١١١

(يومًا ما سيكون لدي بيت، وسيعيش فيه أبنائي سويًا، لن يروا معاناتي قط، ويضطرون للسكن بالإيجار عند أي من كان، ينتقلون من شقة إلى أخرى)
يتحدث العم إبراهيم مع نفسه، يعصف به الحزن من كل اتجاه، استاء من قلة حيلته، لا يكف عن الانتقال من بيت لآخر، كلما زاد الإيجار عليه، ضاقت الحياة في عينيه، ولم يعرف في أي اتجاه يذهب، واقع أليم يعيشه العم إبراهيم مع زوجته، التي لا تتوقف عن العمل على ماكينة الخياطة الخاصة بها، أحضرها إليها العم إبراهيم؛ لتُعينه على المعيشة، يُوفر الراتب الذي يحصل عليه من خلال عمله في الأرض قوت يومه بالكاد، يكبر الصغار وتزداد احتياجاتهم، ولم يعد يعرف السبيل لتلبيتها، تكبر المسئوليات مع نفس العمل والراتب لا يزيد قط.
- ما لي أراك حزينًا يا إبراهيم؟، ما الذي حدث معك؟
يضع العم إبراهيم يديه على خده، ويجلس شاردًا في شرفة الشقة التي يسكن فيها، ينظر إلى السماء في ألم، يعمل فوق طاقته، ورغم ذلك لا يوفر أبسط احتياجاتهم أو يتبق من راتبه أي مبلغ ليدخره، لا يكفيه بأي شكل من الأشكال، فكما يقولون بالعامية "اللي خارج أكتر من اللي داخل"، فكان مستاءً للغاية، وخاصة أن زوجته لم تعد تحتمل العمل بشكل مضاعف، لم تعد تفرق بين الليل والنهار، وضَعف نظرها من الجلوس جوار الماكينة، ورغم ذلك علامات الرضا لا تفارق قسمات وجهها، ولا يجد منها تذمرًا أو شكوي قط.
يجيبها في استياء قائلًا:
- قلة حيلتي يا زينب، أراكِ تتعذبين، وأقف عاجزًا أمامك، وكذلك أولادنا لا يتناولون العشاء في أغلب الأيام، ينامون جوعى، وترتد معاناتهم في صدري، وتُحدث في قلبي مختلف الشروخ.
- هون عليك يا إبراهيم، نحن في نعمة وفضل، الحمد لله يكفي ترابطنا وعلاقتنا القوية، فلا يقدر علينا أي صعب.
يُقبل إبراهيم رأسها بيديه المتشققة من الفلاحة في الأرض، فصُدم بدرجة حرارتها المرتفعة، لا ترحم نفسها قط، تُحمل نفسها فوق طاقتها، ليصرخ بها إبراهيم قائلًا:
- حرارتك مرتفعة كالنار يا زينب، تعال معي إلى المستشفى في الحال، والله لن أسامح نفسي قط إن أصابك مكروهًا.
تُجيبه زينب في ضعف:
- ما من داعٍ يا إبراهيم، لا تقلق يا حبيبي، أنا بخير.
يسحبها إبراهيم من يدها دون تفكير، وحين حاولت أن توقفه، لم يتردد في حملها، يهرول بها نحو المستشفى، ضاق الحال بهم كثيرًا، فلم يعد يحتمل تلك المعاناة، وخاصة حين نهره الطبيب، وأخبره بأن زوجته في حاجة للراحة، ويجب علينا ألا تُجهد نفسها قط، ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟، والسيدات في انتظارها بالمنزل، استأذنت منهم بضع دقائق لترى ما الذي يُزعجه؟، وهي التي ينخر فيها التعب، ولا يرحمها بالمرة.
- من فضلكم، اذهبوا وعودوا في وقت آخر، فزينب مريضة ولا تقوى على العمل الآن.
يحاول إبراهيم أن يتحدث معهم بهدوء، يُجاهد ليُخفي ألمه أمامهم، فاحترمت البعض منهن طلبه، وما أن أساءت الأخرى أسلوبها، وتجرأت عليه، نفس غضبه عليها، يقول لها في عنف:
- يا لكِ من عديمة الإحساس، لا تُفكرين سوى في نفسك، اخرجي من هنا ولا تعودي قط.
احتدم الشجار بينهما حين قذفته المرأة بالسباب، لا تعرف شيئًا عن الأخلاق، وألقت بنفسها عليه، تريد أن تضربه، لتجتمع عليها السيدات، ويطوقونها بعد ما أنهكت قواهم، كانت المرأة في قوة العشر رجال، ولا يقدر عليها أحد، وكان إبراهيم خائر القوى؛ بل مهزومًا بعد سقوط ظله، شريكة عمره تمكن منها التعب، وحجزها الأطباء في المستشفى تحسبا لأي ظرف، فهي عنيدة للغاية، وليست بحاجة للراحة، ويجب عليها العودة لمباشرة عملها، فلم يسمحوا لها بالخروج حتى تتحسن حالتها.

- سامحنا يا عم إبراهيم، الله يطمنا عليها، وتعود بألف سلامة يارب.
تعتذر منه إحدى السيدات على سوء ما فعلته المرأة معه، لم يكن غريبًا عليها، سيدة سيئة السمعة، ولا ينجو أحد من شرورها بسهولة، سليطة اللسان وبذيئة الخلق، فوقعت كلماتها عليه كالصاعقة، دفعت قلة الحيلة زوجته للتعامل مع مثل هذه النوعيات، ابنة الأصول والأخلاق الطيبة، أصبحت تتعرض للإهانة لأجله، ولا تفتح فاهها قط؛ تحتمل كل شيء في صمت، وهي التي كانت تُعامل كالأميرة في بيت والدها، وتبدل الحال كليةً معه، فبئس الزوج هو، ما أقسى الأيام التي جمعتها برجل مثله.

- هل أذهب يا عم إبراهيم؟
ما زالت السيدة في البيت، لم تغادر بعد، أخذت تعتذر له من السيدة الأخرى، وفتحت معه عدة مواضيع، لم تتوقف عن الحديث كصنبور المياة حين نفتحه، تظل المياة تتدفق منه حتى نغلقه، وهذا ما فعله إبراهيم بعد ما تنبه لوجودها، فقد شرد بعيدًا بعد سماع ما قالته عن السيدة الأخرى، ليطلب منها الخروج في ضيق قائلًا:
- لم أنتِ هنا؟، اذهبي إلى الخارج.
شعرت السيدة بالاستياء من حديثه، كانت تحاول التخفيف عنه، تُراضيه؛ ويكون ذلك جزائها، ما بالهم الأشخاص يسيئون إلى بعضهم البعض، أصبحت الإساءة أقرب إليهم من الحسنى، فلمَّ يعاملها بهذه الطريقة؟، وهي لم تسء إليه قط.

يغسل إبراهيم وجهه بالماء، يُطفئ الوضوء نيران قلبه، ويزيح عنه ولو قليل من الحزن والألم الذي يُكابده من مرار الأيام، التي اتشحت بالسواد، ولم يعد بها أي ألوان، يرفع يديه بتكبيرة الإحرام، وتجد الدموع طريقها في التدفق عند دخوله في الصلاة، يفضي إليها بهمومه، يبث شكواه، فلا قوة أو حيلة أمامه لمواجهة الحياة.

- إبراهيم، يا إبراهيم، أين أنت يا حبيبي؟، لمَّ لا تفتح الباب؟
أطل الصباح بنوره، وما أن انعكست أشعتها الذهبية على الأرض، تفترشها بضوئها الذي لا مثيل له، تسللت زينب إلى الخارج، لا تطيق البقاء داخل المستشفى، وتترك زوجها وأبنائها وحدهم في البيت، تطرق الباب في خوف، وجسدها مُنهك للغاية، لم تتحسن حالتها بعد، ما زال المرض ينخر في جسدها، حمى شديدة اجتاحته، وإن نزلت الحرارة قليلًا بسبب تواجدها في المستشفى، آثارها لم تختف قط، تعاني من كلا الجانبين، ساءت حالتها النفسية أيضًا، وقد رأى زوجها بالأمس أصناف البشر الذين ألقتهم الحياة في طريقها.
تُعيد ندائها ثانية:
- افتح يا إبراهيم أرجوك، لمَّ لا تفتح لي الباب؟
قالت جملتها الأخيرة، والتعب يشتد بها؛ ليعصف بها من جديد، وكادت أن تسقط أرضًا، لولا أن أسندها في خوف قائلًا:
- زينب، أنتِ هنا؟، لمَّ خرجت من المستشفى وجئتِ إلى هنا؟، ما زلت مريضة، وحالتك لم تتحسن بعد.
زينب في ضعف:
- أنا بخير يا حبيبي، لا تقلق علي، سأجلس على الماكينة الآن، أكمل شغلي، وسيكون كل شيء على ما يرام، ما من داعٍ لذلك القلق صدقني، هل غيرت رأيي في الأطباء الآن؟
تسأله في مزح، فهو لا يحب الأطباء بالمرة، يرى بأنهم دومًا يُكبرون الأمور، ويبالغون في تقديرها؛ ولذلك لم يكن يصدقهم قط، ولعل قصر ذات يده هو من دفعه للتشبث بهذه الشماعة التي لا تشعره بعجزه، وتُسكن آلامه دون دواء، ولو بشكل مؤقت، لا يلبث الألم أن يزوره ثانية دون انقطاع.
- اهدأ يا إبراهيم أرجوك.
تراه في قمة انفعاله، وقد انتفخت أوداجه، أُغلقت كل منافذ الأمل في قلبه، ولا يعرف سبيلًا للوصول إليه، يضرب يديه في الجدار أمامه، فجرحت ونزفت الدماء منه، تُعبر عن جروحه التي لا تندمل؛ فهي لا حد لها ولا انتهاء، وإن اجتهد لاخفائها عن الأعين، لطالما شعرت بها، وكذب قلبها ما تراه عينيها طوال الفترة الماضية، علمت بآلامه، وإن استمر هو في إنكارها.

- وكيف لي أن أهدأ يا زينب؟، وقد كدت أفقدك، وإن احتملنا الجوع والعطش، ما باله التعب لا يتركنا في حالنا، ولا نعرف كيف نعيش؟، فاقت قدرتي الاحتمال والله.
زينب في أسى:
- وماذا نفعل يا إبراهيم؟، هذه هي إمكانياتنا، نحن مستورون الحمد لله، لا تزعج نفسك يا حبيبي.
ينظر لها إبراهيم في امتنان، يعصف بها التعب، ورغم ذلك لم يخرج من بين شفتيها سوى كل جميل، تُطيب خاطره بكلماتها كما وجد منها بالأفعال.

وبينما هم يتحدثون جاء جارتها سعاد، تطمئن على أحوالها، رغم استيائها من معاملة زوجها بالأمس، إلا أن العشرة لا تهون، ومن حق الجيرة عليها، وما قالته حمل لهم البشرى، ستعود مع زوجها إلى قريته، ساءت حالة والده، وبحاجة إلى جواره، رضاه عبر الهاتف، فقد طردهم من قبل؛ ليُعيده المرض إلى صوابه، فلم يتردد إسماعيل زوجها قط، ويريد أن يبيع بيتهم في أقرب وقت، فساد الصمت للحظات، لتتبدل نبرة إبراهيم عما رأته بالأمس، يقول لها في رجاء:
- بيعوني إياه يا سيدة سعاد، فكما ترين أمامك حالنا، لا نكف عن الانتقال من بيت إلى آخر، ويذهب كل المال في الإيجار، ويتبقى لنا الفتات، يكفى القليل من احتياجاتنا بالكاد، ويقرص الجوع ببطوننا.
السيدة سعاد في لطف:
- لا يعز عليك والله يا عم إبراهيم؛ لكن اعذرني يا أخي، من أين لكم بالمال؟، فالثمن الذي يعرضه زوجي قد يكون باهظًا بالنسبة لظروفكم.

فلمعت عيني زينب، وكأنها وجدت الحل، هداها عقلها إلى فكرة، ستغير حالهم كثيرًا، وتسير المياة في أرضها بعد جفاف طويل، نهب خيرها وأوقف سيل ثرواتها.

في المستشفى...
- نور، يا نور، استيقظي، الوقت يمر على عجل، وسوف تتأخرين عن العمل.
تنظر نور لأختها في ألم، فهي رغم تعبها، تخرج من ذلك الجو، فأخواتها لا يُغادرون المستشفى قط، يقبعون أمام غرفة والديهم، وإن مر أحد، اختبئوا خلف أي باب بعيدًا عنهم.
- لا تبكي يا هدى ثانية، فأنتِ حبيبتي وابنتي وصديقتي، أنتِ كل شيء بالنسبة لي.
توصي فريدة عليها، تتركها في أمانتها حتى تعود، وتعدهم اليوم بأنها ستُحضر لهم وجبة من الخارج، طعامًا شهيًا يحبونه كما كانوا يفعلون من قبل، وكان ذلك من الأشياء التي تُدخل السعادة إلى قلوبهم، وتُريد أن تُذكرهم بالأيام الخوالي، لعلها تعينهم على التقوى أمام الصعاب التي تسقط فوق رؤوسهم دون رحمة.
تدفع نور نصف راتبها في المخزن بعد طرد صاحب العمارة لهم، ولم يحتمل أثاثهم عنده حتى ولو في غرفة لا يحتاجها، والجيران كان لهم نفس ردة الفعل، فلمَّ يرحمونهم، وقد أغلق أقاربهم الباب في وجوههم؟
- أين كنتِ يا ست نور؟، لماذا تأخرتِ يا هانم بذلك الشكل؟
ينهرها المدير، ولا يكف عن تقريعها منذ ذهابها حتى مغادرتها، كل يوم يفعل ذلك حتى اعتادته منه، وأصبح لا يشكل لها إزعاجًا، لا يقع عليها بنفس الوتيرة، تحتمل لأجل عائلتها، لم يعد من قوة لهم سواها، هي الأمل الوحيد لإخوانها، تضرب فيهم الأيام بلا رحمة، تضغط بكل قوتها، وكانت تظن نور بأنها الوحيدة التي تعمل، وكان في ذلك عين الرأفة بها، تمسح فريدة الحمامات وتُنظف وراء المرضى؛ كي تسمح لهم الممرضة بالبقاء، وتستطيع توفير بعض المال لأجل شراء العصير والأكل لأختها، يعز عليها أن تقتات من فضلات الآخرين، وتقف هي تشاهد كالعوام، يبدو بأن الكثيرون قد نُزعت من قلوبهم الرحمة، واعتادوا رؤية معاناة الغير أمامهم حتى الأطفال، لم يهز لهم طرفًا قرص الجوع لهم، وصوت صرخاتهم الذي يخرق الآذان قبل أن ترتجف له الأبدان.
صورتها لا تُفارق خياله، تسكن عقله، ولا تجد له مجالًا للعمل، تتراكم عليه المهام؛ فيلجأ إلى التسويف وإهمال البعض منها، لم يعد يستقر على حال؛ حزنه شديد عليها وما أحل بعائلتها، على الرغم من حاجتها ترفض مساعدته، ولا تكف عن طرده كلما ذهب إليها، لا تستطيع نسيان آذاه قط، ولا تعطيه الفرصة ليُصلح الخطأ.
- ماذا أفعل يا نور؟، احترت معكِ ولم أعد أعرف السبيل لرضاكِ، أتجرع من مرارة الفقد دونك، وضاق كل شيء في عيني.
- أستاذ إبراهيم، إبراهيم، يا إبراهيم.
يُناديه الساعي منذ مدة، ولا يستجيب، فإن كان بجسده أمامه، إلا أن قلبه وعقله في مكان آخر، لا يكف عن التفكير فيها، يخشى عليها من الحياة، فهي الوردة الرقيقة التي تحتاج إلى رعاية واهتمام، وإن لم تسقها يومًا، ذبلت بسهولة كما فعلت بها الأيام، لم تعد تلك الفتاة التي وقعت عليها عيناه لأول مرة، الإجهاد يحتل ملامحها، ولا يُفارق السواد تحت عينيها، والألم ينطلق من بين نظراتها، وتبوح به شفاهها.
فطرق الساعي على المكتب أمامه، يوقظه من غفلته، ويعيده إلى واقعه، وحين انتبه إليه، وجه حديثه له قائلًا:
- يا أستاذ إبراهيم، أناديك منذ مدة، ولا تجيب، فهل أنت بخير يا بني؟
إبراهيم في استغراب:
- عم محمد، أنت هنا، هل هناك أمر ما؟
- أناديك منذ مدة يا بني، أرسلني المدير في طلبك، وجئت لأخبرك إلا أنك لم تجبني قط، فهل أنت بخير يا بني؟
- الحمد لله في نعمة وفضل، سامحني لم أنتبه لقدومك، ولم أشعر بوجودك قط.
ينظر إليه العم محمد في حزن، فقد وصله شعوره، تلك الحالة يعرفها جيدًا، وحدهم العشاق من تنعكس في أعينهم هذه النظرة، يُذكره بحاله؛ بل ماضيه الأليم الذي لا يقوى حتى الآن على نسيانه.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي