العميان٦

بعدما منح النصيحة إلى صديقه لم يشأ أن يظل إلى جواره في غرفته لعله لا يُشتت أفكاره أكثر بذلك الحديث الثرثار الذي يُلقيه على مسمعه، إنما خرج يسير في ممرات المشفى ورُغم حديث الممرضة وحديث صديقه إلا أن هناك جزء بداخله يأبى أن يُصدق ذلك الحديث الأرعن الذي تهاتف الجميع به، لا يريد أن سفترض سوء النية، ولكن عند هذا الحد قد تشدق فمه بسخرية، وبدأ يسأل نفسه لعلها تُجيبه وتُريح ذلك القلب الذي أرهقه بصدقه ونواياه، إذ لم يكن هو الفاعل فمن، هل الجميع يكذبون عليه وهو الوحيد الصادق في تلك المعركة التي لا يعرف كيف دخل إليها ولم يكن يقصد الحرب يوماً، استجمع أنفاسه التي يعلم جيداً أنها أُرهقت معه بل أوشكت على أن تفر من بين أضلعه تُوقف خفقاته، شعر بأن قدميه لا تتحرك للخروج من المشفى، ولكنه وجد نفسه يصعد إلى الأعلى المكان الذي دوماً ما يجد نفسه فيه، الهدوء، الراحة، السكينة التي تتخلل فؤاده وتطمأن أنفاسه أنه بخير، وقف به الأسانسير الذي دخله على آخر طابق في تلك المشفى إلى السطح؛ حيث المكان الذي شيده بيداه متيقناً أنه هنا فقط يستطيع أن يجد راحته بعد أيامٍ أو ساعات شديدة الصعوبة بين المرضى والعمليات، فقد اعتبر أن ذلك المكان أخذه فترة نقاهة إلى كبار السن والصغار بعد أن أهلكتهم تلك العمليات، تذكر ذلك اليوم الذي لاحظ فيه تذمت ذلك الطفل الصغير الذي كانت الأسلاك تلتف به من كل ناحية بعدما قام بعملية قلب مفتوحٍ تُعجز الجسد من شدتها، كان يمر من أمام الباب صدفةٍ إذا سمع بكاء طفلٍ صغير يبدو أن هناك أحد يحايله، طرق الغرفة على ذلك الصغير الذي يعرفه، أخذ يُربت على شعره، انحنى أمامه بقامته الطويلة، وعيناه العسلية تخترق عين الصغير السوداء الكحيلة برموشه الطويلة، همس في أذنه بعدما بدأ يداعب رأسه بلطفٍ، تذمرت ملامحه قليلاً وهو يقول:
_ماذا هناك أيها البطل؟ منذ متى ونحن كذلك؟ أنت بطل قمت بعملية خطيرة وكبيرة، عليك أن تتحمل تلك الأيام، الأجهزة الكثيرة، والأدوية المر من أجل والديك، ألم تسمع صوت أمك الذي كان يبكي منذ أيامٍ قبل دخولك العملية، أتتذكر وقتها ماذا قُلت لها؟!
هز الصغير رأسه بنعمٍ وراح يجيبه بصوتٍ حزين:
_بلا، أتذكر جيداً يا طبيبي الرائع، ولكن الرقدة في ذلك الفراش مملة، لقد أخبرتني أمي أني بمجرد خضوعي لتلك الجراحة سأستطيع أن أجري، ألعب، أقفز مثل زملائي في المدرسة، حينها فقط لن أصبح طفل مريض كما يطلقون عليَّ لأني لا أشاركهم اللعب.
علم يزيد كم الألم الذي خرج من فم طفلٍ صغير لم يتجاوز السابعة بعد، لام كثيراً هو لاء الأهالي الذين لا يُعلمون أبنائهم أن الكلمة أما أن تكون صدقة تنقذ حياتهم، أو تكون كنصل رمحٍ يقتل من يقف على مقربة منه، فأعاد كرته مرة أخرى وهو يربت على شعر ذلك الصغير من جديد يقول والبسمة تشق وجهه:
_لا تقول هذا أيها البطل، أنت شجاع جداً لأنك تحملت أن لا تلعب من الأطفال لأنه يُضرك، شُجاع لأنك صبرت على ذلك المرض، وإن شاء الله بعد أن تُشفى من الجراحة أعدك سسأخذك إلى مكانٍ لن تتمنى أبداً أن تخرج منه، مكان صنعته وأحبه.
بعدما لمح الصغير صدق النظرات في عينه وبراءتها هز رأسه بنعمٍ وهو يعانق يد يزيد التي تعبث في شعيرات رأسه، ولكنه رفع رأسه قليلاً وهو يرفع سبابته أمام وجهه سائلاً بتحذير
_أقسم أنك لن تخذلني أبداً وستفي بوعدك لي يا طبيبي الماهر.
ضحك يزيد بخفة وهو يربت على يده المتصلة بمحلولٍ قائلاً:
_أعدك أيها البطل، ولكن ليس قبل أن تعدني أن تكون بخيرٍ ولا تستسلم لأي ألم من أجل وعدنا، ومن أجل والديك الحزينين عليك، ولن يفرحا إلا بعد أن تخرج من هنا بخيرٍ يا صغيري، وقد جاء وعدي أنا الآخر ستأخذ الدواء دون أن تُتعب الممرضة معك.
تجعد وجه الصغير بنفور مضحك وهو يقول:
_أيجب ذلك الشرط، إن الدواء مر؟
ضحك يزيد من جديد وهو يجيبه بجديةٍ قوية:
_نعم بكل تأكيد، إذن كيف ستُشفى يا بطل من دون الدواء.
ثم هبط قرب أذنه يبث أذنه بجملةٍ رددها بأسلوبٍ لا ينساها رغم صغر سنه:
_كل مر يمر يا صغير ويأتي بعده حلاوة، فلا مر يبقى، ولا الحلاوة تزول دون تذوقها، فقط تذكر أن بعد المر نتذوق الحلاوة ونحن ندرك قيمتها.
ألقى على ذلك الطفل تلك الكلمات التي تأكد أنه لم يفهمها، بل أراد ترك لذلك الصغير ذكرى ربما تنفعه في المستقبل، ورُغم أن ذلك الصغير لم يفهم معنى تلك الكلمات إلا أنه بكل خنوعٍ كان قد تناول الدواء دون أدنى حديث وكأن كلمات طبيبه الماهر قد ألقت مفعول السحر على مسمعه، ومع مرور الأيام وتحسن حالة ذلك الصغير، كان يزيد بالفعل أجدر من يقوم بالوفاء بوعده، إذ بعد شهرٍ من معاناة ذلك الطفل، كان يقف يزيد جواره داخل المصعد الكهربائي الذي يتجه إلى الأعلى حيث السطخ الذي أخبره الطبيب أنه قام بصنعه، وقف الطفل الصغير أمام السطح الذي كان يُشبه حديقة خضراء في وسط المدينة تنتظر يوم الاحتفال حتى ينعم الجميع بذلك الجمال الذي يتوافد أمامه عينه، جذب يده من يد يزيد وسار يستكشف المكان، أحواض وردٍ على جميع جوانب السطح، وأشجار زينة خضراء يبدو أن الاعتناء بها جيداً، وأرجوجة توجد أسفل مظلمة خشبية أمامها مسبح يبدو قريباً إلى البلاستكي مزين، وفي ركن بعيد طاولة صغيرة يوجد خلفها كرسي هزاز يبدو وكأنه مكاناً للعمل، ألف ذلك الصغير هذا المكان، شعر وكأن طفولته قد استردها هنا بعدما أخذ يعبث في كل ذلك المكان وعده، هنا فقط شعر أنه استرد جزء من طفولته، يجري بخطواتٍ صغيرة جداً، لا يسمع ذلك الكلام الذي كان يبعث السوء في نفسه ويُشعره بالدونية، بعدنا انهكته خطواته الصغيرة اقترب من يزيد الذي أخذه يتأمله بمحبةٍ فياضة، عانق قدمه بيديه الصغيرتين وكأنه يحثه على أن يهبط بقامته، وبالفعل كان قد خنع يزيد لذلك الطلب المحبب وركع على قدميه أمام ذلك الصغير الذي أخذ يقبل وجنتيه بحبٍ وقال بامتنان يكبره:
_شكراً لكَ يا طبيبي الماهر، شكراً لأنك وفيت بوعدكَ لي، شكراً لأنك لم تُخبرني أني مريض.
ثم أعاد كرته وهو يرفع سبابته في وجهه من جديد يُكرر حديثه قائلاً:
_تذكر أني وفيت بوعدي، أخذت الأدوية، ووعدي الأخير أن أصعد وألعب بهدوءٍ دون شعبٍ وقد فعلت، نعم أشعر بأني أتنفس بسرعةٍ ولكني بخير.
ربت يزيد على يديه الصغيرتين برقة من جديد، وقال له بصوتٍ غلفه بالحنان:
_هذا أنت أيها البطل، سيأتي يوماً ما تكون بخيرٍ تماماً، ولكني سآخذ عليك وعد لن أطالبك به طالما لم تتذكره، عليك أن تتذكرني دوماً لا تنساني أيها الصغير، فأني لدي أخت لها ولد جميل مثلك ولكنه صغير وأنت تذكرني به.
ابتسم له الصغير وقال وهو يقبل وجنته من جديد، ثم قال ما جعل وجهه يُجعد من الذهول:
_أعدك بذلك، أعدك بوعدي الثاني مع الذي كان بالغرفة، سأتذكرهما دائماً.
وعانق يد طبيبه كي يساعده على العودة، وبالفعل كان قد انصاع يزيد خلفه وهبط درجات السلم يحثه على المسير حتى وصل إلى غرفته أخيراً، وجد والدة الصغير تقف على أعتاب غرفته، رأى بوضوح دموع الفرحة التي استرقت بمقلتيها تلمع ببريقها الخاطف، تقدمت صوبها حتى عانقها صغيرها بفرحٍ، قبلت أعلى رأسه وجنته ثم استقامت بطولها تقف أمامه، رددت بصوت أدرك العرفان فيه:
_شكراً لك أيها الطبيب، لا أعرف ماذا أقول، ولكن بارك الله فيمن مثلك وأعطاك الله أضعاف من المحبة والخير التي بقلبك، وجزاكَ خيراً بمقدار كل بسمةٍ تبعثها في قلوبنا.
ابتسم يزيد لها قائلاً ويهز رأٍه بنفيٍ:
_على ماذا الشكر سيدتي أنا لا أفعل سوى بقسمي وضميري، وكفاني هما، وأنا الشاكر لكِ على تلك الدعوات، هي تكفيني.
توجه صوب الصغير وانحنى أمامه قائلاً:
_لا تشاكس كثيرا أيها الصغير، فقد مر الكثير بقي القليل حتى ترتاح أنفاسك، فقط لا تُشاغب.
أومأ الطفل برأسه وهو يمنحه ابتسامه يبث فيها من خلالها وعدٍ أنه سيُصدق هذا الوعد ما دام حياً.
*********************
*********************
خرج من شرود تلك الذكرى التي اقتحمت عقله، ربما ردت إليه إنسانيته من جديد بعدما كادت تُمحى بأن يموت على يديه مريض، هو يؤمن بأن المعجزات تحدث حقاً، يؤمن بأن لكل مجتهدٍ نصيبه، ولكنه لا يدري لما نصيبه أصبح بذلك السوء، فحينما يشعر أنه كان على وشك أن يُفقد روح بين يديه تلك هي قة عذابه، أخذ يدور بالمكان يتأمل كل ركن فيه وكأنه فعل ذلك الجمال تواً لا منذ عامين انصرموا، يأتي بمرضاه هنا كي يستردوا روحهم من جديد، ويستعيدوا الطاقة بعدما يملوا من تذوق المر، هنا فقط الحلاوة تتجدد في أفواههم، قلوبهم التي تنبض بكل خير، ففي ذلك المكان ذكرى لا تنفك أن تذهب عن عقله، هنا فقط يُحرر روحه ليعيش، سار تلك الخطوات الصغيرة حتى وصل إلى ذلك الكرسي الهزاز الذي خلف المكتب الصغير، جلس عليه وأراح ظهره للخلف وهو يتأمل كل شيءٍ حوله، أغمض عينيه يحاول أن يبحث في الماضي عن ذكرى جيدة له مع ذلك الصديق الذي تيقن من الحديث أنه هو فعل، يفكر يحاول أن يجد مبرراً له يبرأه من ذلك الجرم الذي أوشك أن يوقع نفسه فيه، ولكن ذكرى عقله قد أتت بذلك اليوم القريب، بل الأمس القريب جداً، حينما كان يجلس برفقتهم، حديث كامل يتردد على أذنه، ومعنى حديث أحمد ومحمد أن يكف عن حقده هذا يتراقص طيف الصوت أمام عينه، لا لم يكن بذلك الهدوء، بل كان كبوقٍ وسط الزحام يتوافد على عقله، عاد عقله إلى ذكرى أخرى لم يكن يتوقع أن يفكر لها بذلك السوء في ذلك اليوم الذي وقع فيه من على سلم المشفى، عجز أن يعلم لما سقط بكل تلك القوة التي سقط بها، هو مؤقن أن جسده كان متوازن جداً ولم يكن لديه إرهاق حتى لا يعلم ألا يحدد أسقط تعباً أم هناك من أسقطه، وبعدها ظل يومين نائماً تماماً من شدة إصابته حتى أتى إليه هؤلاء المرحون، يطرقون الباب بصخبٍ لا يناسب مريضاً قط، حتى بدا على وجهه إمارات الإنزعاج والغضب قليلاً، حاول أن ينهض بجسده قائلاً بغضب مزيف ولكن معه كان يعانق رأسه من ذلك الألم الذي يفتك به:
_ماذا هناك أيها المزعجون؟ لما كل هذا الطرق ألا تعلمون أني مريض؟ كاد رأسي ينفجر يا رفاق.
ضحك أحمد ومحمد بمرحٍ، حتى رد أحمد عليه بمحبة وامتنان لكونه سالماً:
_نعم يا صديقي أنك مريض، ونحن نشكر الله أنك بخير ولم تضرر كثيراً من تلك الوقعة، ولكني أخبرنا كيف وقعت من على السلم.
رفع يزيد بصره يتأمل وجوه ثلاثتهم، فقد كان أحمد ومحمد بدا عليها الحزن الشديد على ما أصابه ولكن ذلك الأرعن بالخلف كان يقف كالتمثال الجامد، حاول أن يخلق له عذراً بداخله، ونحى بصره عنهم وهو يجيب على سؤال رفيقه:
_والله يا صديقي لا أعلم، كل ما أتذكره أنه شعرت بأن هناك قوة دفع من الخلف تدفني للأمام ولم أشعر بشيء سوى بعدها وأنا هنا جالس على ذلك السرير.
ابتسم أحمد في وجهه ببشاشة وهو يثحدث بشيءٍ مبطن لم يدركه:
_نحمد الله أن الضرر كان إلى هنا فقط ولم يكون أكبر من ذلك، والعقبة إن شاء الله لمن فعل.
ثم نحى بصره عن ذلك الذي كان ينظر إليه، أخذ كامل يقترب منه بهدوءٍ قاتل، وهبط على أذنه يهمس بخفوتٍ:
_ماذا حدث أيها الطبيب الماهر، سأحتل مكانك.
قالها بنبرة غلفها بالمرح، وهو ينهض قال:
_حمداً لله على سلامتك، ونشكر الله أنها جاءت على ذلك الحد.
وبعد مرور بعض الوقت كان خرج الجميع من الغرفة وبقي هو، عاد من ذكراه على تلك الجملة التي أخذت تتردد إلى مسمعه كثيراً، وكأنه الآن قد فُتحت عيناه على الدنيا ليعلم خباياها وما فيها، جملته "سأحتل مكانك تتردد على أذنه" أيُعقل أنه من قا بفعل ذلك" لما؟ سؤال ردده عقله وهو يبحث عن جواباً لا يعلم إذا كان سيجده أم لا، ولكن الجواب كان يعلم أن له سؤالاً فحضر له كي يُريحه ولو قليلاً، وكان في خضم صراعه مع نفسه كان هو بالخلف يتأمل ذلك الوضع الذي هو عليه، ولكن عندما لمح الحيرة على ملامحه اقترب منه حتى بات لا يفصلها عن بعضهما البعض إلا خطواتٍ محدودة، وصوته يُردد في المكان وكانه فرغ حتى يكون له صدى:
_لا تفكر كثيراً يا عزيزي، نعم أنا من فعلت، ولن أتوقف عن فعل أي شيءٍ يؤذيك، فقط أودك أن تترك مكان هنا حتى ينجح غير، لا تكون كذلك المغناطيس الذي يجذب، ارحل يزيد إلا وأقسم بشرفي وبالله أنك ستكون بأبشع مكانٍ إذا ظللت هنا، لست أنا من أمل المحاولة، سأكررها كثيراً، ووقتها ستشوه سمعتك كطبيب وإنسان، أنقذ ما يمكن إنقاذه بنفسك.
أرسل إليها تلك الرسالة وجهاً لوجه وأدرك ما هو بغضها، لا يعلم ماذا فعل حتى يُصبح ذلك الرجل بذلك السوء، فتح عيناه لا يصدق ما سمع، تمنى لو كان ذلك تردد من نفسه فينهاها عن ذلك التفكير، ولكن رؤيته وهو يرحل عن المكان كانت كفيلة بتأكيد ما سمع، وبدأ عقله يُردد جملة واحدة " لست أنا من أكون سبب في أذية نفس، لست أنا من أكون سبباً في أذية نفسٍ"
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي