، من سيتولى أمر أختيها ويراعي شئون والدايها، واليوم علمت بحقيقة ما فعله إبراهيم لأجلها، وهي منذ لحظات لم تلبث أن أساءت إليه، ولطالما رافقها الظن السيء حياله، واليوم أسكتها كليةً بمروءته وشهامته التي لم تجدها من أقربائها، تنزل الدموع بحرارة من عينيها رغم فقدانها للوعي، إلا أن شعورها ما زال حاضرًا، طردها أعمامها الواحد تلو الآخر ورفضوا مساعدتها هي وأخواتها، ومن قبل انتهى ذلك المطاف بوالدها، فلم يحتمل الصدمة مثلها، واحتوته جدران المستشفى حيث لم تعد تسعه المنازل، وأصبح مهددًا هو وأسرته، وما أقساها من شعور ذلك الذي يعصف بالأب حين يعصف به العجز من كل اتجاه، فلا قوة له ولا حيلة أمامه.
تهرول فريدة وكريم من خلفها، علمت بما حدث لأختها، وحين رأته جوارها حدجته بنظرة نارية، وصرخت به قائلة:
- ماذا تفعل هنا؟، وكيف تجرأت على القدوم إلى هنا؟، لن أتعجب إذن من رؤيتها بذلك الشكل، فهي لا تتألم سوى جوارك، ولكن لن أسمح لك بإيذائها ثانية.
يحاول إبراهيم أن يهدأها، إلا أنها لا تستجيب، وتظل تصرخ به ليخرج؛ إلا أن صُدمت كلية حين رأتها تتشبث بيديه كالطفل الصغير يضم بنان أمه، فانفلتت العبرات من عينيها سهوًا، وغادرت على عجل قبل أن يراها أحد، ولحق بها كريم.
- فريدة، فريدة، انتظري أرجوكِ.
تقف فريدة عند آخر نداء، ولكن لا تلتفت إليه، فيتقدم للوقوف أمامها، فتنهار أمامه قائلة:
- كيف استطاعت أن تُسامحه بعد كل ما فعله بها؟
كريم في عفوية:
- إنه الحب يا فريدة، ينسى المرء نفسه جوار الحبيب، ولا يعرف سوى الغفران ونسيان ما مضى.
- ولكن نور لم تنس.
- طالما فعلت ذلك، فهي نسيت ما كان بالماضي، من نحن لنتدخل إذن؟، دعيهم ليهنأوا جوار بعضهم البعض، فالفراق لعنة تُصيب الحبيبين، ولا يرتاح أحدهم دون الآخر.

قالها بنبرة ألم، يبدو بأنه هو الآخر قد تذوق من مرارته، ولديه قصة مخفية، فشعرت فريدة بالحزن، ولمَّ تدري سبب تلك العاطفة الغريبة التي اجتاحتها عند سماع كلماته، لعلها كانت تتمنى أن تكون الأولى بحياته، وكأنه لولا ذلك الألم لما تعرف عليها قط، وإن لم يدر بينهما سوى حوار عابر، إلا أن الأمر تطور معها كعادة الكثير من الفتيات في سن المراهقة.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي