1111111

- ما هذا الذي تقوله؟، ومتى كتب حسن هذه الوصية؟، أشتم هناك رائحة غدر وخيانة، فكم دفع لك هذا الشخص كي تبيع ذمتك وضميرك بهذا الشكل؟
ينهض المحامي عن كرسيه في غضب، ويوجه حديثه إلى الحضور جميعًا، ولا يلتفت إلى ذلك السفيه الذي سأل عن الوصية حتى قبل أن تبرد نيران الفراق، لا تخمد قط في صدر ابنته، فلذة كبده التي تفاجأ الجميع بأنه لم يترك لها شيئًا، وأوصى بكل شيء تحت إمارة العم إبراهيم، ذلك الشخص البعيد القريب، لا يقربه بشيء ولكن حين وجده كان أقرب إليه ممن جمعه بهم طاولة واحدة، العيش والملح كما يقولون، لا صلة القرابة فقط.
- لقد كتب العم حسن هذه الوصية وهو بكامل قواه العقلية ومع وجود شهود أيضًا، فما من داعٍ للإساءة، وإن كنتم تتسائلون عما فعله هذا الشخص معه، فقد وقف جواره في الوقت الذي تخليتم أنتم عنه، ولم تُكلفوا أنفسكم بسؤال حتى، وتركتم ابنته وسط التيار وحدها، ما من يد تسحبها أو محاولة لإنقاذها.
يُلقي الأستاذ شريف على مسامعهم ما تمنى العم حسن قوله، وعلقت تلك الكلمات في جوفه حتى فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها، ففعلها الآن لأجله، ويتمنى أن يكون مُنعمًا في مأواه الأخير.
صُعق العم إبراهيم مما سمعه، يضرب كف بكف في غير تصديق قائلًا:
- غير معقول هذا الذي تقوليه يا زينب.
- أقسم لك يا إبراهيم بأنها الحقيقة، فكما تعلم ذهبت اليوم للاطمئنان على حالة سهيلة، كان الله في عونها، الدموع في عينيها لا تجف، ولا يكف نحيبها، وحين رأيتها تفتت قلبي كمدًا عليها، وصدمت بتلك السيدة تتشاجر معي قائلة:
- ضميها إلى صدرك أكثر، الآن ارتاح فؤادك بعد ما أخذتِ كل شيء أنتِ وزوجك.
فأجبتها في استنكار:
- عمَّ تتحدثين يا مدام؟، وضحي ما تقصدينه؟، فأنا لا أفهمك.
لأتسمر في مكاني يا إبراهيم عند سماع كلماتها، فمن الذي يصدق بأن العم حسن قد ترك لنا كل شيء؟، واشترط أخذ سهيلة معنا، تعيش في جوارنا وتربى في كنفنا.
- إنها تدابير الله يا زينب، على كل شيء قدير، ما من أمر يُعجزه سبحانه لا في السماء ولا في الأرض.
- ونعم بالله العلي العظيم، هو اللطيف سبحانه.
- أين هي يا زينب؟
- لقد تعلقت بي حين رأتني، ولم تتركني قط حتى سمح لي الطبيب بأخذها معي، كان الله في عونها، فكم مرت بها من أيام قاسية، وظهر حقيقة من حولها، ولم يكونوا سوى وحوش مُنفرة، انعدمت الرحمة من قلوبهم، وكأن لا يعرفون عنها شيء قط، فالوحوش حتى رحيمة ببعضها.
- وكأن الدعوة استجابت يا زينب، لا تعلمين كم آلمني قلبي عليها، ولم ننه حديثنا حتى قر الله أعيننا بما نريد.
- الحمد لله على واسع فضله وكرمه، وأنا سعيدة للغاية، فقد أصبح لدينا ابنة يا إبراهيم، كم لهج لساني بهذه الدعوة، وحمل لي مجيئها البشرى.
مرت السنوات في لمح البصر، كبر الأبناء وأصبح للعم إبراهيم وزوجته أحفاد، يعيشون معًا في أمن وسلام بذلك البيت الذي كان لسهيلة الفضل في سداد دينه، دفع العم إبراهيم المبلغ المتبقى وكتب لها جزء من البيت باسمها، يحنو عليها ويرعاها، ويحميها من هؤلاء الذئاب حتى سلمها إلى شريك الأحلام، السند والمعين لها من بعده، واطمأن عليها، ولم يتذكره إلا وهو على فراش الموت، يُخبرهم بما أخفاه طوال هذه السنوات عنهم، لديهم أخ يُدعى محمدًا، اضطر هو زوجته إلى إعطائه لأحد أقاربهم حين ضاق بهم الحال، كان يُثقل كاهلهم مسئولية الأربع أبناء، فعَرض عليهم أخذه، كم أحبه منذ أن رآه، ورغم قسوة الأمر على قلوبهم إلا أن ظروف الحياة لم تترك لهم خيار آخر، فسمحوا له بأخذ قطعة منهم، ولم يتوقف الفؤاد عن الأنين يومًا من الحزن الناجم عن قلة الحيلة، فكيف للمرء أن يهنأ وجزء منه بعيدٌ عن جسده، وغير قريبٌ من مرمى عيناه.
ينظر الأبناء إلى والدهم في غير تصديق، والزوجة دموعها لا تجف؛ بل تجد السبيل للتدفق أكثر، ينزف جرحها على الملأ الآن، فهو لم يكف طوال هذه السنوات، يربت العم إبراهيم على يديها في حنان، ويرجوها ألا تفعل، هو يستمد قوته منها؛ ليُكمل قائلًا:
- أعلم الآن بما تُفكرون؟، ولمَّ لم أخبركم بذلك سوى الآن؟، وكذلك لمَّ تركته بعيدًا وقد تحسنت الأحوال.
جاءته الصحوة في ذلك الوقت الذي يبدو فيه أقرب للرحيل من العودة، ولا يُصدق الناظر حين يراه لأول مرة، فهذه لحظة ضعف لا قوة، إلا أن لعل ضميره من جعله يفعل.
- طلبت منه والله أن يُعيده إلينا حين تيسرت الأحوال، ولكنه أبىٰ، وأخذ يرجوني أن أتركه معه، فهو لا يستطيع الاستغناء عنه، يرعاه منذ الصغر، فكيف له أن يتخلى عنه عند الكبر، وقد أصبح الآن في أشد الحاجة إليه، إبراهيم، فتحي، إبراهيم، اذهبوا إلى أخيكم يا أبنائي، وأعيدوه هنا إلى أحضاني أرجوكم قبل أن تغادر هذه الروح الجسد.
وقف الأبناء في ذهول، ينظرون إلى بعضهم البعض في غير تصديق، ما هذه الحكاية العجيبة التي يسمعونها؟، وهل والدهم يقول الحقيقة أم أنها تخاريف الموت؟، إلا أنهم اضطروا على مضض الاستجابة لطلبه.

في اليوم التالي تجهزوا للسفر، وأخذوا معهم ما يُعبر عن هويتهم؛ كي يُسهل مهمتهم، ويُثبت صحة كلامهم، رحلة استغرقت منه عدة ساعات، رحل ذلك العم بعيدًا حيث موطن رأسه، كان يقيم بالصعيد، ليصلوا إليه وقد أُنهكت أجسادهم، وفقدوا الأمل في نجاح مقصدهم.
- العم قدري؟
- نعم يا أبنائي، تفضلوا بالدخول.
ذهب معه الأشقاء الثلاثة، ولم يكن الوقت مناسبًا للحديث في هذه الأمور، أعدت لهم الزوجة طعام العشاء، وجهز لهم العم قدري غرفة الضيوف، تبحث أعينهم في وجل عنه، معلقة بذلك الضوء المنعكس من هذه الغرفة، ولم يخرج منها أحد أو يُفتح بابها قط، فأثار ذلك الأمر حيرتهم، هل من المعقول بأن ما يبحثون عنه داخلها؟، ذهبوا ورائه يستسلمون لطلبه، وكي يريحوا جسدهم أيضًا، عليهم النوم الآن وفي الصباح يحسن الحديث.
لم يستطع فتحي النوم، يفكر في ذلك الابن الذي ظهر فجأة؛ ليُشاركه في الميراث، الآن سيقل نصيبه، ولو كان الأمر بيده لأزاحه عن طريقه، وما سمح له قط بالاقتراب، ولكن ماذا يفعل أمام أمه وإخوته، فإن كان فتحي معدوم الضمير، فإبراهيم كوالده وإن كان لا يشبهه في الصفات إلا أنه يدعي المشيخة كما يطلق عليه، يسير في حاله زاهدًا للحياة، لا يُريد منها شيء قط، أما حين يتعلق الأمر بغيره، تأتيه الصحوة من حيث لا يدري، يقف ليُدافع عن الآخرين، ولا يبال بحقه، وكأنه شخص قد اجتمع فيه النقيضين، وبينما هو يُفكر، سمع صوتًا في الخارج، فتح النافذة على عجل ليرى مصدره، فإذ بها تسلب عقله منه، يراها وهي تقف أمام الغرفة المجاورة، شعرها منسدل على كتفها العاري، تحاول بشتى الطرق أن تُلفت انتباهه، إلا أنه لا يستجيب لها، ويقوم بغلق النافذة؛ ليغلق أمامها كل المنافذ، ورغم ذلك لم تخرج خالية الوفاض، فقد حصدت شباكها أحدهم وإن لم يكن المقصود.
جاء الصباح المنتظر مع اختلاف أحوال كل منهم ما بين مؤيد ومعارض، وتعلو الأصوات في استنكار، لا يُصدق العم قدري ما يسمعه بأذنيه، فقد حفظ ذلك السر طوال هذه السنوات، لمَّ كشفه إبراهيم الآن؟، وكيف له أن يعيش سواه؟
- سأتي معكم لرؤية صديقي، وحينها سيكون بيننا حديث آخر.
لم يجد العم قدري مفرًا أمامه سوى الذهاب معهم، لن يفيده الإنكار في شيء، وعليه أن يواجه مخاوفه الآن، لطالما أبعد محمد عن كل ذلك، وتعمد إخفائه، فصُدموا حين رأوه، تصرخ ملامحه بأنه منهم، وعلى المسافر يومًا أن يعود، ويلتم شمل العائلة من جديد.
حملت نبرته الحب المكلوم، فقد حرمته الأيام من قربه، وأمسى وحيدًا، وإن كثر حوله المحيطون، ابنه حبيبه قطعة منه، لم تُقر عيناه منه، ولم يشبع من ملامحه حتى كتبت الأيام عليهما الفراق، وتأخر اللقاء ولولا تلك الدعوات التي لم يكف عن اللهج بها في القيام لما كان.
- محمد، ولدي حبيبي، كم اشتاقت عيناي للتملي بك، ورؤية انعكاسي في سوادهما، فأنت الوحيد الذي ورثت لون عيناي.
حمل إخوته اللون الأخضر من والدته، وبدت ملامحهم كالأجانب، على عكس قلوبهم التي أظلمتها الغيرة، حين رأوا معاملة والدهم له، وما وعده به، يعتذر منه على تخليه عنه بذلك الشكل، وبدأت الأحقاد تظهر والعدواة تفوح من ذلك الأمر، ولكن كان للقدر رأي آخر، وكان ذلك الوعد الأخير، وكأن الروح كانت مُعلقة بهذه النظرة.
- تعال معي يا محمد.
أطرق محمد رأسه إلى الأسفل، وهو يُجيبه في حزن:
- يعز علي أن أتركك يا أبي، ولكن كما ترى أمي وإخوتي في حاجة ماسة إلي؛ وخاصة بعد رحيل الوالد.
نفذت كلماته بسهامها في قلب العم قدري، فقد كان يخشى قدوم هذه اللحظة، ظل يتهرب منها حتى اصطدم بها واقعًا، ولا يقوى على احتماله حقًا.

فقال له في ألم:
- كما تشاء يا بني، ولكن لا تنساني أرجوك.
- لا تخف يا أبي، لن أفعل والله.
ثم ارتمى محمد في أحضانه، واستسلم للحزن الذي يعصف بقلبه من كل الجوانب، لا يستطيع فراق أبيه، ويتألم لرحيل الآخر، فخرجت كلمات الرجاء من بين دموعه:
- لا تغادر يا أبي، ابق معنا أرجوك، يكفي رحيل الأب الذي وهبني الحياة، الآن سيبتعد عني من علمني كيف أحياها؟
لم يستطع العم قدري الرفض، فهو أيضًا لا يحتمل فراقه، ذهبا معًا إلى حيث يقيم العم قدري؛ ليُحضرا أشيائه وما يحتاجه، قد يبيع مسكنه أيضًا، فمسكنه حيث سيقيم محمد، ولن يقوى على البقاء في مكان هو ليس فيه، فلم تحتمل ذلك قريبة العم قدري، تهيم عشقًا بمحمد، وكيف لها أن تحتمل غيابه، لترجو العم قدري قائلة:
- خذني معك يا عم قدري، بالله عليك، تعلم بعد وفاة والداي، لم يتبق لي من أحد غيرك، فكيف تتركني هنا وحدي وسط الذئاب؟
فتاة هوجاء طائشة، ما بين رقيب أو عتيد عليها، تفعل ما تريد كيف تشاء؟، ولأجل ذلك كان ما يتناهى إلى الأذان سيئًا عنها، وإن لم يعلمه العم قدري، سمعه الجميع وأولهم محمد، فلم يتوقف عن صدها أبدًا، ورغم ذلك لم تفقد الأمل، وتريد الذهاب خلفه، وكان لها ما تمنت.
تستقبله السيدة زينب في هدوء مُغلف بالحزن، فما أن عاد الغائب، ذهب السند، وفقدت الوتد الذي تتكئ عليه، لتخور قواها، وتستسلم للأحزان تعصف بها من الجوانب جميعها، حيث حدث ما لم تتوقعه أو تتخيله قط، نجحت تلك اللعوب في إيقاع فتحي، وتزوج بها دون تفكير، وأطلق عليه اسم السيد وعلى نفسها حبيبت السيد هكذا يُنادونها، يلمع المال في عينيها، وأشعلت بنفسها شرارة النزاع بين الإخوة على الميراث، وكانت الطامة الكبري طرد سيدة البيت، وإهانتها بعد ذلك العمر.
- اخرجي من هنا أيتها السيدة، فتلك الشقة من حقي أنا، وإن فتحتِ فمك لن أرحمك قط.
تنظر إليها السيدة زينب في استنكار، لا تُصدق ما تسمعه بأذنيها، ويعجز عقلها على استيعابه، فانتظرت عودة ابنها من الأرض، وبداخلها اليقين والثقة بأنه لن يخذلها، وسيُريي زوجته مقامها، لينقلوه إلى المستشفى، وهي في حالة سيئة للغاية، حدث معها جلطة، فضربة القريب قاتلة وخاصة حين تظن بأنه الملاذ الآمن، تقول له في ألم:
- هل تقوم بطردي يا فتحي؟، أنا والدتك التي ربيتك وكبرت بين أحضاني، تفعل بي ذلك لأجل هذه.
فقام فتحي بدفعها، وهَّم أن يضربها لولا مجيء محمد الذي تشاجر معه، وبدأ الصراع بينهما، فلم تقو الأم على احتمال كل هذه الضربات التي تسقط فوق رأسها بلا رحمة.

كان إبراهيم يُشاهد في صمت خوفًا من أخيه فتحي، فقد تبدل حاله، وأصبح شخصًا آخر، نيران الغضب تشع من عينيه، ولا يرى شيئًا غير الذي تقوله زوجته، مسلوب الإرادة يسير تحت طوعها، وكأنه أُصيب بالعمى وهي أصبحت النور الذي يرى به.
ترسل إليه برسالة:
(لو أنك تزوجتني لما وصلنا إلى هنا، اخترت سمية بدلًا مني؛ فاضطررتني إلى ذلك، هل لأنها متعلمة فعلت ذلك أم لأنني لا أكفيك؟، وكيف تحكم على أمر لم تُجربه قط؟)
ليست بجريئة فقط؛ بل عديمة الحياء، تتودد إلى رجل وهي متزوجة، لم تكف محاولاتها عن القرب من محمد، تهجر زوجها وتذهب إليه في الليالي، تقبع أمام باب غرفته، ولا يسمح لها، تعود خائبة الرجاء إلى فراش زوجها، الذي هو رهن إشارتها دومًا، فتأبى عليه، ما أسوأه الشيطان حين يُزين للنفس كل ما هو محرم، فكما يقولون "كل ممنوع مرغوب"، فلم يجد محمد بدًا سوى الزواج بالفتاة التي يحبها في أقرب وقت، نطق قلبه باسم الحب حين وقع نظره عليها، ولم يعرف كيف السبيل ليعود كما كان؟، لا يكف عن التفكير فيها، فاقترحت عليه والدته الزواج منها، وتم كل شيء في لمح البصر، لم يشعر محمد بمرور الأيام والشهور التي جعلت أحلامه واقعًا، فأكلت الغيرة قلبها، وثار البركان، ففتك بكل شيء حوله الأخضر واليابس، تفرق شمل الأسرة، وتفشت الضغينة بين الأخوات، وأصبح جل ما يفوه من أشداقهم هو التحدث عن حقوقهم وتقسيم الميراث، غير مبالين بحالة والدتهم في المستشفى بين الحياة والموت.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي