١١

يسير العم محمد هائمًا على وجهه، من عمارة إلى أخرى ينتقل بحثًا عن شقة مناسبة لأجل عائلته، فقد فاجئه أولاد صاحب العمارة، الذين اعتبرهم في مقام أبنائه، وأحسن إليهم منذ معرفته بهم، وكان لهم خير سند ومُعين بعد وفاة والدهم، وكان ذلك جزائه، يردون له الجميل بطرده من البيت هو وبناته، وهم يعلمون بأنه من الصعب عليهم إيجاد مكان آخر، وهذه المهلة البسيطة التي أعطوهم إياهم، وكأنهم يتعمدون رش الملح على جروحهم، فمعاش الأب يكفي بالكاد الإيجار، وأمام تلك الأسعار الموهولة، أنىٰ لهم بتوفير مسكن آخر!، ولم يكتفوا بذلك فقط بل قاموا بقطع وصلة المياة عنهم؛ ليعيشون كما بالخيام، يُخزنون المياة، ويستخدمون الجردل لتنظيف مُخلفاتهم.
-أم حسن، هل المياة موجودة لديكِ؟
-نعم يا حبيبتي، وبوفرة بفضل الله، لا تقطع لدي قط.
-لا حول ولا قوة إلا بالله، هونها بفضلك يا الله.
تضرب السيدة سمية كف بكف، فالخط واحد في هذا الشارع، فلم المياة عند الجميع، وليست عندها، صدمة تلو الأخرى تسقط فوق رأسها، أ ليست زوجة صاحب العمارة صديقتها؟، لما تغدر بها بذلك الشكل؟، وهي لم تر منها سوءًا قط، ولطالما عاملتها أحسن معاملة، تُساعدها في كل شيء، وتحمل عنها العديد من المهام، فكيف تناست كل ذلك بهذه السهولة؟، تحمل سماعة الهاتف في غضب، تتصل على ذلك الرقم الذي تحفظه عن ظهر قلب، فلطالما جمعت بينهما أحاديث وحكايات كثيرة.
-لما المياة مقطوعة عندي يا أم حسام؟
لم تُلق التحية أو تسألها عن أحوالها كالمعتاد، دخلت في صلب الموضوع مباشرة بمجرد ما أجابت الأخرى على اتصالها.
-أم نور، ما بكِ، لما تتحدثين معي بذلك الشكل؟
-طفح الكيل يا أم حسام، لم نر المياة منذ أيام، والغريب بأنها موجودة عند الجيران.
أم حسام في حدة:
-وما ذنبي أنا؟، فخطنا ليس بواحد، وأنا أيضًا أعاني من قلة المياة.
-قلتها لا غيابها قط، البيت لدينا في حالة مزرية، والله لو جئتِ لدينا لما احتملتِ المنظر أبدًا، فهل هناك بيت دون مياة يا عالم.
-حالة مزرية لا والله ما أحتمل رؤية ذلك، أخذت أخت زوجي ملابسنا لتقوم بغسلها، وتأتي لنا بالمياة.
-وماذا نفعل نحن؟، تعلمين بأنه ليس لدينا من أحد يُساندنا، ولن نعيش تسولًا على الجيران، حرام عليكم، افعلوا شيئًا، أ ليس البيت بيتكم؟، لو قدمتوا شكوى لتبدل الوضع، فهذه العيشة لم تعد تُطاق.
أم حسام في غضب:
-وما الذي يُرغمك عليها يا أم نور؟، دعي الشقة واذهبي إلى أخرى، أما بالنسبة إلينا فهذا ما لدينا، واعذريني مُضطرة لإنهاء المكالمة معكِ، فهناك من يرن جرس الباب.
أغلقت الخط في وجهها، تتركها مع الوساوس والخواطر السيئة؛ لتفتك بها، لم تخش على شعورها أو تصون الود ولو اصطناعًا، صرحت لها دون تردد بأن البيت لن يقف عليهم، وهي التي لطالما أخبرتها بأنهم عائلة، ولن تسمح لها قط بالرحيل بعيدًا عنها، لن تجد يومًا أسرة طيبة مثلهم، تُأمنهم على روحها وكل شيء، وما أسهلها الوعود تتبخر في الهواء، وكأنه لم يكن لها وجود منذ البداية، ومن هنا فقدت قداسيتها، وأصبحت كلمة عابرة، يتفوه بها كل من هب ودب.
سقطت العبرات بلا هوادة من عينيها، ليحتويها وطنها الدافئ، تضمها نور إلى أحضانها، وهي تقول لها في آسف:
-لقد حذرتك منها يا أمي، ولكنك لم تستجيبي لأي مما قلته، انجرفتي وراء عاطفتك النادرة، وخدعتك بكلامها المعسول، فلا تحزني يا نور قلبي، ونبض فؤادي، فالحياة دروس وعبر، والوقت يداوي كل شيء مع مرور الأيام.
السيدة سمية في ندم ممزوج بالحزن:
-يا ليتني سمعت كلامك يا بنيتي، سامحيني أرجوك، لم أتخيل يومًا بأنها قد تتبدل بذلك الشكل، وتصبح وعودها ذكرى سيئة تلحق بنا، فوالله لم أقفل بابي في وجهها يومًا؛ لتُغلق هي علينا شريان الحياة بذلك الشكل، كم أن الإنسان لظلوم كفار.
-الحمد لله يا أمي الذي قد أظهر لنا حقيقتها، لا تستأي أبدًا، فالله هو الحكم العدل، ولن يهون عليه كسر خاطرك، سيعوضنا ويخلف علينا خيرًا بكرمه سبحانه.
-يا رب يا حبيبتي، يا رب، فكم تعرضنا للإهانة في هذه الحياة، بداية من عمك الذي لم يرحمنا، وأرغمنا على مغادرة شقتنا مقهورين، واضطررنا للسكن بالإيجار، فيتحكم بنا أصحاب العمارات، وننتقل من مكان إلى آخر، ولم تعد صحتنا تحتمل المرمطة بذلك الشكل.
تنفذ كلمات والدتها كالسهم في شغاف قلبها، تُصيبه بجروح غائرة، فهي لو كانت تعمل لاستطاعت مد يد العون للعائلة، وساعدت والدتها في الإبجار ومصاريف البيت، ولكن ما باليد حيلة، مجالها ليس مطلوبًا في سوء العمل، تصطدم بالرفض في كل مرة، ولولا إيمانها بالله لكرهت نفسها، فالإيمان هو زاد المرء وقوته عند الشدائد.
تقول لوالدتها في ثبات:
-ستمر والله يا أمي، فالله لطيف خبير، حاشاه والله أن يخذلنا.

تُهون على والدتها، وتصطنع أمامها القوة، لا تعرف كيف تفعل ذلك مع نفسها؛ فهي مُحطمة، خاطرها مُفتت إلى أجزاء، تشعر بالغربة بين البشر، وكأنه لا مكان لها في هذه الحياة، يعود بها الذاكرة إلى الوراء، فتسقط دمعة سهوًا من عينيها، قريبة هي الدموع، تُحيي الحزن، وتُجدد الألم بداخل كل منا.
-نور الدحيحة، الدحيحة نور.
هكذا كان يُسمونها, ينظرون لها بحقد, فكان مُتوقعًا للغاية ما حدث, مزقت الكتب الخاصة بها, ولم تعد تطيق الجلوس عليهم, تقترب الامتحانات, وهي لا تعرف شيئًا قط عن منهجها, ولا تقبل بالغش, لم تُوفق نور في دراستها, فانتهى بها المطاف في كلية لم تحلم بها في أسوأ كوابيسها حتى, لم يكن هينًا عليها تقبلها, مر العام الأول والثاني بفضل الله, دخلت نور السنة الثالثة, والمنهج الذي تدرسه غريبًا عليها, ففوجئت بمواد تُشبه التي أرادت دراستها في كلية الطب, الهدف الذي لطالما تمنت الوصول إليه, بل بكر أحلامها على الإطلاق, فكان ذلك بمثابة نقطة التحول في حياتها, ورغم ذلك اصطدمت بمعوقات عدة, مازالت تكره الكتب, ويَصعب عليها المذاكرة, لم تصل, ولم يرحمها من حولها, يُبكتونها فكيف لم تلتحق بكلية الطب؟, وهي الدحيحة التي تلازم الكتب دون انقطاع, يُزيدون من معاناتها, أخفقت وما زال الحقد مُحيطًا بها من كل اتجاه.
ـلأجلي حاولي يا نور, فقد يُشرق الأمل في حياتك ثانية, لا تُبالي بكلامهم, فهم ليسوا بمحبين, ولن يفهموا أبدًا شعورك, وصدقيني أنا أشعر بكِ, أنتِ بطلتي المحاربة التي لم تستسلم قط, وإن تعثرت أكثر من مرة, فهذا ليس عيبًا, بل أمر طبيعي.
تربت كلمات والدتها على قلبها, تُنبت من بين شروخ اليأس ورودًا وأزهارًا, تُحيي بداخلها ما انكسر, فتنعكس في عينيها نظرة, افتقدتها والدتها منذ زمن بعيد, لتقول لها في امتنان:
ـشكرا لكِ يا أمي, أدام الله وجودكِ الطيب, فأنتِ نور حياتي وفرحة أيامي, لا حرمني الله منكِ.
تُقبلها والدتها بكل حب قائلة:
ـأنتِ بنت عمري يا نور, أول من رآت عيناي, ولكِ في قلبي عظيم الحب والمكانة.
أصبحت ليل نور نهارًا, ونهارها يسير على عجل, من البيت للجامعة, ومن الجامعة للبيت, وحين تعود تبدأ القصة من البداية, نور منكبة على كتبها في الغرفة, تُذاكر دروسها دون توقف, تبذل مجهودًا مضاعفًا, لتعوض ما ضاع منها خلال السنوات الماضية, فالمنهج مُتصل ببعضه البعض, تضع اللبنات الواحدة فوق الأخرى لبناء حجر الأساس, تُقوى أعمدة تخصصها, فقد فُوجئت بأنه مطلوبًا في الخارج, وذو قيمة ليتحول بغضها الشديد له إلى عزيمة وإصرار, تُريد أن تثبت نفسها, فكم كانت طموحة منذ الصغر, وأحبطتها الأيام, بل سرقت منها فرحتها, وأصبحت الابتسامة عزيزة عليها, لا تعلو ثغرها إلا بحساب, وكأنها تدفع ثمنها مُقدمًا, ولم يعد في رصيدها ما يكفي للسداد.
ـالله يرزقك الفرح يا عمري, ويعوض عليكِ بجبر يتعجب له أهل السماوات والأرض اللهم آمين.
لا يكف لسان والدتها عن اللهج لها بمختلف الدعوات, ترجوه من بين دموعها أن يُسعد قلب ابنتها, ويُهون عليها مصابها, فكم تألمت في حياتها, وعانت كثيرًا في هذه الحياة, أساء إليها القريب قبل البعيد, يُكيدون لها بالشر, ويتمنون لها عدم النجاح, ولعلها طوق النجاة يُكمن من دعواتها, يدفع عنها الأذى من كل جانب, ومنها استمدت ابنتها القوة.
في المستشفى...
العم محمد لا يشعر بالحياة, وزوجته أيضًا في الغرفة الأخرى, وتفترش فريدة الأرض بملابسها, وفي أحضانها هدى نائمة, فقد أصبحت الآن بمثابة أمها, وأوتهم المستشفى بعيدًا عن ظلم أصحاب العمارات, هي الآن ملجئهم وخاصة بأنهم مهددين بالطرد في أي لحظة, ولا تؤل نور جهدًا لتوفير احتياجاتهم, تعمل في أحد المولات التجارية كبائعة, وتتعرض لمختلف أصناف الإذلال من أشخاص تعرفهم, وآخرين تلذذوا بإهانتها, وهي الفتاة المسالمة التي قذفتها الحياة بلا هوادة وسط النيران, يقع على عاتقها الآن كامل المسئولية, ما بين إحضار العلاج لوالديها, فالبعض منه لا تُوفره المستشفى, وجلب الطعام لأخواتها, وهذا ما يكفيه راتبها بالكاد.
ـ أنا جائعة يا فريدة, بطني تؤلمني بشدة.
ـنور في الطريق حبيبتي هدى, اصبري قليلًا, وستكون هنا.
ـ لا أستطيع يا فريدة والله, جائعة جائعة, وهناك أصوات تصدر من بطني.
تبكي هدى لأختها من شدة الجوع, لم تعد تطيق الاحتمال قط, فهي تظل دون طعام منذ الصباح حتى قدوم المساء, فنور تذهب إلى عملها مع أول شعاع للضوء, ينعكس على الأرض, ولعلم صاحب العمل بحاجتها, لا يكف عن اضطهادها, يُلقي على مسامعها مختلف الألفاظ, فما أسوأها الأيام, لم يكن أحدهم ليجرؤ على مجرد النظرة, الآن أصبحت الإهانة غير بعيدة عليها.
ـ أنا آسفة يا حبيبتي, تأخرت عليكِ, ولكن لم يكن الأمر بيدي والله, فانظري ماذا أحضرت لكِ؟

تعتذر نور لأختها في حزن دفين, فكم تؤلمها تلك الدموع التي تراها كل يوم, ويَصعب عليها اعتيادها, فقطعة من روحها تعاني, ويفوق الأمر احتمالها, تضمها إلى أحضانها في ألم, يفوح من نبرة صوتها قبل أن يحرق وجنتيها بالعبرات التي هطلت فوق صغيرتها كالشلال, تولت رعايتها منذ نعومة أظافرها, والأن بعد ما كبرت أناملها الصغيرة, لما لا تستطيع القيام بذلك الدور؟, ولا تدري لما تذكرته في هذه اللحظة بالذات, هل لأنه لطالما سماها بصغيرته؟, وحين احتاجته لم يقف جوارها, وتناسى كل الوعود, يراها غريبة عنه, ويعطيها بقسوته عمرًا فوق عمرها, ترى أمامها آخر لقاء جمعهما, لا تعرف كيف تهدأ؟, وكلما تحدث ازدادت شهقات البكاء, ليتوسلها قائلًا:
ـاهدأي يا نور أرجوك, والله لم يكن هينًا علي أن أتركك, ولكن أخذتنا الحياة في منعطف ضيق, وصَعب علي اختيار الاتجاه.
تُبعد يديه عنها في قسوة, وتصرخ به ألا يقترب منها, فما باله يُعلمها الحب, ويغدر بقلبها مُحدثًا به مختلف الشروخ, وهي التي أحكمت غلق بابه, سرق منها مفتاحه, وألقى به في الهاوية, فأصبح ممزقًا, يسهل على الجميع الولوج إليه, والعبث به كيفما شاءوًا, عرفت من خلاله الثقة في الآخرين وبغضتها, فحتى الحب لم تُوفق فيه, أخذت تُغالب الشهقات لتتحدث, تسأله في لوم قائلة:
ـ لم اقترب ت من ي, وغيرت ني طالما ست بتعد, فكم كنت سع يدة في حياتي تلك, وإن لم تكن ب ها ما يُب هجني, إلا أنني اص طبرت عليها, فكم سلبت من ي الحياة, ولأجل ذلك زه دت فيها, ولم أعد أرغ بها حتى جئت أنت.
توقفها العبرات بين كل جملة وأخرى, حتى الجملة الواحدة لا تُكملها, لطالما خشيت الحب, ويزداد خوفها كلما سمعت عنه, ليُحطم إبراهيم كل القيود, تختفي أمام سحر كلماته ومعاملته الطيبة لها, وكأنه لم يكن لها وجود قط.
ـ اسمعيني يا نور أرجوك, فلدي الكثير لأقوله, وقد تتغير نظرتك لي عند سماعها.
لا تبالي نور بكلامه, وتستند على الحائط خلفها بكل قوتها, تُريد النهوض, فعائلتها في المستشفى, كيف تتركها وحدها, وهي بكر أخواتها, فكانت نور تسقط مع كل مرة, حاولت النهوض بها, وتصرخ به في قوة إن حاول الاقتراب منها, لا تُريد منه أي مساعدة, يكفيها ما رأت منه.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي