الثاني

كان هناك المئات من الاسئلة التي ستتوافد عليهما معاً، من فاض لسانها بما لا يجب الآن، فحماها في المشفى، وزوجها تائه في ضلال نفسه، ولكن يكفيه ضلالاً إلى الآن، فاض لسانها وهربت، وسمع هو وذهب لصومعته التي يعتكف به، كلاهما تجاهل طوفان الاسئلة الذي عملا على إثارته دون أن يقدم أحدهما أية جوابٍ يُريح به العقول، بينما الغرفة فرغت إلا من أربعتهم، ولكن جميعه يقف وفي نفسه حالة مختلفة، أحدهم شعر وكأنه لا علاقة له بكل ما يحدث أو حدث في ذلك المنزل، وكأنه جدار ملون زين أحد جدرانه، ولا يقدر على الحديث أو يتساءل عن سبب كل ذلك الكلام، نعم هو يشفق على أخته، بل يحبها مهما كانت الصعاب التي حدثت، إنها مثلما قالت زوجة أخيه أميرة، إنها الضعيفة التي تحتاج لسند، وهو كان بالفعل سند لها، ولكنه كان في الظل الذي يختفي مع أول إشراقة للصباح، أنه مؤمن الدمنهوري، الأخ الأصغر من الأشقاء الثلاثة، الضلع الحنون والأنقى، وكذلك الضلع الضعيف كما يظن نفسه، يعمل حساب لكل من في هذا المنزل، فهو في الخفاء السند الحقيقي للمنكسر قلبها، وفي النهار الضلع الثالث من ضلوع القوة، الآن لا يعلم لما شعر بنفسه وكأنه حرباء ملونة تتلون مع المواقف المختلفة، حديث نفسه الذي دار لو أنه كان بمكان أحد غيره ما كان سيؤمن أحد، فهو يتلون كحرباء تلأم المكان الذي هي فيها، دون مراعاة لشعور من تغير تبعه جلدها، ولكن ماذا بيده ليفعل، هو لن يقدر على مواجهة خالد مطلقاً، بل جميعهم لا يقدر على مواجهته، لا يعلم كيف فعلت زوجته ذلك، أو من أين أتت بتلك القوة التي تجعلها نداً أمامه، تبوح بكل ما باحت به، ولكن أقر حقيقة وجوب شكرها، فحديثها ذلك أثار في نفسه ثائرة جعلته يرغب في معرفة ما دار خلف كواليس الماضي، ورسخت في نفسه شعلة التمرد الذي يبحث عنها منذ وزمن حتى يتحول من مجرد مشاهد على مسرح عائلة الدمنهوري إلى عضو مشارك يعلم بخبايا تلك العائلة التي كثرت فيها الأسرار، فر من غرفة الطعام، وصعد إلى غرفته وخلفه زوجته تهرول لكي تلحق خطواته، راقبته من خلف وجدت عضلات ظهره مشدودة وكأن خوارجه فضحت دواخله، أدركت حقيقة أنه قرر شيء في نفسه لن يتخلى عنه مطلقاً، ركضت أسرع خلفه حتى لحق به، ودخلت الغرفة خلفه ووضعت يدها على كتفه الذي شعرت بتوتره، همست هي بصوتها الحنون قائلة:
_مؤمن حبيبي، ماذا بك؟
استدار لها يتأمل ملامحها القلقة عليه، اقترب منها، جذبها من يدها وهو يذهب بها صوب أريكة موضوعة في جنب الغرفة، أجلسها وجلس جوارها، وضع رأسه على كتفها وهو يجيبها:
_نعم رقية، تسأليني ماذا بي؟!
قالها ثم ظل صامتاً إلى ثوانٍ قصيرة وأزاح رأسه عن كتفها وقال وهو يمعن النظر في ملامحها:
_بي الكثير رقية، بي الكثير، أتعلمين ماذا يحدث عندما تصطنعين دور ليس لكِ وتعيشين به؟! هذا ما فعلته أنا عشت دور من القسوة أمام أخوتي على أختي الصغيرة، الركن الضعيف في ذلك المنزل الذي يحتاجنا جميعاً، وجميعاً جاء عليها وظلمها، صدقيني لا أعلم ماذا فعلت؟ لا يعلم سوى خالد، هو كان أكبرنا وأقربنا لأمي، لا أصدق ما قيل بـأن ملك وأمها قتلت أمي، لا أصدق ذلك، فملك كانت لا تتجاوز العامين كيف تقتل، وأمها قد ماتت بعد والداتها بسنة، إذن كيف قتلتها أنا لا أعلم وأمي ماتت بعدها بأعوامٍ، لا تعلمين ما الذي عاشته ملك هنا، ولكن رغم القسوة التي عانتها ملك إلا أن خالد لم يرأف بها وصدق أنها قتلت كيف لا أعلم، وحديث أميرة بالأسفل عن وعدٍ لا أعلمه، أشعر رقيتي أنني كحرباء تتلون أساند رقية من وراء خالد، وأقسو عليها أمامهم، والله أني أخشى عليها من غضب خالد، وظلم إيهاب وزوجته.
أمعنت النظر في زوجها وأدركت مقدار تعب روحه، ربتت على يده وقالت بحنانها المعتاد:
_لا تحزن مؤمن، إنك تفعل الصواب أنا أخاف على ملك من إيهاب وزوجته، ولكن خالد لا أشعر أنه بتلك القسوة، أتعلم بعد حديث أميرة شعرت وكأن خالد حصونه الذي شيدها حول نفسه تنهار واحدةً تلو الأخرى، رأيته وكأنه طفل صغير يلوم على أمه التي باحت بسره، هو ليس بتلك القسوة أبداً، بل بدا وكأنه مُقيد، نظراته الكارهة لملك لا أشعر بها حقيقة، بل مزيف يداري بها الكثير.
أعادت ربتها على يده وأكملت:
_لا تشغل بالك بأيٍ من هذا الحديث، والدك بالمشفى، وأختك وأخيك يحتاجونكِ، أعلم مؤمن أنك لست بالضعف الذي تشعر بأن نفسك عليه، بل أراك قوية، شديد التحمل، الجميع يحتاج المساندة تلك الفترة، كن أنت ذلك الركن الذي يتكأ الجميع عليه، بعد أن تهدأ اذهب لأخيك وأعلم ما به، لا تتعصب كذلك.
منحها ابتسامة هادئة على تشجيعها وحديثها الذي منح روحها بريقاً خاطف وكأنه أعاد الحياة له، شد يدها، جذبها إلى عناق قوي يبحث فيه عن أمانه ومأمنه، وهي خير من منحته ذلك الشعور، وداخلها يدعو الله آلاف المرات أن يكون القادم يحمل كل الخير لذلك المنزل الذي لم يرى البهجة إلى الآن، ودعت لحماها أن ينهض من تلك الوعكة الصحية على خير، لأنه لو حدث العكس فستكون تل الطامة الكبرى التي لحقت بذلك المنزل، وهدمت قواه الخائرة وجعلته ركاماً.
***************************
في الأسفل في غرفة الطعام مازال يجلس على طاولة الطعام، ولكن تلك المرة لم يجلس إلى مكان الطبيعي كما المعتاد، إنما حمل طبقه وتوجه صوب رأس الطاولة يجلس عليه وهو يحمل طبق طعامه بين يديه، أزاح الطبق الموجود جانباً وهي يراقب الطاولة الكبيرة التي تنم عن عراقة أهل هذا البيت، أمد بصره يُطالع الأفق البعيد عن حدود تلك السفرة، يتأمل في نفسه أهكذا سيكون في المستقبل، أيعقل أن يكون هو الرأس الأساسية لهذا المنزل مستقبلاً، عند هذا الحد لم يستطع كبح ابتسامته، بل أخذت تنطلق من بين شفتيه ابتسامة تعبر عن أحلام اليقظة الذي تراوده، كانت زوجته تجلس على جانبه الأيمن تبتسم على ذلك المكان الذي أخذه حتى لو في الخفاء، هي متيقنة أن ما يمكن للمرء فعله في الخفاء بالتأكيد يمكنه أن يخوض تجربته علانية ولكن عندما يعد أسلحته التي ستمكنه من قيادة حربه، ولكنه عندما بدأ يبتسم تعجبت لحاله، لا تعلم لماذا يضحك بمثل ذلك الصخب وكأنه حقق نصراً عظيم، أمعنت النظر بملامحه التي تنجح دائما في فك شفراتها، ولكن تلك المرة عجزت، لا تدري ما سر تلك البسمة التي تنم عن مكرٍ عظيم لا تعلم له أي اتجاه، أمعنت النظر به حتى هدأت ثورة ضحكه، وعادت نظرته السوداء من جديد، شرعت تسأله عما به قائلة بصوتٍ فضولي:
_ماذا هناك إيهاب لماذا تضحك؟
تفرس في ملامحها وهو يُجيب عليها:
_تعلمي علا أن حديث أميرة لخالد سيكون السبب في فتح طاقة القدر لنا، كما تعلمين ولادي الآن يُصارع الموت بحالة محارب قضى عمره يُحارب وقد خارت قواه، كلها فترة قصيرة، كنت أخاف من خالد وما سأفعله، ولكن أميرة بما فعلته قد فتحت لي باباً كان سيأخذ من وقتي كثيراً كي أزيحه عن طريقي.
عقدت حاجبيها باستغراب وقالت:
_أي بابٍ تقصد إيهاب؟
رفع جانب شفتيه وأجاب بكلمة واحدة:
_ملك.
انعقد حاجبيها أكثر، لا تدري ما معنى حديثه هذا، لم تبرح لسؤالها، ولكنها حررته من بين شفتيها قائلة:
_ماذا تقصد إيهاب؟
رد عليه ببرودٍ ومكرٍ في الوقت ذاته:
_الآن فقط سيكون لدينا الفرصة في إزاحة ملك عن طريقنا علا، ستبتعد للأبد.
حديثه جعلها تُطلق شهقة عالية وهي تقول:
_أتقصد ستقتلها؟!
ضحك بصخبٍ وتردد صداه في الغرفة وقال:
_هل أنا قاتل علا؟ لا لن أقتلها، ولكن الفرصة ستكون سانحة إلى أن أبعدها تماماً عن ذلك المنزل حبيبتي.
ضحكت علا بملأ شدقيها وهي تجيبه:
_أوه، كيف يا عزيزي؟ ومن سيسمح لكَ بذلك؟ خالد الذي يحبسها داخل هذا المنزل ولا تخرج إلا بأوامره، أم تقصد مؤمن الذي يحميها حتى لو لم يكن أمامنا، فهو يفعل ذلك في الخفاء.
زفر أنفاسه بفقدان صبر على غباء زوجته التي لم تُلاحظ الجهة التي سار بها أخيه، إنه اتجه صوب صومعته، ولكن سألها لتقر بالحقيقة:
_إلى أي جهة توجه خالد علا؟
أجابته:
_صوب غرفته سيكون إلى أين؟
زفر أنفاسه الغاضبة بمللٍ، وأطبق على جفنيه جزعاً وأكمل حديثه:
_لا علا، إن خالد لم يتوجه إلى غرفته، ولكنه اتجه إلى صومعته.
بحلقت بعينها بذهولٍ لا تصدق ما سمعته، ولكن ما زال السؤال يلح عليها:
_ولكن ما علاقة ذلك بما ستفعله مع ملك؟
_أ أنتِ غبية علا؟! ما الذي حل بكِ اليوم؟ أجابها هكذا بعدما جعلت صبره ينفذ منها.
منحته نظرة فضولية وهي تجيبه على سؤاله:
_حديث أميرة يدور بعقلي إيهاب، ماذا تعرف أميرة عن خالد شيء نحن لن نعرفه، غير أن حديثها يبدو وكأنه أضرم النيران بداخل قلبه، وجعله على الحالة التي شاهدناها منذ قليل، فقد كان خالد كالطفل الضليل.
تبسم وازداد مكره وهو يُجيبها:
هكذا بالضبط علا، إن ما قالته أميرة هو ما سيُتيح الفرصة لما سنفعله، تعلمين إن أبي يُصارع الموت وخالد لن يقدر على ذلك، وكما قلتِ حديث أميرة فتح جراح لا تنغلق بسهولةٍ علا، خالد وهو راحل وكأن ظهره كُسر، وكأنه بلا قوة، وكأنه عُمي عن كل شيء، لذا هذه هي فرصتنا لإزاحة ملك عن الطريق، وقبل أن تسألي سؤال غبي يثير غيظي سأجيبك، خالد شديد التعلق بأبي، وبعد كل فقد يحتاج خالد فترة لو يوماً بمفرده يُرمم حطام نفسه المنكسرة، وخالد بدأ في تلك الرحلة، وخلال تلك الفترة سيكون بمقدوري إخراج ملك من المنزل، بالإضافة إلى أموالها من ورثها من أمها اللعينة بالتوكيل لنا سيكون أمامنا الفرصة في تحويل هذه الممتلكات لنا فهمتِ الآن دور خالد ولماذا سأزيح ملك من هنا.
ابتسمت علا لزوجها، ولكن ألح عليها سؤالاً آخر باحت به:
_ولكن لماذا أنت وخالد تكرهونها بهذا الشكل؟
تهكم إيهاب على أول جزءً من حديثها، ولكنه أجابها:
_معذرة، خالد لم ولن يكره ملك، فقد كان يحبها ويدللها كثيراً ونحن صغار، ما سبب تحوله هذا أنا لا أعرف، فقد أبعدنا عنها مرة واحدة، وحرم علينا جميعاً أن يكلمها أحد، وأنا ما صدقت أن فعلت كنت أكرهها، نالت على الكثير من الرعاية والاهتمام منهم، في الوقت الذي كنت فيه أشد حاجةً لهم.
لم تُدرك علا ما سر تلك الكراهية بينهم، فقد كانت كل ما يهمها المال فحسب، تود أن يكون لها ثروة طائلة من باب الفخر بالشيء، ولكن حسها الفضولي لم يمنعها من السؤال وهو تقول:
_كيف لم يكرهها خالد؟ وماذا عم معاملته تلك؟ ولما أنتَ تكرهها بل تكرههم؟
أغمض عينه وأطلق زفراته قائلاً:
_خالد لا يعرف الكره أبداً علا، بل دوما ما يُجيد العطاء على حسب نفسه، يفعل دون أن ينتظر مقابل، ويفي بعهده لو كان سيفقد حياته، ما بالك بأخته لما يكرهها، أما عني صدقيني في الوقت الذي كنت في أمس الحاجة لأحد يقف بجانبي ويربت على يداي كوني بخيرٍ لم أجد، إن تلك القدم الصناعية اللعينة الذي تكتف نفسي وتشعرني بالعجز هي أشد ما أكره، فقد بُترت قدمي وأنا في الحادية عشر من عمري، فكم كنت أحلم أن أصبح لاعب كرة قدمٍ ولكن بسبب تلك الإصابة اللعينة ضاع الحلم وضعت معه، في الوقت الذي كنت أحتاج فيه للمواساة لم أجد أحداً جواري، قد أتت ملك وأخذت كل شيءٍ، أما عن كرهي لها فهو بسبب والدتها التي ضاعت أمي بسببها، والدة ملك هي السبب في وفاة أمي، المكان الذي كان يواسيني وأجد راحتي فيه.
وبعدها توقف عن الحديث بعدما لمح بعيها طيف من الشفقة يحوم فوق مقلتاها، شعور يبغضه ولا يود رؤيته، لعن نفسه الآن أنه باح بآلام نفسه، وبآثامه، عتابته نفسه قليلاً ولكنه تمكن من إخماد صوتها الذي يبعث في نفسه ضجيجاً يكرهه، هو لم يكن كذلك أبداً، ولكن الظروف وضعته في موقفٍ كان يجب عليه أن يتغير وها هو يقوم بفعل ذلك جيداً، عانقت أجفانه بعضها بعضاً وكأنها تواسيه على ما يدور بنفسه، نفض الطبق الذي لم يمسه جانباً، استقام بطوله الفارع، وفرد ظهر وسار بخيلاء تنافي العجز البسيط الذي بدا عليه، وكأنه يقول بقامته العلياء أنا لا أُهزم قط.
***************************
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي