الفصل٥

.
كان يجلس أمام صديقه بل أخيه الأكبر يستمع إلى كلامه بانصياعٍ وكأنه تحب قوة تسيره ولم يكن له الحق في التخيير أبدا، الحديث الذي فرضه على أذنه لم يدرك منه أي شيء، لا يفهم ما يُفرض على مسمعه الآن، كيف لا يقول أنه لم يكن الطبيب الأساسي والممرضتان تعلما بكل شيءٍ، حاوط رأسه بين يديه بكل جزع لا يعلم ما الذي حل به، ولا من ذلك اللئيم الذي فعل ذلك الشيء، أطلق أنفاسه وأغمض عينه يحاول أن يسطر على نفسه وعلى أفكاره التي تطيح بعقله لتلقي به في الهاوية، أزاح يديه من على رأسه ينظر إلى أكرم في محاولة منه ليستفسر عن عدة أشياء تجول بخاطره، ولكن البسمة الماكرة التي تزين وجهه جعلته يوقن أن ذلك الماثل أمامه سيفعل شيئاً عظيم، رمي ذلك الشعور جانبا وأخذ يلتقط أنفاسه التي شعر بأنها أهدرت، ولكن عقله توقف عند نقطة لابد وأن يجد لها جواباً أكيد، فحسب قوله أن الممرضتان قد شهدتا حالته وربما تكون إحداهما خمنت بالفعل أنه يكون تحت وقع دواء ما، وإذا أصروا على أجراء تحليل سيكون بالفعل كمن قاب قوسين أدني، عاودته نوبة القلق من جديد وهو يحاول أن يتذكر أ] شيء حدث قبل إتيانه إلى هنا، ولكن كل مرةٍ لا شيء، فهو شرب نفس المشروب الذي يتناوله كل مرة، والصحبة ذاتها، أحمد، محمد، كامل، ثلاثة لا يظن يوماً أنهم سيكونون منبع شكٍ بالنسبة له، فهم أصدقاء الشباب والدراسة، إذن من الفاعل، عندما لم يجد جواباً يُشفي به تلك الدوامة التي وُجدت داخل قلبه ضرب بيده بغضبٍ على الطاولة أمامه، وبحلقت عيناه بأزيز من غضبٍ يدل على عجزٍ شديد، بل مستقبل بالكامل أصبح قرب الهاوية، لا بل أنه سقط في الهاوية، استرجع بذهنه الحديث الذي دار بينه وبين أكرم في التو، وتلك الكلمات التي قالها ارتسمت تتراقص أمام عينه:
_أهلا بك دكتور كامل في اللعبة.
الجملة التي رماها وظن أنه لم يسمعها قط، ولكنها الجملة الوحيدة التي تردد صداها في أذنه، إنه ذكر اسم صديقه وقرنه بلعبة، ولكن ما علاقته باللعبة، لا يعلم، فقد أصبح هو جاهل كل شيءٍ على الإطلاق، لقد نال الحزن منه منالاً شنيعاً، أطلق أنفاسه من جديد وهو يُراقب صديقه الذي توجه بهدوءٍ يقتل صوب مكتبه وجلس عليه، وضع منظاره على عينه وكأنه يمحي بذلك تلك النظرة الماكرة التي تراقصت بطيف عينه، حمل قلم من على مكتبه وهو يضرب به على ملف موضوع أمامه، شرع يتأمل فيه وكأنه يحوي على كنز ثمين سيكون فيه خلاص إحدانا، توجهت إليه حتى جلست أمامه وداخلي يرتعد من الشرطة التي قدمت كما قالت كريمة، لا يعرف كيف أتت، ولا من قام بالإبلاغ، ابتلع ريقه حينما أيقن أن تلك ما هي إلا محاولة بلهاء من أحدهم حتى يُسقط تعب سنوات ظن هو أنه حصل عليه سريعاً، أغمض عينه حينما أدركت نفسه أن مشوار الوصول لم يكن بالهين أبداً، بل كان طريق مُلغم بالمصاعب أوله فقدان أبيه الذي ترك لهم ثروة ضخمة كادت أن تنفلت من بين أيديهم وهو يقف عاجزاً لا حول له ولا قوة، فما كان هو إلا شاب لم يتجاوز الثامنة عشر بعد، في ذلك السن لم يكن يعلم كيف يتصرف، وما كان حلمه أن يحمل على كتفيه راية الأعمال، فقد كان يرى أن أخيه هو أفضل من يقوم بكل تلك الأعمال، ولكنه جاء عليه وقت وُضع أمام نصب السهام، ولكن نفسه رددت جملة العبد في التفكير والرد في التدبير، وبالفعل قد دبرها الله بأحسن صورة، فقد جاءت وصية والداه المنقذ لهم جميعاً، فقد جعل ثروته تحت قيادة صديقه الوفي وأخيه في الرضاعة، وهو والد أكرم، وبالفعل كان هو خير من يتولى تلك المهمة، فلم نعد نحمل حملاً في وجوده حتى نهضت بقامتي واستطعت المساعدة وأنا أدرس حتى جاء حسام أخي كي يقود المهمة، وبعد أن صرت ذلك الطبيب كان ابنه أكرم خير من يأزره ويساعده في أموره، وها هو الآن يفعل، فقد لبس مخالب الصقر وها هو يستعد ليُدافع عنه من جديد، عندما راجعت نفسه بذكريات الماضي شعر أنه بأفضل حالاً يمكن أن يوجد عليه، أراح ظهره للخلف وشرع لسانه في التحرك ليسأله عن ماذا سيحدث لو فعلوا له تحليل للد حتى يدركوا سبب حالته، نظر إليه وكاد ينطق بالحديث إلا أنه توقف حينما سمع صوت طرقة قوية على باب الغرفة ومن ثَمَ دخول شرطيين ومعهم ممرضة، تأمل فيها قليلاً، منذ أن رآها عرفها، فهي التي كانت تجاور كريمة في غرفة العمليات، إنها التي كانت تحاول منع كريمة في طلب أكرم ظناً أنه لن يسمع أو يشعر بشيءٍ ولكنه كان مدرك بالفعل لكل ما يمر به، نر لها بأعينٍ كارهة، اعتدل في جلسته وحاول أن يُكسب نفسه بعضاً من الهدوء والثقة الضابط يقف أمامهما، أزاح أكرم نظارته عن عينه وقال له:
_ماذا هناك يا حضرة الضابط؟
رفع الضابط رأسه بكبرياءٍ وقال:
_عذرا دكتور، أنا أتيت من أجل دكتور يزيد، لقد جاءنا بلاغ أنه كان السبب في وفاة مريض كان يقوم بإجراء جراحة له.
ضحك أكرم بصخبٍ وابتلع يزيد ريقه، ولكن رد أكرم على حديث ذلك الضابط بازدراء:
_ومن ابلغك؟ هل أحد من أهل المريض أيها الضابط
رفع الضابط حاجبه وهو يقول بتهكمٍ وهو يستدير ينظر للواقفة خلفه:
_تلك الممرضة كانت حاضرة في غرفة العمليات وقالت أنه دخل غرفة العمليات وهو متناول مخدر ما، وكان يده ترجف وهو بالداخل، وسقط مغماً عليه بعدها.
ضحك أكرم بصخبٍ مرة أخرى وقال:
_أولاً كيف كان يزيد يقوم بالعلمية وأنا من كنت أقوم بها وطلبت يزيد يكون جواري، أما عن سبب فقدانه الوعي فهو هبوط في ضغط الدم لا أكثر، حالة عارضة يمكن أن يُصاب بها أي أحد، أما عن المريض الذي قتله كما تقول تلك؛ وتهكم قوله ومن ثُم أكمل:
_كان في جميع الأحوال فقد كانت حالته متأخرة وتعرض لأكثر من جلطة، وتلك العملية ما كانت إلا محاولة منا لعله ينجو ويكون صاحب معجزة.
ضرب بغضبٍ على مكتبه قائلاً:
_ومن أخبر تلك البلهاء أن تقوم بذلك، أهل المريض لم يحركوا شكوى ضدنا، إذن كيف تفعل، فقبل دلوف الرجل للعملية كان أهله على دراية بما يمكن أن يحدث، وإن قالت تلك ذلك فما هو دليلها على ذلك الحديث الذي تُريد أن تشره به سمعة الطبيب وسمعة المشفى.
أطرق الضابط رأسه للأٍف قليلاً، ثم وأعاد استقامته من جديد وحدث يزيد قائلا:
_دكتور يزيد هل لديك ما تقوله بشأن ما قاله دكتور أكرم؟
حرك يزيد رأسه بنفيٍ وقال:
_لا حضرة الضابط، فقد قال دكتور أكرم كل شيءٍ.
جلس أكرم على كرسيه لكل أريحية وقال وهو ينظر للممرضة:
_نظرا لما فعلت الممرضة، أود أن اتقدم بشكوي ضدها لأنها كانت تحاول تشويه سمعة مشفانا.
أومأ الضابط برأسه وقال:
_تأتي للقسم غدا وتفعل، ع أذنكم.
رحل الضابط وتركها كما كان قاب قوسين أو أدنى، ابتلعت ريقها ورفعت بصرها لتنظر للذي يجلس أمامها بكل كبرياء وكأن وجهه يبوح بأنها هي من أوقعت نفسها بين فكي الأسد، نهض أكرم من مجلسها ويزيد يجلس يشاهد بكل هدوءٍ، عندما راقبته وهو ينهض صوبها كانت خطواتها تعود للوراء بصورة تلقائية، اشتد تشنج جسدها حتى ظهرت ارتجافه بصورة واضحة أمامهما، شعرت بالدموع تسيل على خديها تحفر نتيجة أفعالها، بل نتيجة ما يحدث حينما يتصارع الحق مع الباطل، ذلك الندان منذ الأزل، جففت دموعها بيدها وهي تحاول أن تجد حديث ينجدها من ذلك المأزق الذي وضعت نفسها فيه، لكنها لا تعرف كيف، تدرك جيداً أن أكرم لا يتهاون مع أي شيءٍ يخص يزيد، هي متيقنة أن أقسمت من هنا إلى أن ينهي عمرها لا يصدقها أكرم أبدا، رفعت بصرها مرة ولكن تلك المرة لم تكن على أكرم مطلقاً، بل توجه بصرها تلقائياً صوب أحمد الذي كان يتأملها من رأسها إلى أمحص قدميها، تأملته لثواني معدودة وهي تقترب منه تركع على ركبتيها أمامه، وصوت بكاؤها بدأ يعلو أكثر وأكثر، كادت أن تمسك يديه كي تقبلها متوسلة، ولكنه ذُهل من فعلتها تلك، أزاح يده بسرعةٍ عنها ونهض من مجلسه، وقف على بضعة خطوات منها يتأملها قليلاً، حتى قرر الحديث قائلا:
_انهضي بسرعةٍ يا حليمة.
وكانت قد أطاعته بالفعل ونهضت من مكان ركوعها القريب منه، وقفت أمامه ومازال صوت بكائها يشتد أكثر كمن فقد الأمل وقالت بتوسل واعتراف:
_أعتذر منك دكتور يزيد، أعتذر دكتور أكرم، أقسم أن كل شيء حدث لم يكن لي يد فيه سوى أني ابلغت الشرطة كما طُلب مني، أقسم أنني لم أفعل شيئاً سوى ذلك.
جلس يزيد على مقعده مرة أخرى، وتوجه أكرم على كرسيه خلف مكتبه العصري وهو يسألها بهدوءٍ اصطنعه:
_اقتربي حليمة وقولي لي كل ما لديكِ إن كنتِ لا تُريدين أن يُزج بكِ إلى السجن يا جميلة.
حاول إثارة رعبها بتهديدٍ مبطن في حديثه، أشار لها بعينه أن تأتي وتجلس أمامه وقبالة يزيد، وكانت بالفعل خضعت وجلست أمامهما، طال صمتها وهي لا تعرف ما الذي ستقوله أو كيف ستقول، لكنها في كلا الحالتين مدمرة، أغمضت عيناها ثواني تفاوض نفسها حتى استطاعت أن تقنع نفسها بأن قضاء أخف من قضاء، استجمعت أنفاسها داخل صدرها وبدأت حديثها قائلة:
_أقسم بأغلى ما أملك أني فعلت ذلك تحت وقع الإجبار.
نظر لها كلٌ من أكرم ويزيد ينتظران أن تكمل الحديث التي بدأته، ولكن خرجت من أكرم نظرة محذرة لها تحثها على ألا تكذب وإلا بلغ عنها إذ اكتشف تلاعبها بهما.
ابتلعت حليمة أنفاسها وقالت:
_منذ يومين منصرمين كان الدكتور كامل قد أتي لي وأعطاني مبلغ كبير من المال وطلب مني أن أضع للدكتور يزيد مخدر في مشروبه قرب دخوله العملية، ولكني أقسم أني لم أقدر دكتور أكرم، في هذا اليوم أنت لم تكن موجود، ولم أنفذ ما طلبه مني دكتور كامل، حاولت إرجاع المال له رفض وهددني.
بكت بشكلٍ قوي ثم أكملت:
_لم أقدر أن أدمر أحد أو أقتل روح، تذكرت أني فقدت ابني وهو يُجري عملية قلب مفتوح، رأيت في ذلك الطفل طفلي فلم أقدر على فعلها، بل لم ولن أقدر في الأساس أن أكون سبب في هزيمة روح تحارب من أجل الحياة.
أصاب الذهول يزيد وهو ينظر إليها، لا يعلم ماذا فعل بكاملٍ حتى يود أن يلحق به الضرر إلى هنا، أثارت نفسه سؤال يود أن يجد من يجيب عليه، هل هو فعل شيء حتى يُثير في نفسه تلك الضغينة التي ظهرت بوضوحٍ، رفع رأسه إلى الممرضة لعلها تنفي ما قالته ولكن نظرة الثقة المفروضة على ملامحها تجبرني على أن أصدقها، حاوط رأسه بيديه بعد أن أفتكه العديد من التساؤلات، ولكن صوته وهو يسأل جعله يتأمل في سماع باقي التفاصيل:
_وماذا عما حدث تلك الليلة؟ ولما أبلغتِ الشرطة وأنتِ تعلمين أن كامل المخطئ حليمة؟
أطلقت أنفاسها الخائفة تبث نفسها الطمأنينة أكثر وهي تكمل:
_بعد ذلك اليوم هددني دكتور كامل بأنه سيُبلغ عني الشرطة أني أقوم بالسرقة من مخزن الأدوية بالمشفى، وأني قبلت رشوة حتى أفعل ذلك، والأموال التي كانت بحوزتي ستكون خير دليل عما ينوي فعله بي.
توقفت عن الحديث حين ظنت أنها قالت كل ما كان يود سمعه، ولكنه نظر له بنظرةٍ ماكرة حينما قال:
_أكملي حليمة.
هزت رأسها بنفي] وهو تقول:
_لا لم يعُد هناك شيء أقوله هذا كل ما حدث دكتور أكرم.
رفع أكرم حاجبه باستهزاء وقال:
_لا تمزحين معي حليمة، كيف وضع كامل المخدر إلى يزيد، ولماذا كنتِ تمسكين يد كريمة حتى لا تأتي إليَّ تُخبرني؟
ابتلعت حليمة ريقها تحاول الحديث، كل شيء أصبح على علمٍ به، رطبت شفتيها بلسانها وبدأت حديثها:
_عندما تأكد دكتور كامل أنني لن أفعل وأضع المخدر لدكتور يزيد تولى هو تلك المهمة عني وفعلها نظراً لأنه يجلس معه ومع دكتور محمد ودكتور أحمد، أما عن الذي حدث في غرفة العمليات كان المطلوب مني ألا أجعل أحد غيري داخل الغرفة، ولكن أصيرت عليكَ دكتور أكرم أن تدخل كريمة الغرفة لتتصرف لأني لن أقدر، أما بخصوص البلاغ فدكتور كامل هو من فعل ذلك لست أنا أقسم لك.
ضحك أكرم بصخبٍ ويزيد كان يجلس في مكانه لا يصدق ما سمعه حقاً، أكل ذلك الغل قد خرج ممن كان يسميه صديقه، لا يعلم إلا أي سوء قد وصل حتى يجعل حياة الناس التي هم مسؤولين عنها عُرضة للخطر، لم يتخيل ما الذي كان سيحدث إذا كان نجح يوم الطفل، وإذ حالفه الحظ اليوم حتى يفعل ما يفعل، أغمض عينه يحاول أن يهرب من كل ذلك الضجيج الذي اجتاح ذهنه، وعقله الذي يحتاج تبريراً الآن لكل ما يحدث.
وبينما يفكر فيما سمعه كان أكرم قد أمر حليمة ألا يعرف كامل أنهم أدركوا كل شيءٍ حتى يتصرف هو مع ذلك الكامل، وما كان منها إلا أن تخضع إلي حديث حتى لا تهلك بهلاك الآخر، هرولت بسرعة من الغرفة وكأنها كانت واقفة على شفا حفرةٍ من هلاك مؤكد، بعدما فرت هاربة من مكان جلوسها كان أكرم وجه وجهه إلى يزيد الذي شعر بتيه، تألم قلبه عليه فهو رغم ذكائه ومهارته إلا أن مبدأ حسن الظن دائم سيُسبب له الهلاك يوماً ما، تأمل صديقه لثواني حتى قال:
_ما بكِ يزيد؟ أزلت لا تصدق أن كامل قد يفعل ذلك، يا صديقي النفس إن أطالت النظر لما عند غيرها ستفنى من النظر وهى تُدرك جيدا أنها لن تصل، ابتسم لحالك، قد نجاك الله من فخ عظيم كنت ستقع به وسيكون نهايتك.
رفع بصره إليه وتنهد بحزنٍ وقال والعبوس مرسوم على وجهه:
_لا أُصدق ذلك يا أكرم، لقد فتحت ذراعي له، أكلنا من ذات الطبق، كيف يخون ذلك؟ ولما يفعل؟ لما لم يجتهد ويعمل على نفسه حتى يصل؟
ابتسم أكرم بسخرية على حديثه وقال:
_هذا الحديث تقوله للأسوياء يزيد، وكامل غير سوي بالمرة، الحقد قد ملأ قلبه فلا تنظر له يا صديقي.
أخرج يزيد زفيراً مُحملاً بآثار اليوم والأمس قائلاً:
_وماذا سنفعل يا صديقي؟
منحه أكرم بسمة هادئة وهو يقول له:
_ستعرف في القريب العاجل، لا تقلق.
نظر له يزيد بعمق وكاد أن ينهض إلا أنه توقف وقال:
_أكرم لماذا ذلك الضابط قام بتحقيقه هنا وهذا ليس قانوني البتة؟ وكيف عرفت بأني تحت وقع المخدر؟ ولما كريمة بهذا الوفاء لكَ يا صديقي ثم رمقه بأعينٍ خبيثة؟
حاول أكرم أن يُلهي عقل يزيد عن ذلك الحوار الذي فتحه في توه، تأفف حينما نظر إليه وجده يتطلع له وهو يُراقص حاجبيه، ظهر الضيق المصطنع على وجهه وهو يقول:
_أيجب عليَّ أن أجيب يزيد؟
قالها ومن ثُم نظر له وهز كتفيه قائلاً:
_نعم يا صديقي، أشعر وكأن هناك أمور تًداريها عني.
زفر أكرم بضيق مصطنع وهو يجيب على أسئلته:
_الضابط قام بالتحقيق هنا ببساطة لأنه لم يكن معه أذن بالقدوم أو التحقيق وهذا ليس قانوني، رُبما يكون كامل قد تحدث معه خاصة وأنا أشعر أني رأيت ذلك الرجل قبلاً، وذلك كامل اللعين كان يود إلقاء اللوم على حليمة وأنا متأكد أنها لم تفعل، أما بخصوص كيف عرفت بالمخدر يا أذكى أخوتك ببساطةٍ قُمت بعمل تحليل لدمك واكتشفت المخدر هذا ما حدث بكل بساطةٍ,
سكت أكرم ولم يُجيب على باقي أسئلة رفيقه يحاول أن يهرب من ذلك التحقيق الذي سيفرضه عليه في التو، حاول أن ينهض من مجلسه بعيداً حتى لا يقع بين مخالب الصقر، ولكنه توقف حينما سمع صوته يُردد:
_توقف دكتور أكرم، لم تُجبني على أهم سؤال قد أشرت به إليك، أحقاً يا صديقي هناك أسرار خاصة بكَ تُخبئها عني؟!
ومن ثم رسم الحزن على ملامحه حتى جعل الآخر يستسلم، ففي النهاية هو يحتاج إلى أحد يجلس معه ويُحاوره، يرشده إلى طريقٍ بعيد تماما عن الطريق الذي ضل فيه، تنهد وأطل ببصره في الأفق البعيد وكأنه يقتحم بتلك النظرة عالم الأحلام، ويُشيد داخلها عالم خاص به، أطلق زفره مُحرراً أنفاسه التي سُرقت منه منذ زمن، نظر في عين يزيد وكأنه يُخبره أجاهز أن تسمع حديث قلبي الصامت الذي لم أبح به لأيٍ من قبل، هز يزيد رأسه وكأنه فهم حديث صديقه، فاستجاب الآخر وأخذ يروي ما يؤرق القلب ويُقلق حياته:
_أتريد حقاً أن تعرف؟ إذن فاسمع، تعلم جيداً أن كريمة يمكنها أن تفديني بروحها، وكل ما فعلته أمس كان لأجلي، فأنا أحبها وهي كذلك، ربما لم يعترف أحدانا للأخر بحبه، ولكن ضجيج القلب قد فضحنا، رُغم حبي لها إلا أني لا أنسى أبداً أني تخطيت حاجز الأربعين واتقدم بالعمر، وهي جميلة وصغيرة فكيف نأتي بالتوافق، ورُغم كل ذلك الصمت من كلانا إلا أنني أشعر أننا نعيش بقصة حبٍ لا مثيل لها.
ضحك يزيد بصخب على صديقه الذي بدا مُراهقاً لم يتجاوز الخامسة عشر بعد وهو يحكي بحالمية سكنت بين جنبات قلبه، تأمله قليلا رآه مُغيب عن الواقع، قرر أن يخرج ليترك صديقه في حاله ولكنه توقف عقله عند جملة معينة قالها، أخذ عقله يبحث عن تلك النقطة في قانون المنطق، ولكنه كما يعلم حتى لو لم يقع في الحب؛ إن الحب لا منطق له، يسير بعشوائية، فوضى، استماع لكل ثانية تمر في حياته، ولكن الحياة التي أقرها عقله هي أن تكون في حلال الله، ربت بيده على يد رفيقه ربما يقدر على أن يُعين قلبه في بلوها، وحينما لمح الحزن والتيه في نظراته قال:
_أكرم لا تنهك عقلك وقلبك في التفكير، أفعل ما تحب، اقتنص من الحياة السعادة وإلا لن تجدها ما دمت هكذا ألغي حاجز السن كما قلت لكَ سابقاً، المكانة الاجتماعية والفرق بينكم أعلم جيداً أنه لن يكون بعقبةٍ أبداً، وكذلك العمر حاورها، اعترف ومن ثم توكل على الله وقم بخطبتها إذ وجدت منها قبول لك.
تنهد أكرم بحزن وهو يُجيب عليه:
_أنت تتحدث في المستحيل يزيد، الفرق بينا تسعة عشر عاماً، عمر جديد لها يا رفيقي، هذا الفرق ربما لن يكون عائق لو كنت من جيل غير هذا الجيل الذي يبحث عن ذلك الشاب الوسيم والصغير.
ضحك يزيد بخفوت على صديقه وربت على يده من جديد قائلاً:
_لست أنت من تقول ذلك يا صديقي، انظر إلى مظهرك في المرآة وسوف تعرف أن هيئتك لا تنم عن شاب تعدى الأربعين بعامٍ واحد فقط، تحدث معها رفيقي وأعلم ما يدور بخلدها، حينها ستجد أجوبة على كل ما تُريد معرفته، حينها لن تشعر بالحيرة، كل شيءٍ سُيصبح كورقة مدون عليها كل الأسرار تتطلع متى تشاء، لا تُضيع من عمرك فرصة ربما لن تأتي إليك مرةٍ أخرى.
هز أكرم رأسه بنفيٍ وهو يقول من جديد:
_لا يجوز ذلك أبداً يزيد، أنا لدي طفلين، ما ذنبها.
تأمل يزيد عينيه وهو يُجيب عليه:
_الذنب الوحيد أنك وقعت في الحب هذا أعظم ذنباً، ولكن ذنبك الأكبر من ذلك أنك تتنازل في بداية الطريق، لقد قلت لي منذ وقت قليل خذ حقك من فم الأسد، وأنت تحتاج أن تفعل ذلك.
ومن بعد حديثه نهض من موضعه يتجه صوب الغرفة يتركه في دوامة تفكيره التي يعلم جيدا أنها ستؤرقه كثيراً، ولكنه توقف عند باب الغرفة قبل فتحها واستدار له قائلاً:
_الحياة تحتاج إلى من يسرق السعادة منها، لا من ينتظر السعادة أن تأتي إليه، حينها لن تجدها وستظل حياً في ظلمة نفسك التي فرضتها عليك، ابصر بقلبك يا صديقي ولا تبصر بعينك، فإن إبصار القلب راحة للحياة.
استدار يزيد متجها للخارج وقد أرسى في نفس صديقه حقيقة قانون الاعتراف، على الجانب الآخر كان يجلس يفكر في كل كلمة قالها صديقه، هو على يقين بأن حديثه صحيح مائة بالمائة، ولكن المشكلة الكبرى تكمن فيه لا غير، هو غير مستعد أن يجازف بقلبه، كرامته، وكبرياؤه في مثل ذلك العمر، كما أنه ليس بقارئ اليد أو البخت حتى يخمن ما سينتج عن فعلته، ظل وقتاً طويل يستجمع أنفاسه داخل صدره ومن ثم يطلقها من جديد مرةً أخرى، ولكن كلامه كان أقام المقام بعقله حتى يُقرر أن يخوض التجربة، حينها فقط يمكنه أن يُحدد النتائج، فليكن أما خاسراً أو كسب ليحيي ذلك القلب العتيد.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي