الفصل الخامس عشر قرار العودة

دلفت أسماء إلى مكتب بدر ووجدته يحاول أن يلهي عقله بالأوراق الموجودة أمامه، أخذت نفس عميق واقتربت لتجلس على الكرسي الموجود أمام المكتب:

-ما الذي يشغل عقلك يا بُني؟ لماذا لم تعد قابل لأي حديث؟ شقيقتك لم تخطأ وبيلا لم ترتكب أي خطأ، عليك أن تتحكم في غضبك أكثر من هذا يا بدر وإلا سوف تزداد الأمور سوءً.

أخذ بدر نفس عميق ومن ثم نظر إلى والدته وعلى وجهه يظهر الاستياء:

-اسمعيني يا أمي، أنا لم أعد كما أنا، لقد فشلت في اصلاح الأمور، لا أعلم أين يكمن الخطأ، حاولت مع أمل مرارًا، ولم يفرق معها شيء، تستمر في الذهاب إلى منزل والديها كلما حدث شيء بيننا حتى إن كان بسيط.

ظهر الغضب الشديد على وجهه وهو يحرك رأسه باستنكار:

-لا أعلم ما الذي ترغب فيه هي؟ ماذا لو كنت أسيء معاملتها، لماذا لا يمكنها أن تتقبلني كما أنا مثلما تقبلتها؟!

شعرت أسماء بالحزن على حاله وهي تحرك رأسها بعدم رضا:

-لم يكن عليك أن تتصرف بتلك الطريقة معها منذ البداية يا بدر، لقد جعلتها تعتاد على هذا الشيء، جعلتها تعتاد على كونك طيب القلب ولا تستطيع أن تكون قاسي عليها.

وقف بدر مبتعدًا عن المكتب وهو يحرك رأسه معاتبًا والدته:

-ما الذي تريديني أن أفعله يا أمي؟ يكفي أنها لن تكون أم، هي علمت أنها لا تستطيع أن تكون أم هل تعلمين كم أن هذا صعب عليها؟!

ابتلعت أسماء ما بحلقها وهي تومأ له وكأنها تخبره أن الحق معه، هي تعلم أن هذا الأمر قاسي للغاية وتعلم تأثيره على نفسية أمل رغم أنها لم تتحدث في الأمر مع أي شخص بشأن هذا.

مروا خمسة أيام وكانت أمل على وشك أن تجن من تجاهل بدر لها، للمرة الأولى لا يتحدث معها ولا يحاول أن يجعلها تعود إليه من جديد! نظر عز تجاهها ولاحظ أن عقلها مشتت تمامًا:

-بماذا تفكرين يا أختي؟ هل حدث شيء معكِ لا أعرفه؟

حركت أمل رأسها بنفي ومن ثم نظرت إليه بانتباه:

-لم يتحدث معي بدر ككل مرة، الأمر غريب للغاية يا عز، لم أتوقع هذا الشيء، لقد توقعت أن يأتي إلى هنا ويترجاني أن أعود، الشيء الذي يفعله الآن وتجاهله لي لم أكن أفكر في حدوث هذا!

جلس عز بجوارها وهو يومأ لها:

-أنا أتفهمكِ يا أمل، لكن من الممكن أن يكون بدر غاضب هذه المرة، هو في كل مرة يركض خلفكِ ويترجاكِ أن تعودي إلى المنزل أليس كذلك؟ لكن هذه المرة من الممكن أن يكون غاضب وينتظر منكِ المحاولة، لم تحاولي من أجله من قبل.

انفعلت أمل دون ارادة منها وهي تضع قدم فوق الأخرى:

-يكفي أنني وافقت على هذا الزواج يا عز، أليس هذا كافي بالنسبة له؟

حرك عز رأسه بلوم شديد واستنكار:

-الشيء الذي تقوليه ليس صحيح أبدًا يا أمل، أنتِ تخطأي في تقدير الأمور، لقد قام بدر بعرض الزواج عليكِ ووافقتِ، هو لا يفهم أن والدكِ من قام باغصابكِ على الزواج ولا يعلم أي شيء يحدث في هذا المنزل، لا تخلطي الأمور.

ابعدت أمل رأسها حتى لا تلتقي عينيها بأعين شقيقها بينما عز تابع حديثه وهو يرجو أن تستمع إليه ولا تستمر في عنادها:

-بدر ليس سيء يا أمل، هو يحتاج منكِ أن تفهمي طباعه ليس إلا، هو يقدركِ ويحترمكِ، يكفي أنه وقف أمام والدته عندما كانت ترفض زواجه منكِ.

نظرت أمل له وتحدثت بانفعال شديد:

-أنا لا يهمني كل هذا، الشيء الذي أريده أن يهتم بي يا عز، هو لا يفعل هذا، لا يهتم للشيء الذي أريده والذي أرفضه، هو آخر من يهتم بتلك الأمور صدقني!

تحدث عز من جديد برجاء إليها:

-اعطيه الفرصة يا أمل، أنتِ لم تعطيه أي فرصة بل تستمرين بترك المنزل وهذا ليس بالشيء الصائب.

عبث وجه أمل ولا تعلم ما الذي يجب عليها أن تفعله، تحدثت بضيق شديد وهي تنظر له:

-لم أعد أستطيع أن أعود كما غادرت يا عز، لا يمكنني أن أفعل هذا، عليه أن يأتي إلى هنا ويأخذني ومن بعدها يمكننا أن نتحدث بشأن هذا.

أخذ عز نفس عميق واخرجه ناظرًا لها بغيظ لتصيح به:

-توقف عن النظر لي بتلك الطريقة، هو أيضًا مخطأ لأنه لم يطرد هذه الفتاة، هي حتى لم تكن زوجة أنس كما قالوا! أنس لم يتزوج بها لماذا سوف يفعل هذا ويكذب على الجميع؟

اجابها عز وهو ينظر لها بانفعال ظهر على وجهه:

-ببساطة لأنه شخص غير سوي، هو كان صديقي سابقًا ولم يكن تفكيره جيد أبدًا، حتى أن هناك شكوك انتابتني أنه الشيطان بعينيه لا يستطيع أحد أن يخمن الشيء الذي يفكر فيه، ودائمًا ما يكون تفكيره سيء، ربما قام باستغلال هذه البريئة.

انفعلت أمل وهي تقف مبتعدة عنه بعد أن جعلها حديثه تغضب أكثر:

-لا تقل بريئة أنا لا أحبها ولا أرتاح لاهتمام بدر بها، هو زوجي ولا علاقة له بأي شخص، إن أراد أن يهتم بفتاة أخرى عليه أن يطلقني أولًا.

وقف عز ليقوم بسحب ذراعها بانفعال:

-توقفي عن الصراخ، إن لم تذهبي إلى منزل زوجكِ سوف تضطرين لمواجهة والدكِ من جديد، لن يتدخل أي شخص منّا وقتها.

دفعت يده وهي تنظر له باستنكار شديد لتسأله بصوت مرتجف:

-متى تدخلتم يا ترى؟ لم يتدخل أحد في الأصل يا عز، أنا من تُصاب بالجروح، أنا من تتحمل الإهانة هنا، لا يمكنني أن أجعل حياتي مع بدر كحياتي هنا، عليه أن يعلم كيف يحارب حتى ينال رضايا.

لم يجد عز ما يقوله، نعم هي اصبحت لديها خوف من تحكم بدر بها والعبث بمشاعرها، لكن ما ذنب بدر في علاقتها مع والدها؟ لم يكن له ذنب في أي شيء حدث لها في الماضي ويحدث لها الآن، فكر في الذهاب إلى منزل بدر والتحدث معه إن لم يأتي.

ربما إن علم ما يحدث وما تتعرض له شقيقته من عنف أسري يمكنه أن يساعدها ووقتها تنتهي معاناتها بين التنقل من منزل إلى منزل وإهانة نفسها مع رجل لا يفهم شيء عن التربية وعن احترام المرأة، لكن ما يقلقه الآن أن تكون شقيقته ما زالت تحب ابن خالتها ولم تنساه بعد!

مر الوقت وفي منزل بدر كان المأذون يجلس وبجواره على اليمين بدر وعن شماله تجلس بيلا التي تشابكت أصابعها بقلق شديد تحاول أن تخفيه خلف ملامح باردة، لقد انتهوا من عقد القران! وها قد أعطى المأذون ورقة مؤقتة حتى يوثق هذا الزواج ويأتي له بالعقد.

نظر بدر إلى بيلا لتلتقي عينيه القاتمة بعسليتها القلقة:

-مبارك يا بيلا.

اومأت له ولم يجد رد منها، اقتربت أسماء لتضع يدها على كتف بيلا:

-كنت أتمنى أن أقوم بعمل زفاف لكِ، لكن تعلمين لم يمر الكثير على موت أنس.

حركت بيلا رأسها بتفهم وشعرت إن تفوهت بشيء سوف تنفجر باكية، تحدثت أسماء إلى بدر:

-يمكن لغرفة بيلا أن تكون غرفتك أنت وهي، على كل حال هذه الغرفة أنت من اخترتها ولو لم تعترض أمل عليها وتختار غرفة أخرى كان اختلف الأمر، لكن ها قد اصبحت غرفتك أنت وبيلا.

نظرت بيلا له وهو لا يفهم نظراتها، كأنها تنتظر منه شيء لم يفعله! غريب أمر هذه الفتاة يعترف بهذا، لقد عجز مرارًا عن فهمها.

ذهبت أسماء وتبعتها بيري الصامتة وهي ترى الرفض على وجه بيلا، لم يكن يرضيها هذا لتتحدث إلى والدتها:

-اخبريني يا أمي كيف يحدث هذا؟ لم تكن بيلا راضية ويستطيع أي شخص أن يرى هذا! هي كانت عابثة وقلقة كانت تسحق أصابع يدها وهي تستمع لحديث الشيخ الذي عقد قرانهم!

نظرت أسماء إلى بيري بانزعاج وهي تحرك رأسها بنفي:

-توقفي عن التحدث في هذا الأمر، من الطبيعي أن تشعر بالغربة يا بيري، ليس لها أهل ولا يوجد بجوارها أي شخص، حتى أنها تحدثت مع صديقتها ولم تستطيع المجيء بسبب شقيقها أظن أنه كان يرغب في الزواج من بيلا لكن لم توافق عليه، انظري هذه الفتاة تستطيع التفرقة بين الجيد والسيء!

قلبت بيري عينيها بعدم رضا وهي لا ترى أن زواج بدر وبيلا جيد؛ فهي استطاعت أن تفهم نظرات بيلا، حتى لو تم اقناعها لم تكن نظراتها راضية بل على وشك الصراخ بالرفض!

نظر بدر إليها وهو يراها تنظر له والقلق يسيطر عليها من وقت لآخر، شعر أنها تريد الأبتعاد عن الأريكة الذي يتشاركها معها:

-بماذا تشعرين يا بيلا؟

كان سؤاله هذا من الصعب الإجابة عليه، ربما إن اجابته سوف تبدو فتاة مختلة! ما الذي يجب عليها أن تقوله؟ هي تشعر أنها تريد الصراخ، البكاء، تريد ضربه! لا تفهم شيء من كل الأحداث التي تدور حياتها حولها، بدى الحديث أصعب مما تخيلت، تحدث من جديد وهذه المرة وضع يده فوق يدها:

-لماذا أنتِ عابثة بهذا الشكل؟ ألم نتفق بيني وبينكِ أننا سوف نعيش كالأصدقاء؟ لا يوجد داعي لأن يعرف أحد بهذا الشيء، حتى أمي يا بيلا لا تخبري أحد حتى لا يحاول التدخل بيننا.

نظرت له والدموع بعينيها وهمت بابعاد يدها عنه:

-لم أخبر أحد، لكنني لست سعيدة، لا يمكنني أن أشعر بالراحة ولا أعلم لماذا الألم يعتصر قلبي، لا تهتم.

وقفت واتجهت إلى الغرفة ليشعر بالضيق الشديد:

-على هذه الفتاة أن تخرج أي أفكار سيئة من رأسها وإلا لن تستطيع العيش من بعد كل شيء يحدث معنا.

تردد في الذهاب إليها ولكنه شعر أنه قادر على التخفيف من ضيقها، ربما تستمع له وتتوقف عن تعذيب نفسها بتلك الطريقة، لم يكن باب غرفتها مغلق بشكل جيد، رأها نائمة فوق السرير وظهرها مواجه له، قام بدفع الباب برفق واقترب منها بتردد حتى وصل جوارها وجلس على السرير لتنتفض:

-ماذا تفعل أنت؟

استطاع أن يرى دموعها وارتجاف جسدها، لاحظ الخوف الذي أحتل عينيها، حرك رأسه باستنكار وهو لا يصدق أنها تراه مجرد شخص سيء:

-أريد أن يبقى كل شيء واضحًا أمام عينيكِ يا بيلا، لا يوجد داعي للخوف أو البكاء، نحن حتى لا نعيش بمفردنا، لا يمكنكي أن تبقي مقيدة وقلقة بهذا الشكل، هذا الزواج حدث ليعطيكِ الحرية وليس ليسلبها منكِ، تعاملي على راحتكِ يا بيلا.

تساقطت دموعها وهي تنظر له بألم:

-فكرة أن لا يكون لديك مكان لتذهب إليه هي فكرة سيئة للغاية، أنت لا يمكنك أن تشعر بالشيء الذي أشعر به.

وقف أمامها وهو يحرك رأسه باستنكار ويحاول جعلها تهدأ:

-أنا لا يوجد مكان يمكنني أن أذهب إليه عندما أريد يا بيلا، لا يوجد لدي شخص يمكنني التحدث معه على راحتي، لا يوجد شخص في حياتي بأكملها يمكنه أن يفهمني، أنتِ لستِ وحدكِ من تعانين، كل واحد منّا يعاني ولكن بطريقته الخاصة.

نظرت له بأعين امتلأت بالدموع:

-لقد كرهت حياتي، هل تعلم لو لم يكن الانتحار محرم لكنت فعلتها يا بدر.

أحتل الضيق وجه بدر وهو ينظر لها بلوم:

-لا يمكنكي أن تكوني ضعيفة هكذا يا بيلا، عليكِ أن تكوني فتاة قوية، العالم ليس مكان لتحقيق الأمنيات أنا أفهمكِ، لكن يمكننا أن نكون سعداء صدقيني.

ابتلعت بيلا ما بحلقها وهي تنظر له بحيرة، تتساءل ما الذي يحاول أن يفعله وما الفائدة من مواساته لها بتلك الطريقة؟ نظرت إلى الأسفل لبعض الوقت قبل أن تعيد النظر له:

-ما الذي تريده يا بدر؟ لماذا تتحدث معي بهذا الود أنا لا أفهمك!

حرك بدر رأسه بنفي وهو يجيبها بصدق:

-أنا لا أريد شيء منكِ يا بيلا، أحاول ايجاد حل مناسب لكِ، لا أريدكِ أن تكوني بهذا الحزن، أخي كان السبب بهذا ومن بعده أنا المسؤول، سوف يكون كل شيء على ما يرام، فقط اسمحي أن يساعدكِ الوقت في التعافي.

حاولت ان تهدأ وهي تخرج نفسها من حالة القلق الدائم، لا تريد لحياتها أن تستمر في هذا الألم، نظرت له للحظات قبل أن تومأ:

-بالفعل أنا أحاول التعافي، ربما لا يمكنك أن ترى مثل هذا الشيء، لكنني أحاول السيطرة على الكم الهائل من الألم بداخلي، ليتني لم ألتقي به أبدًا.

كانت تقصد أنس بهذا الحديث، أما في مكان آخر في إحدى الأماكن المخصصة للسهر ليلًا كانت ضحكاته تتعالى مع بعض الفتيات وقد جعله الكحول يفقد جزء لا بأس به من السيطرة على عقله، ضحكات هستيرية، رقص، مغازلة لبعض الفتيات، اقترب منه أحد أصدقائه وهو يضع يده على كتفه:

-يكفي يا أنس لقد شربت كثيرًا، ماذا بك اليوم هل تنوي فقدان الوعي أم ماذا؟

ضحك أنس وهو يلتفت له ليضمه وهو يصفع ظهره بقوة:

-صديقي العزيز ها قد أتيت أخيرًا، ماذا أفعل؟ لقد تأخرت أنت وتركتني أشرب وحدي، لكن لا تشعر بالحزن بعض الفتيات كانوا برفقتي.

سحبه صديقه وهو يشعر بالتعجب من حالته تلك:

-اخبرني ما مشكلتك يا أنس؟ لماذا تتصرف بهذا الشكل لقد شربت كثيرًا؟!

نظر أنس له ومن ثم قام بتحريك كتفه بحيرة:

-لا أعلم، أظن أن هذا بسبب قرار عودتي؟

تعجب الآخر ليضحك أنس وهو يقوم بسحب كأس آخر من البار ليشرب منه ويومأ:

-نعم يا صديقي قررت العودة إلى القرية من جديد، سوف يعود الميت للحياة بالنسبة لهم، ستكون مفاجأة مذهلة، مؤكد تخلصوا من المزعجة التي تدعى بيلا.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي