1111

جاء الصباح على استحياء، فتلك الليلة لم تشهدها زينب أبدًا حتى في ليلة العمر، قلة الحيلة وقصر ذات اليد تُضعف المرء، وتشعره بالعجز وإن كان في قوة أعتى الرجال، ذلك الصفاء في ملامحه، ونقاء نظرة عينيه، لا يشوبها أي حزن، ولا يفتك به أي ألم وإن كان المرض ما زال موجودًا، توقظه في غير تصديق قائلة:
- انهض يا إبراهيم، ستتأخر عن العمل يا حبيبي.
ينظر لها إبراهيم في فرح مُغلف بالامتنان، تأخذه ذاكرته إلى الوراء، ويتذكر سر التحول الذي حدث في حياتهم بفضلها، ذلك الحوار حُفر داخل عقله كليةً، يعرضه الشريط أمامه، وكأنه يشاهد أحد الأفلام:
- اتركيه لنا يا أختي، وسأعمل ليل نهار أنا وزوجي لتقسيط المبلغ لكِ على دفعات، سأبيع عفش بيتي وكل ما أملك لأدفع لكِ أول قسط، فكوني وصلة خير بيننا أرجوكِ، وأقنعي زوجك ليبيعه لنا، والله لو في حيلتي أكثر لأعطيتكم فوق ما تطلبونه.
احتارت سعاد في البداية، فبمَّ ستُخبر زوجها؟، وهو يعلم بضيق حال إبراهيم جارهم، وبأن زوجته في كثير من الأحيان ترسل جزء من طعامهم إليهم، يعيشون بالكاد ووحده لطف الله من يشملهم بعنايته.
- لأجلي يا سعيد أرجوك، فهم جيراننا، والقريب أولى من الغريب، ولا أحد يدري قد يتبدل حالهم في يوم من الأيام.
- ولكن بالتقسيط يا سعاد، من الذي يبيع بيته بذلك الشكل؟، وكيف لنا أن نضمن بأنهم سيدفعون الباقي لنا؟
سعاد في عفوية قائلة:
- أنا أثق بهم والله يا سعيد، وأضمنهم برقبتي، فكيف لنا أن نتخلى عن جيراننا؟، العشرة لا تهون والله يا حبيبي، ولقد أكرمنا الله، وسنرجع لننعم في أملاكنا، والخيرات من حولنا كثيرة، فلمَّ نشق على غيرنا؟، أ نكون نحن والزمان عليهم؟
بدأت كلمات سعاد تلين عقل زوجها، وتسللت إلى قلبه؛ فوصل له شعورهم، يتذكر نفسه حين طرده والده، وضاقت الحياة في أعينهم، وطرقوا جميع الأبواب دون جدوى، ما من مجيب قط، وقرأت زوجته الحزن في عينيه، فأدركت ما أصابه، تعلم ما فعله حديثها، وإن لم تقصد، إلا أنه تذكر الآن كيف كان حالهم؟
فربتت على كتفه بيديها، تُهون عليه قائلة:
- سامحني يا سعيد، والله لم أقصد ما وصل إليك، فلمَّ الحزن إذن، وقد تحسن حالنا؟
- أنا بخير يا سعاد، لم يحدث شيء، توكلي على الله، وأخبريهم بموافقتنا.
تُقبل زوجته رأسه في فرح ممزوج بالفخر قائلة:
- شكرا لك يا حبيبي، الله يبارك لي فيك، ويديم وجودك الطيب، هذا هو زوجي الذي أحبه.
وقبل أن يرد عليها، فُوجئ بها تركض إلى الخارج، تريد أن تزف لجارتها الخبر السعيد، تُخفف عنها الحزن، وتُزيح عن كاهلها الثقل الذي تحمله فوق ظهرها، تعصرهم الأيام وكأن الهموم قد أقسمت ألا تتراجع عنهم.
تطرق على الباب دون توقف، وتسير زينب بثقل، ما زلت متعبة، ولا تقوى على الحركة، ذهب زوجها إلى الأرض، يعمل باليومية، ولا يكف لسانه عن اللهج بتلك الدعوة، وطارت الإجابة إليه، لا تعلم زوجته من أين جاءتها هذه القوة؟، تركض إليه وتناديه بأعلى صوتها، سقطت أكثر من مرة في الطريق إليه، فكانت تستند على نفسها، وتنهض ثانية، ولا يكف الأمر عن التكرار معها، ليسندها زوجها في آخر مرة، وهو ينظر إليها في خوف قائلًا:
- حرام عليكِ يا زينب، لمَّ تُتعبين نفسك بذلك الشكل؟ أ لم أطلب منكِ أن ترتاحي؟
زينب في لطف:
- أنا بخير يا إبراهيم، لا تقلق علي، وستكون أمورنا في أفضل حال الآن.
تعجب إبراهيم من حديثها، فأي حال تقصد، وهو لا يسر عدو أو حبيب، ليغزوه الفرح من كل اتجاه عند سماع حديثها.
- جاءتني الحبيبة سعاد، تطرق الباب على عجل، تقول لي ما حدث بينها وبين زوجها.
إبراهيم في قلق:
- ما الذي حدث؟، هل تشاجرا بسببنا؟
تهز رأسها في نفي، وتمزح معه قائلة:
- ليس بالضبط كما تقولين، ولكن ...
- ولكن ماذا؟
نظرات الخوف تشع من عينيه، وكلماته تفوح بالقلق، توشي به، فتلك الدعوة لهج بها لسانه منذ علمه بأمر بيتهم، ضاقت به الحياة، ولم يعد هناك من أمل، ينفذ إلى قلوبهم، معرضين للطرد في أي لحظة، تحكمهم أهواء أصحاب الأملاك، فما من شيء يخصهم.
- وافقوا يا حبيبي، وافقوا.
تقولها له في فرح، فانطلق من عينيه هو الآخر، قرُت بالاستجابة التي تمناها من أعماق قلبه، الآن سيغمضها مطمئنًا، أمانيه الآن أصبحت واقعًا بين يديه، يضع كل ما لديه والمال الذي ادخره في ذلك البيت، ينظر إلى أبنائه في ارتياح، الآن ضمن مستقبلهم، ولن يتعذبوا قط عند أصحاب العقارات، هذا البيت سيكون ملكًا لهم من بعده، يرثونه ويعيشون فيه بأمان،
يحتضن العم إبراهيم أولاده، ويضمهم إلى صدره بكل حب، يوصيهم على بعضهم البعض قائلًا:
- أبنائي الأعزاء، هذا بيتكم، ترابطوا فيما بينكم، ولا تفترقوا قط، كونوا عونًا لبعضكم، وسندًا أمام عواصف الأيام، لا تسمحوا لشيء أن يفرق بينكم.

فتحي وأحمد وإبراهيم ثلاثة أبناء، رُزقوا بهم بعد انتظار طويل، ظلوا خمس سنوات دون إنجاب حتى فقدوا الأمل، وطلبت زينب من إبراهيم الزواج بغيرها، ولكنه لم يوافق قط على قرارها، صبر واحتسب الأمر لله، فعوضه خيرًا بثلاثة أبناء أنجبتهم زوجته وراء بعض، من يراهم يظن بأنهم في نفس العمر، ولا يصدق بأنها أمهم، كانت صغيرة في مقتبل عمرها، وملامحها تعطيها سنًا أقل، وقع إبراهيم في حبها منذ أن رآها، وتزوجها على الفور.
عاشا معًا كل الأيام بحلوها ومرها، تعصف بهم كيف تشاء، وما زالا على العهد، لم يُحرك استقرارهم مشكلة الإنجاب، علاقة كُتبت في الصحف قبل مجيئهما إلى الحياة، فأشار إلى والدتهم قائلًا:
- هذه الست الأصيلة، احملوها على كفوفكم، صونوها واجعلوا مقامها عاليًا فوق رؤوسكم، لا تسيئوا إليها قط، فكرامتها من كرامتي، وابتسامتها هي سعادتي، لا تجرحوها؛ فتؤذونني.
استوعب الصغار كلامه، لم يشتد عودهم بعد، وعدوه بالحفاظ على العهد الذي أخذوه منه، يعمل لأجلهم ليل نهار دون كلل ولا ملل، ولكونه يُجيد أمور الفلاحة، اقترحت عليه زوجته، استغلال سطح بيتهم في زراعة مختلف الألوان، ولعل الثمار التي يحصدونها، تُضفي بخيراتها على الجميع، وفتحت لهم باب رزق جديد, يعمل العم إبراهيم في الأرض صباحًا, وفي المساء يجلس جوار مزرعته الصغيرة, وزوجته في الملابس ما زالت تُخيط الملابس للجيران, رفضت جارتها سعاد أن تجعلها تبيع ماكينتها, وتسدد بثمنها جزء من المبلغ الخاص بالبيت, فهي تعلم بأنها تعينها على مساعدة زوجها, فاستمرت في ذلك العمل حتى يُسددا المبلغ, وكان هذا وعدها لزوجها, بعد سوء حالتها الصحية كان معترضًا على إهانتها ثانية, وخاصة بعد ما اصطدم بتلك الجارة بذيئة الخلق, فلا بد بأن هناك الكثيرات مثلها, ولأجل ذلك لم تكن زينب تتذوق الراحة قط, فمن لديها فستان أو قميص عندها, لا ترحمها حتى تستلمه في أقرب وقت, فمن فستان إلى عباءة وبينهما أحد القمصان أخذت تنتقل دون هوادة, قالوا عن الدين بأنه هم بالليل ومذلة بالنهار, وإن كان أصحاب الدين الخاص بهم ليسوا كذلك, فقد رحلت سعاد مع زوجها إلى مقر رأسهم, ولم تكتب عليهم ورقة واحدة, فعلت معهم ما لم يقوم به القريب, العلاقات لا تربطها صلات الدم, فقد أصبح ماءً في كثير من العائلات, وتحول البعض منهم إلى مصاصين دماء, ينهشون في لحم بعضهم البعض, ولا يتوقفون عن النزاع أبدًا, يأكل القوي الضعيف منهم, صلة الرحم ليس في قاموسهم قط, وينتقل هذا الأمر بالوراثة إلى أبنائهم, ثم إلى الأحفاد.
في المستشفى...
تصرخ فريدة بهدى, تشتغل كالخادمة عند الممرضات, يرسلونها لتجلب لهم ما يحتاجونه, ويرمون لها بعض الجنيهات مقابل قضاء مصالحهم, الحلوى والوجبات الجاهزة تذهب لإحضارها من المطعم المجاور, وإن أرادوا شيئًا من المخازن أو الأدوار العالية داخل المستشفى, أرسلوها في طلبه, أ هذه هي الأمانة التي وصتها أختها عليها, وتركتها في حمايتها, تُهان أمامها بذلك الشكل, ورغم ما تفعله لأجلها, تعرضت للاستغلال, ولم ترحمها الممرضات هي الأخرى, فارتعبت هدى, وخشيت من الذهاب إليها, فتعاقبها, ركضت خارج المستشفى خوفًا منها, لحقت بها في قلق, وسمعت صراخًا بالخارج, وأختها ملقاة على الأرض في أحضان أحدهم, إذن مكروهًا ما قد أصابها, سقطت أرضًا, ولم تحملها قدماها, وكأنه قد أصابها الشلل, تشرح لها ما حدث إحدى السيدات, وتهون عليها ما هي فيه قائلة:
ـ هي بخير يا حبيبتي, لم يحدث لها شيء قط, هي مخضوضة فقط مما رأته.
تنظر لها فريدة في رجاء, تتمنى منها أن تُكمل, فلبت رجاءها قائلة:
ـ كانت تركض بأقصى سرعتها, فباغتت السيارة بظهورها فجأة أمامها, وأوشكت على الاصطدام بها, وإن فرمل صاحب السيارة لن يُجدي ذلك نفعًا, وسيصطدم أيضًا بالعمود أمامه, فالحمد لله الذي أرسل لها ذلك الشاب في الوقت المناسب, لولاه يا ابنتي, لم تكن لتنجو قط, الحمد لله قدر ولطف.
هدأت أنفاس فريدة واستكانت, أختها بخير, ولم تخن الأمانة, كانت تظن بنفسها السوء, ولم تتركها في حالها الخواطر والهواجس السيئة, تعصف بها من كل اتجاه, تريد الفتك بها كحال أبيها, حين ضاقت الحياة في عينيه, تتذكر ما حدث معه قبل ذلك اليوم المشئوم, سمعت دون قصد حديثه مع والدتها.
ـ ماذا حدث يا محمد؟, لم أنت مستاء بذلك الشكل؟
ـ لا أجد لنا بيت يُناسبنا يا سمية, الإيجارات عالية, ومن أين لنا بالمال, فكما ترين الخارج أكثر من الداخل.
ـ هون عليك يا حبيبي, الله لطيف خبير, ولن يتركنا نتخبط في الحياة بذلك الشكل.
صمتت للحظات, وكأنها تُفكر فيما ستقوله ثم خرجت من سكوتها قائلة:
ـ وماذا فعلت مع أخواتك يا محمد؟, أ لم يعرف أخيك الكبير بما آلت إليه أحوالنا؟
لم يُجب محمد, واكتفى بالصمت, جاءه الخذلان منهم أيضًا, ودخل لهم الأذى من باب العشم, الذي قتلهم ببطء.
لتقول له في استنكار:

ـ هل من المعقول بأنه رفض مساعدتك؟, للمرة الثانية يتخلى عنك, يا ليتك سمعت كلامي من قبل, فقد أخبرتك بأنه ليس بأخ أبدًا, ذلك الذي يترك إخوانه يتقاتلون, ويُشاهد في صمت كالبقية, ولا يقدم له يد المساعدة, بيديه مفتاح الحل, ويستأثر به لنفسه, لنظل هكذا, تقيدنا قلة الحيلة وقصر ذات اليد, فنحن لا نملك ما يكفي من المال لشراء بيت يأوينا.
ـ الله أحن من الجميع يا سمية, هوني عليكِ.
السيدة سمية في حدة:
ـ ولكنه حقنا يا محمد, نحن لا نتسول على أحد, طلبت منك أن تسأله في شراء حقنا, ويبيعه كيف يشاء, وبأي ثمن لعلنا نجد مكانًا يسترنا, ونتركه لبناتنا من خلفنا, فما من سند لهم.
مرت الليلة كالدهر في انقضائها, كل منهم يحمل الهم فوق كاهله, لا قوة لهم على التفلت من بين براثنه, فهو إن التصق بالبعض, لا يُفارقهم بسهولة قط, يتألمون في صمت, فالبوح لن يُجدى نفعًا, بل يُزيد آلامهم, أطبقت الحياة كطرفي المقص على أعناقهم, فضاقت الأنفاس, وصعب عليهم التنفس بشكل طبيعي, ولم يعد زوجها أي باب يُطرقه, فلطالما وقف جوار إخوته, لم يتأخر عنهم للحظة إن طلبوه, والآن حين احتاجهم, انفلتت كل الأيادي بعيدًا عنه, ولم يجد أي منهم جواره.
ـ العشم يا ابنتي, كالسم في العسل, فإياكِ وتكرار غلطتي أنا وأبيك.
تتحدث السيدة سمية مع ابنتها البكر, أقربهم إليها, وتعلم بأنها ستستوعب حديثها, لا تُريد أن تُشغل الصغيرتان, وتكشف لهما حقيقة أقاربهم, فما من معين لهم ولا سند, توصيها عليهم من بين دموعها, ألا تتكرر تلك الحكاية ثانية, وتكون عونًا لأخواتها, لم يجدوا قط من يقف جوارهم, لا من عائلتها ولا عائلته, اختفى كل الموجودين وكأنهم سراب, لم يكون لهم وجود قط.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي