العميان٩

جلست في السيارة التي تحملها إلى المشفى الذي يقطن أبوها فيه بعد أن نالت حظاً وافراً من الإهانة عن عدم حضورها للجامعة أو تسليم المشروح الخاصة، جاء في ذهنها ذكرى الصباح الذي خرجت فيه من منزلها، كانت ترى سائق السيارة يقف منتظر أن تدلف حتى يأخذها للمسير، وبالفعل كانت جلست للداخل حتى بدأ ينطلق وهو يدري وجهته بكل تأكيد، فهي لم ولن تخبره أبداً عن أين تذهب، فهي قبل خروجها تجده مستعداً تماماً للمكان الذي ستذهب إليه، بالتأكيد أحد أخوتها يخبره بالمكان الذي ستذهب له، لم تستطع أبداً أن تحيد عن ذلك المكان المقرر لها ذهابه، فقط مسيرة لا مخيرة تحت قيد الإجبار، رفرفت ببصرها تتطلع إلى كل ما يحيط بها داخل ذلك المجع السكني التي تخترقه السيارة بصريرها العالي، أخذت تتأمل تلك الخضرة المنبعثة من حولها تشعر وكأنها تمنحها طاقة عظيمة تُحارب به أي يأس يسيطر على نفسها، تأملت الحدائق التي ترامت على الأطراف هنا وهناك، ونسيم الصباح ذات الأمر إشراقاً أكثر، أسرى داخل قلبها بعض من البهجة التي أفقدتها دائماً، أغمضت عيناها وفتح أنوفها تستنشق النسيم ودت لو بإمكانها أسره داخل قلبها، لعل تلك الريح الطيبة التي قلما تشعر بها تكون سكننا دائماً لها، ظلت هي على حالة السكون التي كانت عليها تنتظر الوقت الذي ستصل فيه إلى أبيها بأقصى سرعة، ترمي بعض من أثقال قلبها على عاتقيه، يتحملها كما كان يتحمل دائماً، فهو ذلك الركن الركين بحياتها الذي تدعو الله بكل ثانيةٍ تمر من حياتها أن يُطيل الله بعمره ولا يذيقها الشر فيه كما ذاقته بأمها، ومن بعد موتها أصبحت تتجرع من كأس الألم كل يومٍ أطنانا فكفاها كل شيء، دعت الله أن يكون خروجه من ذلك المكان البغيض قريباً جدا، فهو يرقد طريح ذلك الفراش الأبيض منذ أسبوعين، الأطباء لا يسمحون له بالخروج رُغ تأكيدهم أن حالته الصحية جيداً، ولكنها تشعر أن هناك شيءٌ سيء في الأمر لن يخبرها أحد به، ولكنها بكل تأكيد لابد أن تعرفه، كانت على وشك الحديث أن تطلب من السائق أن يُسرع قليلاً، ولكنها توقفت حينما شعرت أن شيء ما في حقيبتها يهتز بشدة، أدركت أنه الهاتف، فتحت حقيبتها وأخرجته بسرعةٍ لتعلم من ذلك المتسرع حتى تُجيب، جذبته بالفعل من الحقيبة ونظرت إلى اسم الشخص الذي يتراقص اسمه على خلفية الشاشة، وجدت أنه لصديقتها ورفيقتها بالجامعة، شعرت داخلها بأن هناك أمر جلل حتى تدق كل تلك المرات ولكنها لم تسمعها إلا تلك المرة، كادت أن تفتح الهاتف عليها، ولكن النغمة انتهت، وبثواني مجدداً عادت تدق من جديد، أسرعت هي تلك المرة في فتح الهاتف، تجيب بصوتها الهادئ:
_نعم نجوى، ماذا هناك.؟ لما كل تلك الاتصالات؟
سمعت زفرة قوية غاضبة قادمة من الطرف الآخر، وصوت يجيبها بكل غضبٍ وغيظ:
_نعم هناك أمر مهم أيتها الجميلة، نعم هناك، هل نسيتِ ما هو اليوم؟ أما أنكِ لم تنظري في التقويم الموجود بمنزلك أو هاتفك؟
ابتسمت هي ببسمة تهكمة وأجابتها:
_وما الفائدة من أن اتطلع للتقويم؟ هل سينفعني بشيءٍ؟
ردت نجوى عليها بغضبٍ أكبر لم تستطع السيطر عليه:
_نعم أيتها الغبية، هل نسيتِ أن اليوم هو المُخصص لامتحان الميد ترم، ولا يمكنكِ أن تتغيبي عنه وإلا كانت تلك المادة حليفة لكِ للأبدـ أو يبدو أنكِ نسيتي أن هناك مشروع لابد أن ننهيه غداً كي يُراجع، ويُسلم بعد غدٍ.
أغمضت عيناها بغضبٍ، فهي ناسية كل شيء، لا بل ليس لها الحق في شيء، ابتلعت كم المرارة العالقة بحلقها وأخذت تُجيب على رفيقتها قائلة بحزن لم تستطع على طمره كما كانت تفعل دائماً:
_وهل لي أن أتذكر يا عزيزتي؟ بأي حق؟! أنا فقط مسيرة.
أدركت نجوى أنها لم تكن بالهينة اللينة أبداً، علمت كم المرارة التي استحوذت على حلقها الآن حتى ظنت أنها لن ترد، أكسبت صوتها بعض اللين وهي تتحدث مجدداً:
_أعتذر منكِ ملك، لم أقصد أن أجرحكِ ولكن كما تعلمين أني أخاف عليكِ، لا تبتئسي مني أرجوكِ سامحيني.
ابتسمت ملك بمرارةٍ وهي تُجيب:
_ليس عليكِ ولا عليَّ لوماً عزيزتي، انتظريني عند الجامعة، سأتصل بأحد أخوتي استئذن منهم وآتي إليكِ وداعاً.
أغلقت الهاتف معها وهي مازالت تحمله بين يديها، لا تعلم ستطرق أبواب من منهم، بالتأكيد إيهاب لن يقف إلى جوارها مطلقاً، لن يُعينها بل هو أول من سزج بها على أبواب الهلاك، أما إن حاولت مع خالد هي لن تقدر على الحديث معه، لن تسيطع فهي تقف أمامه وهي تشعر وكأن لسانها قد عُقد، حتى لو كان بداخلها ثورة تحتدم من الحديث لن تقدر على البوح بها أمامه، أغمضت عيناها وجاء بعقلها أخيها مؤمن، ولكنه بالشركة في ذلك الوقت وتعلم أن من الصعب أن يستجيب، قررت ألا تيأس ونحاول حتى قررت أخيراً أن تفعل وتدق أبوابه، حاولت مراراً أن يُجيب عليها ولكن ما من مُجيب، أصبحت على يقينٍ الآن أنها لن يكون لها سبيل إلا بخالد، ولكن كيف ستفعلن قررت أن تستسلم لما يحدث وتتصل بصديقتها تعتذر عن الحضور والخيبة ترتسم أمامها، ولكن قبل أن تفعل كان السائق من الأمام ينبهها إليه وهو يخبرها:
_تفضلي آنستي، الأستاذ خالد يُريد الحديث معك.
نظرت له ملك بذهولٍ، رأت نظرات حنان تشبه تلك النظرات التي كان أباها يخصها بها، ابتلعت ريقها وهي تأخذ الهاتف من بين يديه تضعه عن أذنها تسمع ذلك الحديث المختصر الذي ألقاه أخوها عليها:
_اذهبي إلى جامعتكِ، انهي أمورك العالقة، واذهبي إلى أبي وانتظري باقي اليوم معه، هو يريدكِ جواره.
تنهدت بخفةٍ وهي تسمع إلى أموره التي ألقاها عليها، نطقت بكلمة واحدة:
_شكراً.
لكنه لم يرد عليها، قام بإغلاق الهاتف دون أن يرد على تلك الكلمةن نحت شعور السوء الذي تربع داخلها الآن جانباً، بينما أخذت تمد يدها إلى السائق بالهاتف، وداخلها ألف سؤال عن كيف فعل ما لم تقدر على فعلهن ولكنها كالعادة لم تقدر علىأن تسأله، ولكنه بادر بالإجابة على حديثها المكتوم قائلاً:
_حينما أدركت أن الأمر طارئ وأنكِ تحتاجين الذهاب إلى الجامعة بصورة ضرورية، ولمحت كذلك التردد من التحدث، أرسلت إلى السيد خالد وقد رن سريعاً، وبعدها توقف ثواني ثم أكمل:
_أقسم لكِ بُنيتي أخوتكِ يحبونكِ.
حينما لمح نظرتها المستهزئة بحديثها والغير مصدقة صمت، يدرك أن الفعل أصدق من الحديث بعديد من المرات، صمت وهو مدرك أنه سيأتي يوماً تتأكد هي فيه من صدق حديثه، وبالفعل، مر وقت ليس بقصير أبداً حتى شارفت السيارة تقف أمام باب الجامعة، هبطت من السيارة بعدما شكرت السائق وطلبت منه أن ينتظرها، سارت صوب الداخل بسرعةٍ تنظر هنا وهناك باحثة عن صديقتها، وجدت تجلس في أسرعت هي في الذهاب إليه، وقفت أمامها تلتقط أنفاسها قائلة:
_كيف حالكِ نجواي؟
استافقت نجوى من شرودها تأملت صديقتها لثواني ثم بعدها انتفضت بسرعةٍ تعانقها قائلة:
_أخيراً لقد أتيتِ، ولكن من سمح لكٍ، ليس مهم الآن، فقد نذهب، بقي خمسة عشرة دقيقة ويبدأ الامتحان.
كانت تتحدث بسرعةٍ ولهفة وكأنها لا تصدق أنها تقف أمامها الآن، في المقابل ابتسمت لها ملك تحثها على المسير قائلة:
_هي يا رفيقتي للامتحان، وبعد نكمل ثرثرة أثناء انهاء المشروع.
ضحكت نجوى بخفةٍ وسارت جوار رفيقتها، عملت جاهدة على أن تُسعدها، تمنحها بعضاً من بريق الحياة التي افتقدته، وبالفعل توجهت الفتيات إلى صوب أحد مدرجات كلية الهندسة الخاصة بالفرقة الرابعة، وقد أدتا امتحانهما بشكلٍ جيد، ومن ثم جذبت نجوى يدها وأخذتها صوب مكتبة الجامعة ليعملا على ذلك المشروع الخاص بهما، وأثناء الجلوس فضول نجوى لم يرحمها وهي تُلقي عليها بسؤالٍ تعلم أنه سيُحزنها؛ ولكن هي تصر على أن تدرك رفيقتها نفسها، أخرجت أنفاسها المترددة وهي تسأل:
_هل سيظل ذلك الوضع كثيراً ملك؟
هزت ملك رأٍها بتساءل وقالت:
_أي وضعٍ تقصدين نجوى؟
زفرت أنفاسها وهي ترد عليها بهدوء:
_وضعكِ مع أخوتكِ صديقتي، حياتك التي تفنى يوماً بعد يوم، هل ستبقين على ذلك الحال، إنك تعيشين بسجن حر، عليك أن تعلمي ما يجب أن تفعلي، يجب أن يُفتح القفص لكِ.
تهكمت وهي تجيبها:
_ولكن أولا أعرف لما وُضعت داخل ذلك القفص، حينها يمكن التحرر ولكني لا أعرف.
سألتها بغتةً:
_ولكن ما مانعكِ أن تعرفي صديقتي؟
أجابت عليها بهدوءٍ:
_ليس هناك أحد يخبرني أي جريمة فعلت حتى أعاقب بذلك الشكل.
بدا الشرود قليلاً على ملامحها، ولكن خطر على بالها خاطر اليوم وهي تقول وكانها وجدت الحل:
_أنت ذاهبة إلى أبيكِ بعد الجامعة أليس صحيح؟!
هزت ملك رأسها بنعم ولكنها سألتها:
_وما الفائدة هنا؟
ربت نجوى على يد رفيقتها تُجيبها:
_أبوكِ وخده هو من سيمكنه أن يجيب عليكِ، لما لم تفكري في سؤاله؟
سخرت قليلا وهي تجيبها:
_ومن قال أني لم أفعل؟ ولكن كل مرة يُقسم أنهم لا يملكوا في قلوبهم ضغينة لي، وأنت تعلمين أنني أصدقه.
هزت نجوى رأٍها يمينا ويساراُ قائلة:
_هناك شيء خفي أنت لا تعلميه، حتى لو يكرهوكِ كما يقسم، لكن ربما يحملوا لكِ ضغينة ما هي سبب ذلك، جربي تلك المرة لن تخسري شيء، حاولي أن تسرقي الجواب من فمه، خاصة وأنت تعلمي أنه يحبك كثيراً.
هزت رأٍها بنعمٍ وهي تعلم جيداً أن حديثها ليس بالخطأ أبدا، عملت معها على المشروع، عقلها أقام داخله سوقاً يبحث فيها عن حل ليحقق ما قيل منذ قليل، وألف سؤالاً بداخلها هل والدها سيُجيبها حقاً.


الي اللقاء فيالجزء
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي