1111111111
- الحمد لله على سلامتك يا بني، انتاب قلبي القلق عليك، لمَّ تأخرت بذلك الشكل؟
- اعذريني يا أمي رغمًا عني والله، فقد كنت في المستشفى.
- المستشفى!
تسأله في فزع، وعلامات القلق تغزو ملامح وجهها، ابنها الوحيد - فلذة كبدها - كاد أن يموت، بل هي من لم يعد لها وجود.
ينظر كريم حوله في ألم، لا يُخفى في الوجه قبل العين، فقد كان يتوهم، أو لعله يلجأ إليها حين يشتاق إليها، عصف المرض بوالدته بعد رحيل والدته، فالنفسية لها أثر كبير على الحالة الجسدية، ولكونها كانت تحبه؛ بل تهيم عشقًا به، لم تقو على احتمال فراقه، أنينها يهز الأرجاء، وصرخاتها تخلع القلوب من الأبدان، كيف له أن يفعل ذلك بها؟، فما لبثت أن انتفخت أوداج كريم وهو يتذكر ما حدث في السنوات الماضية، وتلك الواقعة التي حُفرت بداخل عقله، فلم تُغادره أبدًا.
يُنادي عليها في رجاء ممزوج بالخوف، فهو يعلم بأنها لن تعود، ولكن يبقى مُتشبثًا بالأمل :
- أمي، أمي، تعالي إلى هنا، أين ذهبتِ؟
يبكي كريم بحرقة على واقعه الأليم، عانت أغلى إنسانة على قلبه، وقف يشاهد عاجزًا، ليس بيديه فعل أي شيء رغم المحاولات التي لم يتوقف عنها، لم يؤل جهدًا لتصبح أمه بخير، يعمل ليل ونهار لأجل توفير المال اللازم لعلاجها، قامها بإدخالها إلى أحد المصحات النفسية، يُشاهدها الآن أمامه، وتمتزج دموعه بالتراب أسفل قدميه، فهو لا يعيش في بيت منذ رحيلها؛ بل في مكان يُشبه صندوق القمامة، غادرت عن العالم تلك التي كانت تهتم بشؤونه، وترعاه بكل حب، فسعى لرد جميلها بشتى الطرق، ولكن كان للقدر رأي آخر.
- دعوني، أريد الرحيل من هنا، زوجي حبيبي مصطفى، أين أنت يا نور حياتي وبهجة أيامي؟، ضاقت الحياة في عيني منذ رحيلك، ولا قوة لي والله على مواجهتها.
صوت صراخها يهز أرجاء المستشفى، فجاء كريم ركضًا من الخارج، قلبه يكاد ينخلع من مكانه عند سماع صوتها، يدلف إليها، فترتمي في أحضانه حين تراه، وتتوسله من بين دموعها قائلة:
- خذني من هنا يا كريم أرجوك، لا تتركني وحدي يا حبيبي هنا.
- سامحيني يا أمي، فأنا والله أتمنى ذلك أكثر مني، ولكن هذا هو الحل الوحيد لتبقي معي حتى تتحسن حالتك.
اضطر كريم إلى إدخال والدته المستشفى بعد المحاولة الرابعة لها للانتحار، لا تتوقف عن ايذاء نفسها، ترفض طلاق زوجها، ووقفت أمامه في المحاكم، وكأننا نشاهد هنا "آسفة، أرفض هذا الطلاق"، القصة ذاتها، لينتهي بها المطاف إلى هنا، فهي لم تعد على حافة الجنون، بل توغلت حتى وصلت إلى القاع، ترفض الحياة بكل أشكالها، لا يفرق معها أنين ولدها، ولا يهز شعرة منها سوء حالته، كبر قبل أوانه، لفظته أمي على عجل، وألقت به في تلك الدوامة قبل أن يشتد عوده، ابن الخامسة عشر، يحفر في الصخر ليل نهار، ويتعرض للإذلال من مختلف الفئات، لم يترك وظيفة إلا وعمل بها دون كلل أو ملل، لا تجد منه تذمرًا قط، كالشمعة المضئية يحرق نفسه لأجلها، وتبقى هي هزيمته الوحيدة، قامت جدته بتربيته، فلطالما ظن بأن أمه قد فقدت حياتها أثناء ولادته، يتذكر تلك اللحظة التي لا ينساها، فكانت بمثابة النور والظلام له في نفس الوقت، يقول لجدته في غير تصديق:
- أمي على قيد الحياة معقول، أمي لم تمت كما أخبرتموني، لمَّ إذن كذبتم علي، وتركتموني أعاني مع هذا الذنب منذ مجيئ، وكأن وجودي كان بمثابة اللعنة، التي لا يرغب أحد في قدومها.
جدته (سميرة) من بين دموعها:
- لا تقل ذلك يا حبيبي، أرجوك، فوالدتك ليست بخير والله، ولم يُطاوعني قلبي لأُخبرك بحالتها؛ ورأيت بأن خبر موتها سيكون أهون إليك من خبر جنونها.
كريم في استنكار:
- جنونها!
- نعم يا بني، والدتك محجوزة في أحد المصحات العقلية، وحالتها تزداد سوءًا، ولولا حاجتها إليك ما أخبرتك.
- أمي مجنونة، ولولا احتياجي إلي ما أخبرتَّني، يا لها من نكتة رائعة، فمن الذي يُصدق بأن ذلك قد يكون واقعًا؛ بل باب من أبواب الجحيم، قمت بفتحه أمامي على مصراعيه.
- ولأجل ذلك خبأت الأمر عنك؛ لكوني أحبك يا كريم.
كريم في سخرية:
- أجل تُحبينني، وقمتِ بإخباري أن أمي ماتت أثناء ولادتي، لتخسر حياتها عند وهبي إياها، وما أقساها من حياة تلك التي عشتها دون وجودها، حرام عليكِ يا جدتي ما فعلتيه بي، فلمَّ حرمتيني منها يا جدتي.
تهز جدته رأسها في نفي، وتقول له في آلم:
- لأجلك يا بني، فالناس لا ترحم والله، ولو قالوا لك يومًا يا ابن المجنونة، ما احتملتها قط، ولارتدت في عينيك نظرات كره لها، وهذا سيكون قاسيًا عليها يا كريم، يكفيها كره والدك، الذي كان السبب الأساسي في تدميرها.
- والدي، وهل هو الآخر لديه قصة مختلفة عن التي أخبرني بها؟
نظرت له جدته نظرة ذات معنى، يفوح الألم من بين شفتيها، وهي تكشف له ما فعله ذلك الرجل الذي يسمى أبيه في حق ابنتها، خدعها باسم الحب، واستوطن قلبها، فلم تعد ترى سواه حتى أقرب الناس لها، يعطيها السم في هيئة مشروب لذيذ ألا وهو التعلق، لا تحتمل فراقه لثانية واحدة، يتصل بها في كل لحظة، لا يتركها إلا وهي تفكر فيه، يقترب منها حد
الالتصاق، ويبتعد عنها حد النفور، فلا تفهم له شعور قط، ولكنها رغم ذلك تُحبه، وتعيش كالخادمة تحت قدميه، لا ترفض له طلب قط حتى ولو كان على حساب راحتها، وبمَّ ستفرق معها الراحة، وكلا الأمرين سواء بالنسبة لها، غادرتها الراحة منذ دخوله حياتها، وأثمرت علاقتهما بطفل جميل أحبته بشدة، ولم تتخيل قط بأن الحياة قد تعصف بأحلامها.
- ماذا تقول يا عاصم؟، طلاق، من الذي أخبرك بأنني أريد الطلاق؟
يحمل عاصم السيجارة بين يديه، يزفر الدخان في لا مبالاة، فتحترق روحها كالسيجارة بين يديه، لا يفرق معه ألمها، ومن هي ليُبالي بأمرها؟، يبوح بها بالحقيقة التي أخفاها عنها طوال هذه السنوات قائلًا:
- أنا الذي أُخبرك يا ضحى، فقد مللت من ذلك الدور الذي أقوم بتمثيله، سئمت من حبك لي بل جنونك بي، والآن وقد عرفت معناه أقول لك بأني لا أحبك؛ بل أهيم عشقًا بأخرى، ولكنك تعرفين ماهية الإحساس، لا تكوني أنانية واتركيني لأرحل في سلام.
وقعت كلماته كالصاعقة عليها، وسقطت على السرير خلفها، ولحسن الحظ لم تصطدم بالأرض، كريم كان بين يديها، وانفلت على الفراش، وإلا لفُتحت رأسه، أخذ يصرخ بشدة، يبكي من الخوف، فقد ارتعب حين تركته بذلك الشكل.
ظلت صامتة للحظات ثم نزلت تحت قدميه، ترجوه من بين دموعها قائلة:
- حرام عليك يا عاصم، لا تقتلني بذلك الشكل، فأنت تعلم بأن لا قوة لي للعيش دونك، أتألم في جوارك، فكيف يكون حالي عند غيابك؟
يبعدها عنه في قوة، وهو يقول لها بنزق:
- لا دخل لي، ابتعدي عني يا ضحى، وإياكِ المحاولة في الوقوف أمامي.
ركضت ضحى نحو المطبخ، أحضرت السكين ثم قامت بقطع شرايين يدها أمامه، وسقطت أرضًا فاقدة للوعي، لينقلها إلى المستشفى على عجل، وتنجح هذه المرة في تخييب مسعاه حيث فشلت خطته، ونجت هذه المرة بحياتها، ولا يعني ذلك بقائها على قيد الحياة؛ بل وجوده بجوارها.
في المستشفى
العم قدري يحمل هدى بين يديه، حيث استسلمت للنوم بعد شعورها بالأمان، ويبحث عن أختيها في قلق، فرأى إبراهيم خارجًا من إحدى الغرف، هرول باتجاهه، يسأل في قلق قائلًا:
- أ لم ترى نور وفريدة يا بني؟
سكنت ملامح إبراهيم عند سماع تلك الكلمة، وكأن العم قدري تناسى المشاكل والخلافات، وكل ما حدث خلال تلك السنوات، ويفتح معه الآن صفحة جديدة بتلك الكلمات، ولكن العم قدري كان في واد غير واديه، لا يُحسد عليه أبدًا، ليُجيبه إبراهيم في هدوء قائلًا:
- نور الآن نائمة، أعطتها الممرضة المنوم بأمر الطبيب، فوضعها ليس بجيد.
العم قدري في قلق:
- نور ليست بخير، أخبرني بالله عليك ما الذي حدث؟
لم يخف عليه إبراهيم، فقد كان في حاجة ماسة لمن يسمعه، ولن يجد آذن صاغية لهذا الموضوع بالذات غيره، لم تعد عائلته ترغب حتى في سماع اسمها، ينظر إلى تلك الغرفة في آخر الصف، ليست بغريبة عليه، يحفظها جيدًا، وتلك المرأة التي تبدو صورتها مألوفة بالنسبة إليه، ولكن الزمن هو من تغير، وكأن التاريخ عاد به إلى الوراء، يسمع صوت الحوار بين الأطباء، والممرضات تستجيب لأوامرهم في نفس الثانية، وما هي إلا لحظات وفقد الاتصال، يبدو بأن الحياة قد توقفت عنده كما أراد، فقد حاول إنهاء حياته، وكأن ذلك الأمر بلعبة، وليس هناك حياة أخرى، حيث سيحاسب المرء فيها على كل ما فعله حين كانت روحه بداخل الجسد، ويرى جزائه حين لم يعد له عليها سلطان، فمن هو لينُهيها؟
مرت الأيام والأسابيع، وصارت شهورًا على نفس الوتيرة، وأخبروه بأنه مر ٦ أشهر على دخوله المستشفى، ولا ينسى مشهد والدته وهي تقبع جواره، والهالات السوداء قد غزت تحت عينيها، وملامح التعب قد تمكنت منها، تقول له في استياء:
- لمَّ فعلت ذلك بنفسك يا إبراهيم؟، أ لم تخش عقاب الله؟، كيف وصل الحال بك إلى هنا؟
التزم إبراهيم بالصمت، يسمع تأنيبها له دون مقاطعة، يعلم بأنه قد أخطأ بحقها؛ بل بحق نفسه، بل ارتكب ذنب عظيم، يرجو الله أن يُسامحه، ويغفر له خطئه، وهذا ما لم تعرفه نور، ولا هو عرف بوضعها أيضًا، ظل كل منهم أنه ينعم في غياب الآخر، وهذه لم تكن بالحقيقة أبدًا، وانكشفت أمام إبراهيم، فلم يلبث عند سماعه أن أخبره بسوء حالة نور، وكيف أنها اقتربت مثله من الموت؟، وأنجاها الله برحمته.
- لن تبكي ثانية يا عم قدري، أعدك.
قالها إبراهيم في ثقة، وهو يربت على كتفيه، فيكفيه ما رآه هو ونور، لن يتأخر ثانية أو يلجأ للهروب كعادته، سيقف أمامه، وليكن ما يُريد، يوكل أموره بين يدي الله، ويعقد العزم على الزواج بها، وهو يدعو الله أن تنكشف الغمة، ويخرج الجميع من هذه المستشفى سالمًا.
في هذه اللحظة جاءت فريدة، وكادت أن تتشاجر معه، ولكن العم قدري أوقفها في حزم قائلا:
- عيب يا فريدة، كان والدك خير الرجال، ولم يسيء إلى الصغير قبل الكبير، لتسئ أنتِ بضيفنا؛ بل زوج أختك بذلك الشكل.
- اعذريني يا أمي رغمًا عني والله، فقد كنت في المستشفى.
- المستشفى!
تسأله في فزع، وعلامات القلق تغزو ملامح وجهها، ابنها الوحيد - فلذة كبدها - كاد أن يموت، بل هي من لم يعد لها وجود.
ينظر كريم حوله في ألم، لا يُخفى في الوجه قبل العين، فقد كان يتوهم، أو لعله يلجأ إليها حين يشتاق إليها، عصف المرض بوالدته بعد رحيل والدته، فالنفسية لها أثر كبير على الحالة الجسدية، ولكونها كانت تحبه؛ بل تهيم عشقًا به، لم تقو على احتمال فراقه، أنينها يهز الأرجاء، وصرخاتها تخلع القلوب من الأبدان، كيف له أن يفعل ذلك بها؟، فما لبثت أن انتفخت أوداج كريم وهو يتذكر ما حدث في السنوات الماضية، وتلك الواقعة التي حُفرت بداخل عقله، فلم تُغادره أبدًا.
يُنادي عليها في رجاء ممزوج بالخوف، فهو يعلم بأنها لن تعود، ولكن يبقى مُتشبثًا بالأمل :
- أمي، أمي، تعالي إلى هنا، أين ذهبتِ؟
يبكي كريم بحرقة على واقعه الأليم، عانت أغلى إنسانة على قلبه، وقف يشاهد عاجزًا، ليس بيديه فعل أي شيء رغم المحاولات التي لم يتوقف عنها، لم يؤل جهدًا لتصبح أمه بخير، يعمل ليل ونهار لأجل توفير المال اللازم لعلاجها، قامها بإدخالها إلى أحد المصحات النفسية، يُشاهدها الآن أمامه، وتمتزج دموعه بالتراب أسفل قدميه، فهو لا يعيش في بيت منذ رحيلها؛ بل في مكان يُشبه صندوق القمامة، غادرت عن العالم تلك التي كانت تهتم بشؤونه، وترعاه بكل حب، فسعى لرد جميلها بشتى الطرق، ولكن كان للقدر رأي آخر.
- دعوني، أريد الرحيل من هنا، زوجي حبيبي مصطفى، أين أنت يا نور حياتي وبهجة أيامي؟، ضاقت الحياة في عيني منذ رحيلك، ولا قوة لي والله على مواجهتها.
صوت صراخها يهز أرجاء المستشفى، فجاء كريم ركضًا من الخارج، قلبه يكاد ينخلع من مكانه عند سماع صوتها، يدلف إليها، فترتمي في أحضانه حين تراه، وتتوسله من بين دموعها قائلة:
- خذني من هنا يا كريم أرجوك، لا تتركني وحدي يا حبيبي هنا.
- سامحيني يا أمي، فأنا والله أتمنى ذلك أكثر مني، ولكن هذا هو الحل الوحيد لتبقي معي حتى تتحسن حالتك.
اضطر كريم إلى إدخال والدته المستشفى بعد المحاولة الرابعة لها للانتحار، لا تتوقف عن ايذاء نفسها، ترفض طلاق زوجها، ووقفت أمامه في المحاكم، وكأننا نشاهد هنا "آسفة، أرفض هذا الطلاق"، القصة ذاتها، لينتهي بها المطاف إلى هنا، فهي لم تعد على حافة الجنون، بل توغلت حتى وصلت إلى القاع، ترفض الحياة بكل أشكالها، لا يفرق معها أنين ولدها، ولا يهز شعرة منها سوء حالته، كبر قبل أوانه، لفظته أمي على عجل، وألقت به في تلك الدوامة قبل أن يشتد عوده، ابن الخامسة عشر، يحفر في الصخر ليل نهار، ويتعرض للإذلال من مختلف الفئات، لم يترك وظيفة إلا وعمل بها دون كلل أو ملل، لا تجد منه تذمرًا قط، كالشمعة المضئية يحرق نفسه لأجلها، وتبقى هي هزيمته الوحيدة، قامت جدته بتربيته، فلطالما ظن بأن أمه قد فقدت حياتها أثناء ولادته، يتذكر تلك اللحظة التي لا ينساها، فكانت بمثابة النور والظلام له في نفس الوقت، يقول لجدته في غير تصديق:
- أمي على قيد الحياة معقول، أمي لم تمت كما أخبرتموني، لمَّ إذن كذبتم علي، وتركتموني أعاني مع هذا الذنب منذ مجيئ، وكأن وجودي كان بمثابة اللعنة، التي لا يرغب أحد في قدومها.
جدته (سميرة) من بين دموعها:
- لا تقل ذلك يا حبيبي، أرجوك، فوالدتك ليست بخير والله، ولم يُطاوعني قلبي لأُخبرك بحالتها؛ ورأيت بأن خبر موتها سيكون أهون إليك من خبر جنونها.
كريم في استنكار:
- جنونها!
- نعم يا بني، والدتك محجوزة في أحد المصحات العقلية، وحالتها تزداد سوءًا، ولولا حاجتها إليك ما أخبرتك.
- أمي مجنونة، ولولا احتياجي إلي ما أخبرتَّني، يا لها من نكتة رائعة، فمن الذي يُصدق بأن ذلك قد يكون واقعًا؛ بل باب من أبواب الجحيم، قمت بفتحه أمامي على مصراعيه.
- ولأجل ذلك خبأت الأمر عنك؛ لكوني أحبك يا كريم.
كريم في سخرية:
- أجل تُحبينني، وقمتِ بإخباري أن أمي ماتت أثناء ولادتي، لتخسر حياتها عند وهبي إياها، وما أقساها من حياة تلك التي عشتها دون وجودها، حرام عليكِ يا جدتي ما فعلتيه بي، فلمَّ حرمتيني منها يا جدتي.
تهز جدته رأسها في نفي، وتقول له في آلم:
- لأجلك يا بني، فالناس لا ترحم والله، ولو قالوا لك يومًا يا ابن المجنونة، ما احتملتها قط، ولارتدت في عينيك نظرات كره لها، وهذا سيكون قاسيًا عليها يا كريم، يكفيها كره والدك، الذي كان السبب الأساسي في تدميرها.
- والدي، وهل هو الآخر لديه قصة مختلفة عن التي أخبرني بها؟
نظرت له جدته نظرة ذات معنى، يفوح الألم من بين شفتيها، وهي تكشف له ما فعله ذلك الرجل الذي يسمى أبيه في حق ابنتها، خدعها باسم الحب، واستوطن قلبها، فلم تعد ترى سواه حتى أقرب الناس لها، يعطيها السم في هيئة مشروب لذيذ ألا وهو التعلق، لا تحتمل فراقه لثانية واحدة، يتصل بها في كل لحظة، لا يتركها إلا وهي تفكر فيه، يقترب منها حد
الالتصاق، ويبتعد عنها حد النفور، فلا تفهم له شعور قط، ولكنها رغم ذلك تُحبه، وتعيش كالخادمة تحت قدميه، لا ترفض له طلب قط حتى ولو كان على حساب راحتها، وبمَّ ستفرق معها الراحة، وكلا الأمرين سواء بالنسبة لها، غادرتها الراحة منذ دخوله حياتها، وأثمرت علاقتهما بطفل جميل أحبته بشدة، ولم تتخيل قط بأن الحياة قد تعصف بأحلامها.
- ماذا تقول يا عاصم؟، طلاق، من الذي أخبرك بأنني أريد الطلاق؟
يحمل عاصم السيجارة بين يديه، يزفر الدخان في لا مبالاة، فتحترق روحها كالسيجارة بين يديه، لا يفرق معه ألمها، ومن هي ليُبالي بأمرها؟، يبوح بها بالحقيقة التي أخفاها عنها طوال هذه السنوات قائلًا:
- أنا الذي أُخبرك يا ضحى، فقد مللت من ذلك الدور الذي أقوم بتمثيله، سئمت من حبك لي بل جنونك بي، والآن وقد عرفت معناه أقول لك بأني لا أحبك؛ بل أهيم عشقًا بأخرى، ولكنك تعرفين ماهية الإحساس، لا تكوني أنانية واتركيني لأرحل في سلام.
وقعت كلماته كالصاعقة عليها، وسقطت على السرير خلفها، ولحسن الحظ لم تصطدم بالأرض، كريم كان بين يديها، وانفلت على الفراش، وإلا لفُتحت رأسه، أخذ يصرخ بشدة، يبكي من الخوف، فقد ارتعب حين تركته بذلك الشكل.
ظلت صامتة للحظات ثم نزلت تحت قدميه، ترجوه من بين دموعها قائلة:
- حرام عليك يا عاصم، لا تقتلني بذلك الشكل، فأنت تعلم بأن لا قوة لي للعيش دونك، أتألم في جوارك، فكيف يكون حالي عند غيابك؟
يبعدها عنه في قوة، وهو يقول لها بنزق:
- لا دخل لي، ابتعدي عني يا ضحى، وإياكِ المحاولة في الوقوف أمامي.
ركضت ضحى نحو المطبخ، أحضرت السكين ثم قامت بقطع شرايين يدها أمامه، وسقطت أرضًا فاقدة للوعي، لينقلها إلى المستشفى على عجل، وتنجح هذه المرة في تخييب مسعاه حيث فشلت خطته، ونجت هذه المرة بحياتها، ولا يعني ذلك بقائها على قيد الحياة؛ بل وجوده بجوارها.
في المستشفى
العم قدري يحمل هدى بين يديه، حيث استسلمت للنوم بعد شعورها بالأمان، ويبحث عن أختيها في قلق، فرأى إبراهيم خارجًا من إحدى الغرف، هرول باتجاهه، يسأل في قلق قائلًا:
- أ لم ترى نور وفريدة يا بني؟
سكنت ملامح إبراهيم عند سماع تلك الكلمة، وكأن العم قدري تناسى المشاكل والخلافات، وكل ما حدث خلال تلك السنوات، ويفتح معه الآن صفحة جديدة بتلك الكلمات، ولكن العم قدري كان في واد غير واديه، لا يُحسد عليه أبدًا، ليُجيبه إبراهيم في هدوء قائلًا:
- نور الآن نائمة، أعطتها الممرضة المنوم بأمر الطبيب، فوضعها ليس بجيد.
العم قدري في قلق:
- نور ليست بخير، أخبرني بالله عليك ما الذي حدث؟
لم يخف عليه إبراهيم، فقد كان في حاجة ماسة لمن يسمعه، ولن يجد آذن صاغية لهذا الموضوع بالذات غيره، لم تعد عائلته ترغب حتى في سماع اسمها، ينظر إلى تلك الغرفة في آخر الصف، ليست بغريبة عليه، يحفظها جيدًا، وتلك المرأة التي تبدو صورتها مألوفة بالنسبة إليه، ولكن الزمن هو من تغير، وكأن التاريخ عاد به إلى الوراء، يسمع صوت الحوار بين الأطباء، والممرضات تستجيب لأوامرهم في نفس الثانية، وما هي إلا لحظات وفقد الاتصال، يبدو بأن الحياة قد توقفت عنده كما أراد، فقد حاول إنهاء حياته، وكأن ذلك الأمر بلعبة، وليس هناك حياة أخرى، حيث سيحاسب المرء فيها على كل ما فعله حين كانت روحه بداخل الجسد، ويرى جزائه حين لم يعد له عليها سلطان، فمن هو لينُهيها؟
مرت الأيام والأسابيع، وصارت شهورًا على نفس الوتيرة، وأخبروه بأنه مر ٦ أشهر على دخوله المستشفى، ولا ينسى مشهد والدته وهي تقبع جواره، والهالات السوداء قد غزت تحت عينيها، وملامح التعب قد تمكنت منها، تقول له في استياء:
- لمَّ فعلت ذلك بنفسك يا إبراهيم؟، أ لم تخش عقاب الله؟، كيف وصل الحال بك إلى هنا؟
التزم إبراهيم بالصمت، يسمع تأنيبها له دون مقاطعة، يعلم بأنه قد أخطأ بحقها؛ بل بحق نفسه، بل ارتكب ذنب عظيم، يرجو الله أن يُسامحه، ويغفر له خطئه، وهذا ما لم تعرفه نور، ولا هو عرف بوضعها أيضًا، ظل كل منهم أنه ينعم في غياب الآخر، وهذه لم تكن بالحقيقة أبدًا، وانكشفت أمام إبراهيم، فلم يلبث عند سماعه أن أخبره بسوء حالة نور، وكيف أنها اقتربت مثله من الموت؟، وأنجاها الله برحمته.
- لن تبكي ثانية يا عم قدري، أعدك.
قالها إبراهيم في ثقة، وهو يربت على كتفيه، فيكفيه ما رآه هو ونور، لن يتأخر ثانية أو يلجأ للهروب كعادته، سيقف أمامه، وليكن ما يُريد، يوكل أموره بين يدي الله، ويعقد العزم على الزواج بها، وهو يدعو الله أن تنكشف الغمة، ويخرج الجميع من هذه المستشفى سالمًا.
في هذه اللحظة جاءت فريدة، وكادت أن تتشاجر معه، ولكن العم قدري أوقفها في حزم قائلا:
- عيب يا فريدة، كان والدك خير الرجال، ولم يسيء إلى الصغير قبل الكبير، لتسئ أنتِ بضيفنا؛ بل زوج أختك بذلك الشكل.