العميان٧

كان يغوص في الظلام سواء كان من فوقه أو من تحته، بل كان يغرق فيه من كل جانب، فقد ألقى بنفسه في ظلمات البحر، وألقى ذاته الباحثة عن الطموح والخير دوماً خلف سجن لا يعرف سيقدر على أن يخرج منه أو لا، وهو غارق بين تلك الموجات التي تأخذه أما للصعود لأعلى أو تجذبه إلى أسفل لكي تزيد من رغبته في الموت الذي يستشعر برودته حينما يهبط أكثر في تلك الظلمات، ولكن الجملة ذاتها التي ترددت على مسمعه أخذت ترن في أذنه وكأنه صوت إشعار قوي أن ما يفعله ليس بالجيد أبداً بل ليس بالخير قط، "" لست أنا من أكون سبب في أذية نفس، لست أنا من أكون سبباً في أذية نفسٍ" ترددت على مسمعه كثيراً سواء من قبل أو الآن حينما تطرق أعتاب أذنه كالبوق الذي يحذره بأنك تقع على جرف الهاوية، إنه لم يكن قريب من الهاوية فحسب بل كان على شفا حفرةٍ من جهنهم، فقد كان يُلقي نفسه في تهلكة لن يقدر على ردها مطلقاً، فإن غادرته روحه بالتأكيد لن يمتلك لنفسه ساعة غفران، وعند ذكر ذلك الغفران كان جسده يحارب بقوة محارب شجاع داخل أرض معركة لا يملك جيشاً ويحارب بنفسه وإيمانه، فقد غلبه إيمانه وألجم ضعف نفسه حينا بدأ جسده يصعد إلى الأعلى أكثر وأكثر، ولكن رغم برودة الجو والظلام الذي تمكن أكثر من مدينة نيويورك الصاخبة، لم يخرج من الماء بل كان أبي في الخروج، يود ذلك الصقيع الذي يحكم زمامه حول نفسه لعله يتعب من ذلك الوضع الذي أحاط نفسه به، لعله يمل البرد والظلام ليبحث عن الدفء والنور الذي كان يوجد في حياته من قبل، ولكنه كانت ملامح الجمود ترتسم على وجهه رُغم سواد الليل الذي يتخلله أنوار المدينة الصاخبة التي أبانت بعض من ملامح وجهه المقشعرة بجمودها، كان يُجدف بذراعيه أكثر حتى يصل إلى أبعد مكان في ذلك المحيط خارج حدود الشاطئ، ولكن صوت رنين هاتفه جعله ذراعيه يتوقفا عن التجديف ثانية، إنها تلك النغمة المُخصصة التي لم تطرق هاتفه منذ ثلاث سنوات، الرقم الذي يشتاق إلى صاحبته كثيراً، ولكن داخله كان لديه شعور رافض أن تكون هي، وسؤال محير غلفه أ يُعقل أن تكون هي بعد تلك السنوات، هز رأسه بحزنٍ وعاد ليكمل ما كان يفعله، وأقر حقيقة تمنى داخله أن تكون مجرد وهم وأن ما يسمعه حقيقة وتكون تلك النغمة من أميرته وليس من أحدٍ غيرها، وبينما هو ينصت إلى ذلك الصوت الذي اخترق قلبه قبل أذنيه حتى توقف فجأة، أدرك هنا أنه ربما يعيش أضغاث أحلام أجبره الحنين أن يعود إليها، وكاد أن يُكمل ولكنه توقف حينما عاد هاتفه من جديد إلى تلك النغمة، استدار وداخله ألف دعاءً أن تكون هي، تبثه بعضاَ من الأمان الذي يحتاجه، والراحة التي يبحث عنها كثيراً، تعطيه إياها حتى يستكين من جديد، خرج من المياه الباردة وقد استشعر برودتها جيداً، جذب ملابسه وأخذ يرتديها في عجالة حينما لاحظ ارتجاف جسده الذي لم يكن يشعر بها طوال ما كان في الماء، مد يده إلى جيب سرواله يلتقطه حتى يتأكد، وها هو أصبح الهاتف أمامه عينيه، إنها هي، هو لم يكن يتخيل فحسب، إنها حقيقة، ورغم شوقه إلى صوت الحنان الذي يفيض من بين طبقات صوتها إلى أنه توقف وكأن القدر يصر أن يبقى هو في ذلك القفص معتكفاً بنفسه للأبد، يفكر لما تدق أبوابه الآن، أحقاً قد تكون اشتاقت له بعد تلك السنوات التي لم تفكر في أن تفعلها من قبل، ل يفكر أكثر من ذلك هو على يقين أنه بمجرد أن يفتح هاتفه سيجد الجواب بكل تأكيد، لمس بيده الشاشة كي يفتح المكالمة، تعالى زفير أنفاسه يحاول أسرها ولكنه بدا كمنضال ضعيف، ولكن ما كانت أكثر قوته هنا، وضع الهاتف على أذنه، يستمع إلى صوت الأنفاس العالية التي غالبت علو أنفاسه وارتفاعها، وصوتٌ تهدج يعرفه جيداً يوشك على البكاء، بل كان يبكي بشكلٍ خافت، ربما نخفي به حزن لا تريده أن يكون مرئ للعيان، ولكن صوته الذي تردد بخفوت يبوح باسمها:
_أميرتي الجميلة!.
قال هاتين الكلمتين وبعدها سمع نحيب جعل قلبه يلتاع في مرقده أكثر من ذي، لم يكن يعلم أن تلك الكلمة ستكون سبب في ذلك الانفجار العظيم الذي حدث في توه، تأوهها المكتوم الذي ينم عن اشتياق إلى جزئها الآخر الذي لم تكن تتوقع أن تنفصل عنه في يومٍ من الأيام، ظلت هي على بكائها، وبقي هو على صمته يستمع إلى صوت أنفاسها التي تعبر عن مشاعر وأن خفيت بقيت العظيم، يأمل نفسه بأن القادم لن يكون سوى الخير، مر وقتاً لا يعلم أكان طويلا أو قصيراً، ولكن يكفيه الآن تلك السكينة التي انتشرت داخل فؤاده، وسطرت داخله بريق رائع، هدأت هي وهو يسترق سمعه إلى أنفاسها التي هدأت قليلاً، لا يعرف أيبدأ هو بالحديث أم ينتظر أن تكون هي البادئ به، لكنه متأكد أنها لن تقدر على ذلك، فبدأ الحديث هو ولكنه لم يستطع أن يمحي ذلك الجزء الذي يحتوي على لومٍ كبير داخل قلبه حتى قرر أن يفضي به الآن وهو يطلق تنهد قوي من صدره:
_أخيراً يا أميرتي تذكرتني بعد ذلك الغياب، هل حان الوقت لكي تتحدثي مع توأمي الرائع؟
رغم فيض الشوق الذي باح به نواحها إلا أنها أكسبت صوتها بعضاً من الجمود وهي تجيبه، تريد أن تسلب من لسانه حقيقة فعلته، ولكن قبل أن تتحدث معه أو تقول شيء جاء ببالها ذلك اليوم الذي كانت تجلس فيه جوارأمها، وابنها الصغير ذو الثلاثة أعوام يعبث أمام عينها، يمنح الجو مرحاً وبريقاً خاصاً، بينما كانت تلاعبه استمعت إلى صوت سيارته وهي تدلف بوابة الفيلا، هرولت بصغيرها صوب النافذة تتأمل دخوله، حمل الصغير على ذراعيها وهي تشير له بأن ينظر صوب خاله قائلة:
_انظر يا صغيري، لقد أتي خالو باكراً.
وبمجرد أن وقف أمام باب الفيلا تركت الصغير يهرول إليه بعدما كان يُرفص بأن تتركه كي يذهب إليه، وقد انصاعت لرغبته بالفعل، وتركته حتى رأته يقف أمام الباب والخادمة أمامه تفتح الباب، رفع يديه الصغيرتين يشير لخاله بهما أن يحمله، وكان بالفعل هو أسرع من أن يخضع لذلك الصغير، حمله بين يديه ولن ليس ككل مرةٍ يلاعبه، يداعبه، يرفعه للهواء كما كان معتاد، بل ملامح وجهه الجامدة أو الميتة كما أطلقت نفسها عليه، لاحظت اقترابه منها، وملامحه كما هي، وأيضاً ذلك الصغير الذي يحفزه على أن يلعب معه ولكنه كان أبرد من لوح برد في ثلج القطبين لا يذوب إلا بعد عذاب، اقتربت منه تحمل طفلها، وأعطته إلى الخادمة كي تذهب به إلى غرفة ألعابه هنا، وبعدها وجهت بصرها إلى أمها باستغراب لعلها تجد جواباً في وجهها، ولكنها لاحظت أن ملامحها أشد غرابة منها لا تدري ماذا يحدث، نحت بصرها عن أمها ومعها شعور الخوف الذي استوطن نفسها، اقتربت من أخيها، تقف أمامه وجهاً لوجه تحاول أن تثبر أغواره الداخلية، ولكنها عجزت أن تفعل، ابتلعت ريقها وهي تسأله بلهفةٍ خائفة:
_ماذا هناك يزيد؟ لما أنت هكذا؟ هل حدث شيئاً ما؟
وعندما لاحظت قوة نظراته الجامدة أكثر تمكن الخوف أضعافاً من شعورها، فأعادت سؤالها من جديد على مسمعه، وكذلك أمه التي انهالت عليه بالاسئلة، دار ببصره بينهما يمعن النظر فيهما وهو يُجيبها:
_لا لم يحدث شيء، فقط أود أن أخبركما أني تركت مهنة الجراحة إلى الأبد، وسأغادر البلاد الليلة إلى الولايات المتحدة، فقط هذا ما أردت أن أخبركما به.
كلماته رُغم صغرها إلا أنها أقامت بنفسهما مقاماً غير محموداً فقد ألجمتهما الصدمة كثيراً حتى تسمرت كلتهما في مكانهما دون القدرة على الحديث، بينما هو لم يقف ليبرر أي شيءٍ أو يشرح، فقط يود أن يهرب كي ينفرد بنفسه قليلاً، وبالفعل قد دخل إلى غرفته تأمل كل شيءٍ فيها وكأنه يُلقي عليها نظرة الوداع الأخيرة، وكأنه يخبرها أن هذا هو آخر لقاء بينهما، بعد بصره عن ذلك التأمل وتوجه صوب خزانته وهو يحمل حقيبة السفر، بعد يعبث بكل محتويات غرفته، يعبأ ما يحتاجه فيها، ويبعد ما لا ينفعه عنها، ظل يدور في الغرفة لوقتٍ طويل، يبحث عن أشيائه لوقتٍ أطول وكأنه ليس هو ذلك الشخص الذي وضع كل شيءٍ في مكانه، عندما شعر بأن الغرفة تدور به توقف في مكانه، عاد لتأمله من جديد.
بالأسفل كانا هاتين السيدتين على الصدمة، لا تصدقان ما سمعتا، فقد ظنتا أنها مُجرد مزحة غير طريفة بالمرة قد قالها ذلك الأبله وألقاها على مسمعها، جلست على الأريكة لدقائق قليلة، حتى سمع صوت جلبة عالية بالأسفل، وقد كان هذا إدراكهما بأنه ليس يمزح إنما هو الحقيقة بعينها، هرولت أميرة وخلفها أمها، تود أن تطير كي تصل إلى غرفته، شعرت وإن تلك المسافة القصيرة بلاداً تُبعدها عنه وعن جوابه، لم تصدق الوقت الذ وصلت فيه وها هي تقف على أعتاب بابه، ولكن مع أسفها الذي بدا واضحاً على ملامحها، تقدمت منه أكثر حتى جلست أمامه راكعة، تسأله بصوتٍ حاني وهو يربت على يده بخفة:
_أخي الحبيب، ماذا هناك؟ ما الذي بدلك بذلك الشكل؟ أشعر منذ فترة أنك لست بخير، وقلبي يؤلمني ولكن عندما أراك بخير أقول لعلها أوهام، ها أنا تؤأمتك أتوسل أن تخبرني ماذا هناك.
نهض من مكانه حتى لا يضعف أمام حنو صوتها الذي غلفه، وقف ينظر إلى أمه التي بدت الحسرة على ملامحها، تجنبها وهو يتوجه إلى شرفته يُطالع ذلك الليل، يجيبهما وهو يظهره قائلاً:
_لقد قررت يا تؤأمي، ليس هناك سبيل للفرار، أنا راحل الآن، لا أعلم متى آتي مجدداً.
ذلك الإصرار العجيب الذي لمحته في طيف صوته أكد أنه ليس بخير، أكد بأن هناك شيء ما يحتله، وقفت أمامه مجدداً بإصرار أكبر:
_لن أسمح لكَ أن ترحل قبل أن تقول ماذا بك؟
نحاها جانباً وهو يخطو للخارج قائلاً:
_أنا بخير فقط اتركوني أرحل.
وكان بالفعل قد وصل إلى درجات السلم التي تفصله عن الخارج خطوات، ولكنه توقف قليلاً حينما سمع صوتها يُردد بعدما سمع ما سُيزيد من نحره:
_إن خرجت من هنا قبل أن تبرر أنسى أن لكَ تؤأم، انسني يزيد.
كانت تلك الكلمة أصابته في مقتلٍ فهي ذلك الجزء الجميل بداخله، استدار لها قائلا بصوتٍ حزين:
_لن أقدر أن أكون السبب في أذية نفس، لن أقدر.
جهلت أي أذية، ولكنها علمت أنه يمر بأسوء مراحل ضعفه التي شاهدتها مرة واحدة من قبل، هرولت إليه تسحب يديه توقفه وتديره إليها قائلة:
_أياً كانت تلك المشكلة أنت لها ند، لا تكن ضعيف يا أخي، استدير وانظر إلى أمك التي تبكي، أتوسلك الرحمة أخي.
_آسف لن استطيع، تلك آخر جملة قد رددها على مسمعها قبل أن يرحل، وهي أيضاً لم تكف عن تلك الجملة التي تزيد ألمه "انس أن لك تؤاماً، أنا لست موجودة، لقد نحيتني عنكَ بيديك".
وكأنه لم تنصت إلى حديثها ورحل، ولكن تلك الجميل كانت كالقشة التي قسمت ظهر البعير، لا يُصدق أن تلك الكلمات خرحت من فمها، ولكنه لن يخضع، فليكن ضمن خسارته، وضمن حسراته، وضمن نفسه التي فقدها منذ أن قرر الضعف.
خرجا كلاهما عن تلك الذكرى البغيضة، أعطته أذنها لكل انتباه، تنتظر أن تسمع كلمات جديدة غير التي ألقاها على مسمعها في التو، ظلت على صمتها حتى قرر أن يقطعه للمرة الثانية لعلها تحن على قلبه:
_ألن تُجيبي عليّ أميرتي.
من خلف هاتفها كانت قد هزت كتفيها علامة على أنها ترفص الحديث معه، ولكنها في المُقابل سمعت صوتاً ضاحكاً يقول:
_أعلم أنك قد قمتِ بهز كتفيكِ، ولكني أعلم أن قلبكِ حنون مثلك وستُجيبي عليَّ، ألم يكف كل تلك الأعوام التي أبعدتني عنك أيتها الصغيرة؟
لم تنجح تلك المرة في أن تبقي صوتها على صمته، ولكنها تحدثت بصوتٍ لائم غاضب بعض الشيء:
_أنت تحديداً لا تحدث معي، من منا لم يسأل عن الآخر؟ من منا قد هجر الدنيا بأسرها وقرر أن يعيش بمنفى بعيداً عنا، تعلم جيداً أنك لو اتصلت وبررت كنت سأجيب، ولكنك يا يا دكتور.... عذراً يا أستاذ يزيد نسيت أنك تخليت عن كونك طبيب، لم تفكر أن تتعب نفسك قليلاً، لم تفكر المسير إلينا ونحن في كل مرة نسلكَ الطرق إليكَ.
تبسم قليلاً على حديثها وقال:
_أعلم أنك كنت صاحبة مكالمة كل أسبوع حتى لو لم تُجيبي أختي، آه لو تعلمين أني أعيش أضعاف من ذلك الألم الذي تعيشون به، لم أريد أن ازيد الحمل عليكم، ولكني والله ما ارتحت يوماً.
عندما أحست بصوته الذي ظهر واضحاً ألمه خرج صوتها بمحبةٍ وحنان حاولت إكسابه القوة:
_مادام هكذا لما لم تبق معنا، لما أصريت على الرحيل يزيد، ألن تخبرني ماذا بك يا أخي؟!
تنهد بخفوتٍ وهو يُجيبها:
_أقسم سيأتي يوم ويزول كل هذا وأخبرك بكل شيء فقط انتظري، أنا أعدك.
أدركت أنه ما دام وعدها سيفي بوعده بكل تأكيد، ظلت على الهاتف معه حتى سمعت صوته يسألها:
_أين ذلك الصغير المُشاكس أيهم؟
تبسمت هي على حديثه وأجابته قائلةً:
_أنه مع حسام بالأسفل يلعب في الحديقة التي تتزين للعرس الذي لن تحضره.
تعجب من حديثها وقال:
من قال أني لن أحضر؟
أجابته بيقين:
_أمي وحسام.
تبسم هو على مكر أمه، أدرك أنها فعلت كل ذلك حتى تتحدث تلك الليئمة معه، غلف صوته ببعض المكر وقال:
_بالفعل كنت لن آتي، كيف آتي وأنا أعلم أن توأمي لن تكون موجودة، لكنك أعدك أن أكون غداً عندكِ، وعند حبيب خاله الذي اشتقته كثيراً.
سألته بجدية:
_هل ستخبرني بالذي حدث معك؟
ابتسم على مكرها وأجاب:
_ ليس غداً أميرة، فهناك اشياء عالقة لابد من حلها أولاً، وبعدها سأخبركِ بكل شيءٍ حسناً.
هزت رأسها وقالت:
_أتمنى ذلك.
وبالفعل انتهت المكالمة على وعد أنه سيأتي غداً، فهي لن تصدق حتى يكون أمامها ووقتها يمكنها أن تسرق الحديث من على لسانه.
****************************************
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي