11111

الغيرة هي أسوأ عدو للمرء، وخاصة حين تكون متعلقة بالحبيب، قلبها ينبض بإسمه؛ بل يهيم عشقًا به، لا تقوى على الحياة من دونه، هو أغلى ما تملك، العوض عن كل ما فقدته خلال رحلة الحياة، لا تقدر على العيش دونه، ولا يغيب عن بالها ولو للحظة واحدة، منذ بداية اليوم وحتى هزيمة النوم لها؛ فلو كان الأمر بيدها، لما استسلمت له قط، وغابت عن الوجود قربه، ما بين مكالمات هاتفية ورسائل عبر مختلف التطبيقات، تكون نور مع إبراهيم دومًا، ورغم ذلك يفتك بها الحزن، فهو لا يخبرها شيئًا عنه؛ تتفاجأ بما يحدث معه، وتعرف أخباره كأي شخصية غريبة.
- مبروك، لا تعلم كم فرحت لأجلك.
- أعلم يا حبيبتي بأن الفرح سيطير بكِ.
- ولمَّ لم تُخبرني إذن؟
- لأنني أردت أن أفاجئك.
- تفاجئني، هل تُسمي إخفائك للأمور عني مفاجأة؟، أراك لا تحترمني قط، ولا تراعي شعوري أبدًا بصورك مع هؤلاء الفتيات.
- ولكنهم أكبر مني.
يُجيب إبراهيم على جملتها الأخيرة؛ ليضربها بكلماته في مقتل، هي أيضًا تكبره سنًا.
فأغلقت معه نور المكالمة، وانهمرت في البكاء، فهل كانت مخطئة لكونه أحبته؟، هل أساءت إلى نفسها حين وقعت في غرام من هو يُصغرها سنًا، ولكن الأمر لم يكن بيدها، لا سلطان لنا على القلب وأموره.
أخذ هاتفها يرن دون انقطاع، يلح إبراهيم عليها لتُجيب، يُريد أن يشرح لها حقيقة الأمر، يظن بأنها أساءت الفهم، ولكن كيف ذلك؟، وهي ليست بالمرة الأولى، اصطبرت عليه كثيرًا، وفاق الأمر احتمالها.
يأتيها إشعار رسالة، فحملت الهاتف في ضعف، تقرأها من بين دموعها:
(نور، افهميني أرجوك، هناك سوء فهم، فردي على اتصالي)
أرسل إبراهيم رسالة، وبعد ما فتحتها نور، فوجئت به يُشارك صوره عبر الواتس مع وضع قلوب حمراء عليه، ويشارك أغاني رومانسية بتطبيقات أخرى، قلبها يئن وجعًا، وهو لا يبالي، نفس ردة الفعل المعتادة عند وقوع أي شجار بينهما، ويظن بذلك بأن المشكلة ستُحل؛ فهي تزداد تعقيدًا أكثر، حين ترى نور مكانتها الحقيقية في حياته، لا قيمة لها عنده، لطالما تألمت ولم يشعر بها، تنام كل ليلة والدموع تُغرق الوسادة من تحتها، وأنى له أن يشعر بها.
سرحت بها الذكريات بعيدًا، فزفرت في ألم، ومديرها يُزيد أنينها أكثر، وهو ينهرها في غضب قائلا:
- هذا مكان للعمل، لا للتوهان يا أستاذة، يجب أن يكون ذهنك حاضرًا، فاللحظة التي لا تنتبهين بها قد تجعلنا نخسر الكثير من الأموال، وأظن بأنك تعملين لدي لأجله، ولست بحاجة إلى أن تكوني مديونة، يكفيكِ ما عليكِ من التزامات.
يقذفها بسهام عينيه ومجانيق تخرج من شفاهه، فيصيبها بجراح مثخنة وخدوش غائرة، تعيش كابوسًا مفزعًا منذ حادث والدها، وقلبها لم يعد فيها جزءًا سليمًا منذ فسخ خطبتها، فتُعيد عليها ذاكرتها هذا الحدث المشئوم.
- إذن أنتِ تريدين فسخ الخطبة؟
- نعم يا إبراهيم، هذا قراري ولن أعود فيه.
- كما تريدين طالما هذا قرارك.
صُدمت نور عند سماع كلماته، ووقعت عليها كالصاعقة، لم تتخيل قط بأن ذلك سيكون جوابه، أ لهذه الدرجة سَهل عليه قولها؟، يبدو بأنها خُدعت فيه، هو لم يُحبها قط، وعليها الآن تحمل نتيجة خطؤها، فقد حذرها الجميع من ذلك الارتباط، ولكن وقفت أمامهم، تُدافع عن حبها، عرفت الحب معه وقُتل في سبيله ذلك الشعور، فقد أغلقت ذلك القلب، ولن يُفتح ثانية قط، ألقت بمفتاحه في القاع، وليس هناك من قد يموت غرقًا في سبيل الوصول إليه، فكم أحبته لسنوات لم يتمسك بها ولو للحظة واحدة.
يلهو إبراهيم في الحاسوب أمامه، ويتفقد هاتفه، لا يصدق بأنها لم تتصل لتعتذر منه أو ترسله إليه برسالة واحدة، فهي لا تطيق فراقه، ولا تحتمل غيابه ولو للحظة واحدة، وهو يسير على نهج أصدقائه بالورقة والقلم، فإثارة الغيرة واللامبالاة والتعامل باستخفاف مع الأمور يُجيد نفعًا مع الفتيات، يسير وراءهم دون تفكير، ولم يخطر بباله بأنه يُضعف علاقتهم؛ بل يزعزع أواصرها، لتنكسر إلى الأبد، وما من سبيل للعودة.
يرن هاتفه، فينظر في زهو لنفسه في شاشة الحاسوب، ورغم اللهفة التي تعتمل بداخله ليُجيب اتصالها، يتكبر عليها ولا يجيب عند أول رنين، يُعاود المتصل الرنين ثانية، فيستاء إبراهيم، ويعلو وجهه علامات الخيبة، ليُجيب في حزن قائلًا:
- أهلا مي، كيف حالك؟
- لا تحزن يا إبراهيم، الله يعوض عليك يا حبيبي.
إبراهيم في خوف:
- ماذا تقصدين يا مي، ما الذي حدث؟
مي في استغراب:
- أ لم يصلك الخبر؟
انتفض قلبه، وسرت قشعريرة في كامل جسده، لسان حاله لا يتمنى سماعه، يرفض التصديق، ليقع الخبر عليه كالصاعقة، يجيبها في استنكار قائلًا:
- لا تمزحي معي يا مي أرجوك.
- لا أمزح والله يا أخي، هذه الحقيقة، أ لم أخبرك من قبل بأن هذه العلاقة لن تنجح بالمرة؟، كيف تكون الفتاة أكبر من الشاب الذي يريد أن يرتبط بها؟، عجيبة والله يا أخي.
تظن بكلماتها أنها تواسيه، إلا أنها تبكته ويؤلمه وقعها عليه، أطبقت الحياة على أنفاسه كالمقصلة، وشعر بالاختناق، لم تسعه جدران الغرفة، فهرول نحو الخارج، يركض بأقصى سرعة

وما لبث أن قادته قدماه نحو البحر، فوقف أمامه، وأخذ يصرخ فيه بشدة قائلًا:
- هل رأيت ماذا فعلت بي صديقتك؟، هل رأيت كيف هان عليها ما بيننا؟، كيف استطاعت فعل ذلك؟، أ لم تكن شاهدًا على الحب الذي جمعنا؟
يتألم ولا يكف جرحه عن الأنين، ينزف على الملأ، لا يقوى على احتمال الصدمة التي كادت أن تفتك بقلبه، لم يشعر بنفسه واستسلم لضربات الموج تلطم بجسده كحال قلبه، وكادت أن تودي بحياته لولا أن أعاده ذكرى صدى صوتها إلى رشده، كل ما بداخله يتحدث باسمها، يلهث لالتقاط أنفاسه، وفي لحظة خاطفة كاد أن يفتقد اتصاله بالحياة.
- هل تريد الانتحار يا إبراهيم؟، أين ذهب إيمانك؟، أ لأجل فتاة تفعل ذلك؟
- لا والله، لم أقصد ذلك الأمر قط، ولكن ضاقت حيلتي ولم يعد لدي من أمل في الحياة، كيف استطاعت نور أن تفعل ذلك بي؟
- هي فتاة كغيرها، ولا أمان أبدًا معهم، فالغدر يسير في دمائهم.
- لكن نور ليست مثلهم، هي تحبني وتهيم بي عشقًا.
ضحكات سخرية تخرج منه وهو يقول:
- أ لم تر ما فعلته معك؟، فو الله لو كانت تحبك لما تخلت عنك قط.
حوار بينه وبين ضميره، لا يكف عن تقريعه هو الآخر بأقسى الكلمات، لا يجد للرحمة سبيلًا من الداخل أو الخارج.
تبكي نور في غرفتها دون انقطاع، كادت شهقات البكاء أن تخنقها؛ وبالفعل ضاقت أنفاسها وتم نقلها إلى المستشفى، يعطونها جلسات استنثاق، حالتها النفسية سيئة للغاية، وانعكس ذلك بشدة على صحتها، وتم حجزها في المستشفى، خائرة القوى مستسلمة، لم يكن ذلك القرار بالهين لتأخذه، إلا أنه اضطرها إلى ذلك، هي بكلتا الحالتين تتعذب، لن يشكل الأمر فارقًا، هكذا ظنت، تُقدم قدمًا وتؤخر الأخرى، تحمل العلبة التي احتوت على أغلى ما تملك، نزعت عن يديها ذلك الخاتم الذي أعطى علاقتهم اسمًا، اشتعلت شرارة الحب بينهما منذ النظرة الأولى، وظل لسانها يلهج بهذه الدعوة حتى جعلها الله واقعًا، تم خطبتهما رغم استحالة الأسباب، واعتراض الأهل والأصدقاء على تلك العلاقة، وقفوا أمامهم واعترضوا على تلك الزيجة، حكموا عليها بالفشل، ودارت الأيام لتثبت صدق ظنهم.
- هل أنتِ متأكدة يا نور بأن هذا قرارك الأخير؟
نور من بين دموعها:
- نعم يا أمي، لم أعد أحتمل ذلك الألم الذي يعتمل في صدري، أتألم في كلتا الحالتين.
تربت والدتها على كتفها في حنان؛ فترتمي نور في أحضانها، وتنهار في البكاء، لن تقدر على الفراق، ولكن لم يعد أمامها خيار آخر، فهو لا يبالي بشعورها، لا يوجد من الكلمات ما تستطيع أن تُعبر عن حالتها، فلجأت للبكاء واختبأت بين أحضان والدتها، حتى غفاها النوم؛ أرسله الله إليها رحمة، فنهضت والدتها عن جوارها بحذر، تسير على أطراف أصابعها، تخشى أن تُحدث صوتًا؛ فتوقظها.
ملامح وجهها مُتشحة بالسواد، وتوشي معالمها بمقدار الأنين المعتمل بداخل قلبها، فقطار الزواج كما يقولون فاتها، ولم توافق بسهولة على الارتباط حتى أسر إبراهيم قلبها، يهزم خوفها ويكسر ذلك الحاجز الذي تضعه حول قلبها، فلَّانت واستثار شعورها، فنبض ذلك الإحساس لأول مرة داخلها، أحبته حبًا عظيمًا، ليثبت لها مدى خطؤها وصوابها في نفس الوقت، فهي ما أن فتحت قلبها، وعظم الشعور داخلها، لم يلبث أن كسره وفتته إلى أشلاء، فكان سببًا في تعقيدها إلى الأبد.

- يا أستاذة نور، هنا مكان للعمل، هل ستشردين ثانية؟
- أنا، أنا، ...
سرحت في الماضي وتفاصيله، لا يكف عن الأنين بداخلها حتى أوشك على تدمير حاضرها، لم تسعفها الكلمات لتُبرر موقفها، فارتبكت، وقبل أن تعتذر منه، فوجئت به يتفوه بما لم تتخيله قط، يقول لها في حدة:
- لقد تعبت منكِ يا نور، وفقدت الأمل بكِ، فاذهبي من هنا ولا تعودي ثانية.
ترقرقت العبرات في عيني نور، وشعرت بالاختناق، تتوسله في رجاء من بين دموعها قائلة:
- لا تطردني يا سيد وائل أرجوك، فهذا العمل هو الأمل الوحيد لعائلتي.
لم يقو السيد وائل على احتمال دموعها، فقد أحبها، ولم يكن ذلك شعوره في البداية، ظن بأنها نزوة عابرة كالآخريات، يتسلى بها كيف يشاء ثم يتركها بعد أن يمل منها، ولكن ما للقلب من سلطان، نبض لأجلها، وكلما امتنعت وقع في غرامها أكثر، لا يرى سواها، حتى وإن غابت عن ناظريه، تظل صورتها حاضرة.
استأذنت منه وغادرت، لتعود إلى أختيها بالمستشفى، يحتويان بعضهم البعض، ويقفان معًا ضد أحزانهما، فما من معين ولا قريب يشعر بمعاناتهما، دفء علاقاتهم تهون عليهما الكثير، وينتشلهم لطف الله، تخر نور سُجدًا لله عند رؤيتها بخير أمامها، وجدت الخبر في انتظارها على باب المستشفى، وما فعله ذلك البطل مع صغيرتها، كالمجنونة أخذت تتخبط هنا وهناك، وتعثرت أكثر من مرة، ونزف جرح رأسها من إثر الوقعة، لم تشعر به؛ لتصرخ بها الممرضة قائلة:
- ما هذه الدماء يا نور؟، لا تقلقي عليها، هي بخير، تعالي معي لأضمد جراحك.

نور في ألم:
- دعيني أرجوك، ولا تكذبي علي، فكيف لي أن أكون بخير؟، وحالتها ليست جيدة.
- هي بخير والله حبييتي نور، لقد ارتعبت من المشهد الذي رآته أمامها، هي نائمة الآن، وحين تستيقظ ستكون بحال أفضل.

تسأل عن أختها فريدة في قلق، لم ترها قط منذ قدومها، فما الذي أحل بها هي الأخرى، يصل للممرضة شعورها، الأخت الكبرى هي انعكاس لقلب والديها، تحمل داخل صدرها محبة تسع العالم بأكمله، تبسط جناحيها لأخواتها، وتُطمئنهم بدفء روحها، فربتت على قلبها بكلماتها، أختها فريدة بخير أيضًا، هي في الغرفة الأخرى مع ذلك الشاب الذي أنقذ حياة هدى، نهضت نور من جوار الصغيرة، تريد الذهاب للاطمئنان على الأخرى، فإذ بهدى تُناديها؛ لتعود إليها، تضم أناملها الصغيرة بكفوف يدها، تُشعرها بوجودها، هي جوارها، ولن تتركها أبدًا، تعتذر منها والدموع تغسل وجهها، فلو كانت معها، لما تعرضت لذلك الموقف القاسي، ولكن ما من حيلة أمامها، يجب عليها العمل حتى وإن لم يكن مناسبًا.
تنظر فريدة إليه في قلق، جسدها يرتعش ولا تتوقف قدميها عن الاهتزاز، لن تحتمل إن أصاب أحدهم الأذى بسببها، تريد أن تعتذر منه، ولا تقوى على النطق، ألقى بنفسه أمام السيارة تفاديًا لأختها، ولولاه لما سامحت نفسها أبدًا، ولازمها الذنب طوال حياتها.
قبل مرور عشر سنوات ...
تجتمع العائلة حول فراش الحاج إبراهيم، سكرات الموت تشتد عليه، وأبنائه من حوله نظرات القلق تنطلق من أعينهم، والدموع لا تفارق مقلتي زوجته، يبكي قلبها قبل عينيها، حبيب العمر وشريكة الرحلة كيف لها أن تعيش دونه، ترتعب خوفًا في كل مرة يصيبه فيها التعب، ولكن شعورها كان مختلفًا عن هذه، قلبها يُحدثها بأنها ستكون النظرة الأخيرة، ولسان حالها يرجو الله ألا يصدق حدسها أبدًا.
- لا تبكي يا زينب أرجوك، فأنتِ عزيزة مُكرمة، وسيظل مقامكِ عاليًا حتى وإن أصابني مكروه.
يُجاهد الحاج إبراهيم كي يتحدث، ويوجه نظراته إلى الجميع، فكم عاشت في كنفه أيام هانئة، وشهدت معه جميل الذكريات.
- لا تقل ذلك يا إبراهيم، ستكون بخير يا حبيبي.
تربت زوجته على كتفه، تطلب منه ألا يُتعب نفسه بالحديث، هم بجواره ولن يتركوه قط، فأشار إليها أن تهدأ، لديه ما يريد قوله، ولن يرتاح حتى يسمعونه، بآذان صاغية جلس الأبناء وزوجاتهم حوله، وعاد الزمان والمكان به إلى ذلك البيت الذي سيتركه لهم؛ ليُورثوه.
يطرق الباب بشدة، تستغيث به الجارة من البيت المجاور، زوجته زينب ليس بالبيت، تردد في البداية ولكنه اضطر على مضض للدخول، أبيها مُتعب للغاية وبحاجة لمن يحمله معها؛ كي تنقله إلى المستشفى، وما هي إلا لحظات وكانا هناك، يسأله الطبيب في حدة:
- لمَّ تأخرت في نقله إلى هنا، وتركته يتألم بذلك الشكل؟
لا يعرف العم إبراهيم بما يُجيبه، وعَلت وجهه علامات الحزن والأسى، حزين بشدة على حال جاره، البيوت مجاورة، وتخفي الجدران ورائها الكثير، فأحدهم يهنأ والآخر لا يكف أنينه، ولا يشعر المُعافى منهم بالمريض كحال الغني والفقير، فالذي ينام وقد امتلأت معدته، لا يشعر بالذي لا يراه بسبب قرصة الجوع، يقف جوار تلك الابنة، ويُلبي احتياجات الأطباء، لم يتركها وحدها أبدًا، وحين علمت زوجته ساندته، وأعانته على ما يفعله، فالجار للجار، لا تنسى معروف جارتها سعاد معها، وتتخذها قدوة لها، ما زالت هي وزوجها يعملان معًا لأجل سداد الدين، يدخران من المال ما يستطيعون، وحين جاءت شدة جارهم أنفقوا كل ما معهم عليه، لتذهب فرحتهم هباءً كما ظنوا، إلا أن القدر كان له رأي آخر.
- لا تحزن يا حبيبي، سيخلف الله علينا بكرمه، فأنا والله سعيدة للغاية مما فعلته.
زوجها إبراهيم في استياء:
- لست بحزين والله يا زينب، ولكن أخشى من الموت، فلو جاءني الآن، قد أتركك بهذا الدين، وأعلم بأنه سيظل في رقبتي إلى يوم القيامة.
زينب في استنكار:
- لا تقول ذلك يا إبراهيم، حرام عليك، أين ذهب يقينك بالله؟، أ تظن بأنه ينسانا؟، حاشاه والله أبدًا، سبحانه وتعالى لطفه دومًا يرعانا.
- ونعم بالله، لا تعلمين كم كنت فرحًا لكوننا جمعنا مبلغًا كبيرًا من المال هذا الشهر وأوشكنا على سداد نصف المبلغ، ولكن بعد أزمة العم حسن ذهب كل المال لأجل علاجه، ولم يتبق شيئًا لندفعه، ولا أعرف بمَّ نُخبر السيدة سعاد على تأخرنا عن السداد هذا الشهر؟، وعدم قدرتنا على دفع شيء ولو بالقليل.
- قدر الله وما شاء فعل يا إبراهيم، لا تُشغل بالك بأمر سعاد، سأخبرها الحقيقة ولن تقل شيئًا، وكما وقفت جوارنا في الماضي، لن تعترض الآن وستشاركنا الثواب.
ينظر إليها إبراهيم في امتنان، ويشكر الله الذي مَّن عليه بزوجة صالحة مثله، صدق الحبيب صلى الله عليه وسلم حين قال خير متاع الدنيا المرأة الصالحة.
مرت الليلة بسلام، أودع العم إبراهيم زوجته أمورهم بين يدي الله، ليأتي الغد دون خوف، رغم كونهم لا يملكون المال للسداد، إلا أنه يثقون في حكمة الله وتدبيره، هو من أكرمهم في البداية، ولن يتخل عنهم قط.
- من بالباب؟
يطرق أحدهم على الباب بشدة في وقت متأخر من الليل، لم تلبث ثورة عقلهم أن تهدأ، وتَسكُن العواصف داخل قلوبهم حتى جاء من يوقظهم في هذه الساعة، انتفضت السيدة زينب من مكانها، وهرول زوجها خلفها، يفتحان الباب في قلق ممزوج بالخوف، فهل أصاب أحدهم مكروه؟؛

ليتفاجئوا بها أمامهم، تطلب منهم الذهاب معها، أبيها في المستشفي يطلب حضور العم إبراهيم، فلم يترددا للحظة ولحقا بها، تحاول السيدة زينب أن تُهدأها، تهون عليها الطريق قائلة:
- لا تقلقي يا حبيبتي سهيلة، سيكون العم حسن بخير.
تربت على يديها، وتضمها إلى أحضانها بكل حب، تُشعرها بحنان الأم الذي افتقدته، وتعوضها عن غيابها ولو للحظة، منذ زمن لم تشعر بمثل ذلك الحب، تقسو عليها الحياة من كل اتجاه، وكادت أن تقصم ظهرها بمرض والدها المفاجئ بهذا الشكل، وما من مُعين لها؛ لتستند عليه، أدركت مدى وحدتها، فكل ما حولها فراغ، تأتي الشدة كالمرآة لتظهر لنا وضعنا الحقيقي ضعف كان أم قوة؟، وما اصطدمت به سهيلة كان مؤلمًا.
حالة العم حسن تزداد سوءً، ويبدو بأنها سكرات الموت تشتد عليه، فلم يرفض له الطبيب طلبه الأخير، رغم كون الأمر غريبًا عليه، أحضر له أحد المحامين، ووقف جواره يشهد على وصيته، فقد تأخرت إبنته في إحضار العم إبراهيم، والوقت لم يعد في صالحه، تنفد الدقائق من عمره، ويخشى الرحيل قبل تأمين مستقبل ابنته، باع كل شيء للعم إبراهيم الغريب عنه؛ ليترك ابنته وكل ما يملك تحت إمارته.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي