العميان

Shimaa7789`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-05-07ضع على الرف
  • 20.1K

    جارِ التحديث(كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الثالث

سار داخل ممرات ذلك المنزل البائس يخترق بخطاه شعوره السيء الذي يتمكن منه شيء فشيء، لأول مرةٍ في حياته سيفعلها ويتخطى جدران خوفه الواهية التي وضعها حول نفسه بلا حول ولا قوة له، لم يمر إلا بضعة ثواني وهو يسير حتى توقف لبرهةٍ أمام الحجرة الصماء التي يسكنها صاحب ورفيق نال من لعنة صفتها، شرب أنفاسه عدة مرات وهو يقف يتأمل الباب الساكن بل حراك، طرق الباب عدة مرات ولكن لا مُجيب وكأن الغرفة خالية من سكانها، أعاد تلك الكرة ثلاثاُ؛ ولكن ما من مجيب، عندئذ لم يستمع إلى أيٍ من أحاديث الأدب التي تعلمها وشرع يطرق الباب بعنفٍ مرة أخرى، وعندما أدرك أنه لا سبيل له بالأدب حينها فقط فتح الباب بعنفٍ على مصرعيه، وجد الغرفة أسوأ ما تخيلها، إنه يدخلها لأول مرةٍ في حياته رُغم علمه بوجودها منذ زمن، ولكن اسمها كان كفيل إلى أن يتنحى عنها جانباً، فقد كانت غرفة سوداء، بل كانت أِبه بزنزانة حبساً انفرادي، دون نوافذ، لا يدُخلها الشمس إطلاقاً، لا سبيل لأي شعاع شمس، أو حتى نور يُضاء لينير تلك العتمة خاطفة الأبصار، شهق حينما رأى المنظر أمامه فما كانت له تلك الغرفة إلا عروس أجبرت على الزواج فارتدت أبيضها أسود حتى تكون نذير شؤماً إلى ما هو آت، شرب انفاسه يحاول ابتلاع ريقه لعله يرطب من حلقه الذي جف، إنه يقف على أعتابها منذ دقائق، فراح يفكر في ذلك الذي يقضي أياماً طوال من عمره في ذلك الظلام الموحش، تقدم من الجالس على كرسيه الهزاز يتحرك للأمام وللخلف دون محاولة للنهوض من مكانه ليعلم من تجرأ على اقتحام خلوته، عذراً بل أسره وعذابه، تحسس خطاه أكثر وهو يقترب من الصامت الساكن في ذلك الظلام، وصل خلفه ومازال هو على حالته التي أثارت في نفسه النفور، وسؤال واحد أقام مقامه داخل عقله، عجز على أن يأسره بداخله وباح به أخيراً:
_يا خالد، ألا تخاف من ذلك الظلام؟! ألا تخاف أن يُصبك السواد هذا بالعمى؟
استدار له يُطالعه في الظلام، مر وقت ليس بالقصير وهو لا ينطق، بينما أخذ يُراقب ذلك النور الذي بدأ يتسلل إليه من الظلام، ثم نظر له وكأنه يخبره أن ذلك الضوء الذي أدخله خلفه لن يمنحه تلك الفرصة التي تمناها، فإن فقد بصره سيعتزل تلك العائلة والعالم ويبقى بمفرده، ولكن قدره وُضع ولا مفر من الهرب منه، طلق زفراته الحبيسة، ثم أعاد بصره له وتشدقت شفتيه، وكأن طيفهما بان له في ذلك الظلام الذي تخلله بعض النور، وهو يُجيب فضول أخيه:
_لا مؤمن، ذلك الظلام لن يفقدني البصر، فأنت أدخلت النور بيدكَ، أخبرني كيف أفقده وهو بالأساس مفقود؟
تعجب مؤمن من حديث وكأنه يحوى ألغاز، وما كان أشده كرهاً لتلك الألغاز التي تُير حفيظته، فزمجر بحدةٍ وهو يسأله:
_لا تحتال عليِّ خالد، أخبرني ماذا تقصد؟
تنهد ببسمة مستهزئة وبدأ يُجيبه على حديثه:
_أنا لا أتحدث بالألغاز مؤمن، اعلم أنك تكرهها مثلي، دعني أجيب عن تساؤلك، أنا لا أخشى العمى، تعلم يا أخي أن هناك المئات من الأشخاص، بل الملايين فاقدين الأبصار، ولكنهم يرون ببصرتهم، ولكن أنا العكس أعيش بعيني، ولكني مُقيد عن رؤية قلبي ومنطقه مؤمن، أنا مُقيد بقيد يحولني من شخص مبصر إلى آخر لا يرى أخي.
للمرة الثانية عجز عن فهم حديث أخيه، لم يقدر على أن يرد بما يلائم الموقف، ولكنه أدرك نفسه سريعاً، راح يسأله عن الحديث الذي قالته زوجته هذا اليوم على طاولة الإفطار، فبدأ حديثه:
_خالد ما كان قصد زوجتك من الحديث التي باحت به على طاولة الإفطار، أهناك شيء لا نعرفه خالد؟
كان قد أشعل مصباح هاتفه بدأ يدقق النظر في وجه أخيه وهو يتحدث حتى يتبين ملامح الغموض التي يرسمها حول نفسه، جلس على كرسي مجاور لأخيه يستمع إلى حديثه بعدما أدار رأسه له وهو يظن أنه سيقول الكثير:
_في الوقت المناسب سأقول كل شيء لك أخي.
علم أنه بذلك ينهي الحديث بالفعل، ولكن قد وعد أنه سيعمل ما في جهده حتى يُخرج أخيه من ذلك الظلام الذي وضع نفسه فيه، فذهب بحديثه إلى ما لا يتحمل لومه:
_أخي، ستظل هنا طويلاً، أنت تعلم أن والدنا مريض خالد، والله أعلم ما ستكون الظروف، أنت تدرك جيداً الآن نحتاج أن نكون عصبة لنواجه الظروف حولنا، بالإضافة إلى أعمالنا الواقفة.
ربت خالد على يد أخيه قائلا:
_لا تقلق أخي، كل مسافر في رحلته يحتاج إلى وقت يرتاح فيه ولو قليلاً، وأنا سأخرج من تلك الغرفة قريباً، أنت فقط أذهب إلى العمل اليوم بدلاً مني، وأنا بعد وقت قليل سأذهب إلى المشفى لوالدي.
أومأ مؤمن برأسه وهو ينتفض من مكانه مستعداً للرحيل تاركه في ظلمته للمرة الثانية، رحل مؤمن من مكانه لكي ينفذ حديث أخيه وداخله فضول كبير يود أن يعلم ما يواره أخيه خلف وعوده، نحى ذلك جانب وتركه.
ولكن بعد كل ثورة يظن الجميع أن بعد هدوءها يكون الفرد نجح بإخمادها، ولكنها تمر بمرحلة كمون تبقى ساكنة هادئة حتى يحين الوقت لاندلاعها من جديد، وكانت فترة الهدوء وأخيه جالس جواره قد انتهت وحانت الفرصة لتجدد ثورتها من جديد، انسلت يده الساكنة وحملت هاتفه الموجود على الطاولة الصغيرة الموجودة أمامه، فتح ألبوم الصور ورسم الرمز الخاص به، وفتح على صورة معينة عندها فقط انهدمت حصونه وفقد أ] قدرة على المقاومة، فحينما تُهدم أسوار القلعة تبدو ضعيفة ويسهل احتلالها، وما كان هناك أسهل من أراضيه للاحتلال، شرع يتأمل في تلك الصورة وبداخل عينيه حديث يحوي على المئات من كلمات العتاب، تهدلت جفونه وهو يحاول أن يحبس دموعه، ولكنه لم يستطيع إذ أخذت تنسل من عينه، زجرها عنه سريعً وهو يقول:
_مرحباً أمي كيف حالك، أيعجبك ذلك الوعد الذي قيدتني به، أعلم جيدا أن برك واجباً، ولكن وعدك هذا جعلني أشعر أنني أقوم بشركٍ وبذنب عظيم أتمنى أن اتخلص، أتمنى أن أتوب، فقط أتمنى أن أتحرر من الأسر.
وأخيرا بعد رحلة طويلة من فيلا الدمنهوري توقف السائق أمام فيلا عائلتها، رأت أن الأعمال في منزلها على قدمٍ وسائق، فمهندسي الديكور ينتشرون في أرجاء الفيلا كالهشيم، ومعهم معداتهم يزينون الحديثة يحولنها من مجرد حديقة إحدى الفيلات للأثرياء إلى قاعة في أفخم الفنادق، تذكرت أميرة أن حسام أخيها رفض أن يكون عرسه في فندق من ممتلكات العائلة، بل أصر على أن يكون عرسه بالمنزل يمنحه بهجةً بعد الذي حل فيه بعد رحيل ذلك الهارب عن أراضيه، أطلقت الحرية لأنفاسها الحبيسة تخرج لتفعل ما تشاء، فالأحمال جعلتها تثقل أكثر فأكثر، أخذت تدور بعينيها في الحديقة أكثر وأكثر، رأت الجمال الذي هيمن على الحديقة، هبطت ببصرها تتأمل طفلها الذي أطلق بصره يشبه بصره البريء من الجمال الذي يُحيط بهم، فالأضواء واللمبات الصغيرة قد جذبت بصره، فشد يده من يدها وأخذ يهرول في الحديقة يتأمل كل شيءٍ بأعين الفضول، أخذ يجول هنا وهناك وكأنه يكتشف تلك الأضواء للمرة الأولى على الإطلاق، ظلت واقفة تتأمل ما يفعله صغيرها، إلا عندما رأت صغيرها يقترب من أحد الأعمدة الغير مثبتة ويعبث فيها، انقبض قلبها لرؤية ذلك الصغير يفعل ما يُثير ذعرها، هرولت إليه بسرعةٍ تجذبه إليها، وتسرع به صوب الداخل، فهي لن تتحمل أن يصيبه أي مكروهٍ، قادت طفلها صوب الداخل وهو يحاول جذب يده من يدها ليذهب للخارج، ولكنها أبت تركه، هي لن تأمن على ذلك الصغير في الفوضى التي تنتشر في الداخل، وقفت في منتصف الطريق وهي تهبط إلى ابنها الصغير، ركعت أمامه واحتوت وجهه بين يديها، وتحدثت بحنوِ يناسب سنه قائلة:
_أيهم حبيبي، لا يصح ما تفعله أنت لست صغير كما تلعب قد أصبحت رجلاً، والخارج هناك فوضى كبيرة، ومعدات ثقيلة يمكنها أن تؤذيك، أتقبل أن يتألم قلب ماما عليكَ أيهمي.
وكأنها بحديثها ذلك قد وصلت إلى مبتغاها من ذلك الطفل، فقد اقنعته بكل سهولة بعدم التوجه صوب الخارج، إنه يحوي خطر بالغاً عليه، وما كان أسهله في الاقتناع، أخذ يقترب منها حتى ألقى بنفسه بين أحضانها وكأنه يخبرها أنه لن يقبل أن يأتي عليها بشيءٍ يُسبب لها الألم، فأخذته تعانقه أكثر تُشبع رئتيها من أنفاسه، ربت الطفل على خدها بلطفٍ وقال لها بهمسه الطفولي:
_ماما لا تحزني، أنا لن أفعل شيء يُحزنك على أبدا، ابتسمي من أجلي.
لم تجد أمامها بداً إلا أن تمنحه ابتسامة مطمئنة تُشعره أنه وهي كذلك بكل خير، لم تبخل عليه براحته فأعطته ما تمنى، مسكت يده وتقدمت داخل الفيلا حتى خطت قدماها صوب الداخل، دلفت لم تجد أي أحدٍ بطريقها وكأن المنزل خالي من سكناه لا يوجد به أحد، بل وكأنه لن يُقام بداخله عُرسٍ اليوم.
أطلقت زفرات غاضبة ومتمردة كذلك من فمها، سارت بوجه متهجم صوب الداخل، كانت غرفة الصالون فارغة، جلست وأجلست أيهم جوارها، كانت على وشك أن تصيح تسأل عن أمها وأخيها، ولكنها توقفت حينما هبط أخوها الدرج بوجهٍ شارد أدركت فيه الحزن، نهضت من مجلسها وهي تُحاول أن تصطنع المرح، انتظرت قدومه وجلست بتكبرٍ زائف وقالت بمرحٍ حينما لاحظت اقترابه منها:
_أهلا بالعريس الذي لم يتحدث معنا وكأنه نسى أن لديه أخٍ تكبرهُ.
رفعت حاجبها بغضبٍ مزيف، فضحك بصخب وهو يقترب منها جذبها إلى أحضانه وقال:
_أختي الكبيرة، لا بل أمي هل لأحدٍ أن ينسى أمه أميرتي، أنتِ ف القلب كما تعلمين، أخبريني كيف حالك أنتِ وهذا الجني الصغير.
قالها ومن ثُم اقترب من أيهم يعبث بخصلات شعره، ولكنه أبعدها عنه وهو يقول:
_خالو أنا أيهم، وأنا لست جني لا تقول هذا.
ضحك حسام على حديث الصغير، اقترب منه يحمله بين ذراعيه، عبث بخصلات شعره الناعمة ونثرها يميناً ويساراً، بدأ يُقبله، ويعبث بذقنه المهذبة على خديه النديين، فتذمر الطفل من جديد، ولكنه قبله وقال له:
_نعم أيهم، أنت لست جني، بل بطل، لا بل أمير مثل والدتك وقبله.
منحته أخته بسمة هادئة شاكرة مبطنة، تعلم أنه يحاول الهرب مما يُزعجه، لكنها قررت أن تسأله:
_حسام ماذا بك؟ يبدو أنك لست بسعيدٍ، وأنت تأخذ من وقع القلب في هواها وذاب، أخبرني ماذا هناك؟
تنهد حسام بقوةٍ وبدا الحزن والانكسار على ملامحه قائلاً بشكوى:
_ألا تعملي أختي ماذا بي حقاً؟! لقد اتصلت أمي بيزيد أخي لكنه رفض أن يأتي، رفض أن يحضر زفاف أخيه الأصغر، أنتما توأم أميرة، أخبريه بالله عليكِ أن يأتي.
تنهدت أميرة وظهر الحزن على قسمات وجهها وقالت بحدةٍ طفيفة:
_أعتذر على طلبك الذي لن أقدر عليه أخي، أعلم أن يزيد توأمي وروحي، ولكنه منذ أن تخاذل وفقد إيمانه بأن كل شيء بيد القدر، واستسلم وكان كالجندي الضعيف في معركته لم يعد توأمي، لن أتحدث معه، لن أقبل بتوأمٍ لم يأخذ حقه من فم الأسد.
كلماتها رُغم أنها كانت صحيحة إلا أن صوت من الخلف مزمجرٍ وقوي صرخ بها ينهيها عن الحديث:
_توقفي أميرة عن مثل ذلك الحديث، فمهما كان توأمك.
عندما لاحظ حسام الحدة التي بدأت تهيمن على المكان ونظرات الطفل الصغير التي بدأت تُلاحظ بأن هناك شيء ما ليس بالصحيح، اقترب منه حسام بسرعةٍ وهو يقول:
_ما رأيك أيها الأمير أن نخرج نراقب ما يُفعل في الحديقة الآن، وبعدها نذهب لغرفة الألعاب.
نظرات الطفل الشغف والفرحة لمعت في عين الصغير مما جعله يُهرول مع خاله بسرعةٍ بعد أن أخذ الإذن من والدته وعانق يد خاله يحثه المسير، أخذه بالفعل سوار به تجاه الخارج، منحته أخته نظرة شاكرة وهي تقول له:
_شكراً حسام.
انسحب حسام وهي بقت واقفة في مكانها تُطالع والدتها التي تنظر لها بأعين غاضبة، مرت من جوارها دون كلمةٍ، وجلست على الأريكة والأسى تجلى واضحاً على قسمات وجهها، اقتربت أميرة من أمها وجلست جوارها وهي تعانق يدها بين يدها وتقول بأسفٍ:
-تعلمين أمي لم أكن أقصد إهانة ليزيد أبداً، أنت متأكدة أن روحي به، وكذلك هو، ولكنه ضعف واستسلم، يحتاج القسوة منا حتى يعود للصواب من جديد، ما دمنا ندلله ونتركه يفعل ما يشاء سيكون دائما في تلم الصومعة التي دفن نفسه بها، يجب عليها الخروج.
لم تستطع أمها كبح دموعها أكثر من ذلك، فبدأت تتدفق من مقلتيها، هرعت إليها أميرة وهي تؤنب ذاتها قائلة:
_أنا آسفه أمي، أعتذر منكِ، والله لم أقصد أن أجعلكِ تبكين، فقط أخاف عليه بل عليكم، لقد تنازل يزيد عن حياته كلها لأجل ماذا لا أعلم.
جففت دموعها وهي تهمس لابنتها وبئر أسرارها:
_أنا لست حزينة منكِ أميرة، بل معكِ كل الحق في حديث، كل ما أخشاه عليه هو أخيكِ، لقد شرد عن هذا المنزل منذ زمن، لقد اتصلت عليه أكثر من مرة كي يعود ليحضر زفاف أخيه، ولكن كل مرة يرفض، أرجوكِ أميرة، تحدثي معه أنتِ، أنتِ الوحيدة القادرة على إقناعه.
أطلقت أميرة زفراتها وهي تُراقب حزن أمها الواضح بصورةٍ جلية أمام عينيه، انكسارها أمامها يؤلم قلبها وتهدل كتفيها الابيتين بانكسار قد هدم جميع حصون القوة التي تمارسها على نفسها، لا تعلم ماذا تفعل الآن، فهي لم تُحدث يزيد منذ سنتين ولا مرة، نعم هي الأخرى قلبها يؤلمها أشد ألماً ولكن ماذا تفعل، ظنت أنها حينما تُبعد نفسها عنه سوف تجعله يستفيق من غفلته التي وضع نفسه فيها، شردت في ذلك الماضي الأسود، ولكن عندما أدركت صوتك شهقات أمامها الباكية جوارها جعلتها تخرج مما كانت على وشك أن تضع نفسها فيه، أطبقت على جفنيها وكأنها تحثهما على التماسك وألا يضعفا الآن.
فتحتهما من جديد، ولكنها أخذت تقترب من أمها بسرعةٍ، أحاطت كتفيها بيديها تشد بها في أحضانها، تمسح بيدها على رأسها، وتمسح دموعها التي حُفرت داخل تجاعيد وجهها، فعلتها تلك لم تجعل أمها تهدأ على الإطلاق، ولكنها زادت الوضع سوء، تعلم جيداً أن والدتها إن ظلت على حالتها تلك لن تجد أمامها إلا أن تخضع لا تُريده، ولكنها تكره الضعف، وتكره الضعفاء أكثر، هي مقتنعة أنه أن أراد أحدهم شيء فيمكنه أن يُصارع وحوش الدنيا بأسرها ليحصل على ما يُحب، نهضت من موضعها سريعاً تفر من مكانها، هرولت بسرعة تثرب إلى أي مكانٍ، لم تجد إلا مكانها المُفضل في ذلك المنزل، ركضت صوب الحديقة الخلفية التي تحتوي على بركة صغيرة من المياه، وتلتف حولها العديد من أحواض الورد التي تُبهج الروح، وقفت هنا تشرب أنفاسها تهدأ من ثورتها التي أقامتها أمها بنفسها، راح عقلها لذكريات ذلك المكان الذي دوماً ما كانت تتسلل هي ويزيد له كي يذاكرن دروسهما، يلعبان، يمرحان هنا في ذلك المكان المُحبب لنفس كليهما، أبعدت تلك الذكريات عن عقلها وأجهشت هي الأخرى في بكاءٍ مرير يعبر عن شوق أضناها لأخيها بل لابنها الأول، رغم أنهم كانوا بنفس العمر إلا أن تلك الغريزة الأمومية دوما ما كانت تقوم بدورها التسلطي عليه، ذهبت لتجلس على تلك الأرجوحة المزينة بالورود وتهزها بقوةٍ وهي تغمض عيناها، تود أن تغفو بل تهرب من العالم بأسره، وبالفعل ربما تكون وجدت ما تبحث عنه، لقد قام ذلك النسيم العليل بشفي جروحها حتى لو مؤقتاً، وبدأ يداعب قلبها بهدوءٍ، وجفونها بنومٍ لجعلها تهدأ وتستكين، وبالفعل لم يمر وقت قليل حتى شعرت بنفسها تغفو، وانعزلت بعقلها عن ذلك العالم، فهي في تلك الأحلام قد وجدت نفسها أخيراً بكل حبٍ، انتعش قلبها من جديد، وغردت ذكريات جيدة فوق عقلها الباطن ليُجيد رسم ابتسامة شغوفة ومرتاحة فوق شفتيها وعلى ملامحها، انقضى وقت ليس بالقصير وليس طويلا في غفوتها تلك.
في المُقابل كانت ولدتها تجلس في مكانها بعد أن فرت من نفسها التي كادت أن تغلبها واتجهت للموضع الذي تتجدد فيه روحها بكل سعادة، فعندا ذهبت إلى هناك تعلم أنها أعطتها موافقة مبدأيه على موافقتها على ما طلبته منها وذهابها هناك تعني أنها تمنح نفسها أمانا وطاقة لتفعل، عندما مر وقتٍ طويل جداً، اضطربت أنفاسها وظنت أن شيء ربما حدث لها، عند تلك الفكرة لم تقدر على أن تجلس بيدين مكتوفتين في موضعها، فنهضت من مجلسها بسرعةٍ تهرول صوبها، تقدمت داخل ذلك المكان الذي صنعته بيدها حتى يجدد أصحاب ذلك المنزل طاقتهم بعد أن يُرهقوا، وبالفعل قد استولت تلك الماكرة عليه، تذكرت كيف أجبرها اللصان على أن يكون هذا المكان لهما، كما أنها لا تدري كيف وافقتهم على هذا المكر، ابتسمت وهي تتقدم صوب المكان وتقترب أكثر، وجدت ابنتها غافية على تلك الأرجوحة التي جلبها لها يزيد وقام بتزينها، اقتربت منها أكثر وجدت ملامحها هادئة ومستكينة بكل راحةٍ، ابتسمت على حالتها، شرعت تضرب بخفةٍ على كتفيها، بدت وكأنها مستغرقة في نومها، ضربت مرة أخرى بخفة لكي تستيقظ فتلك النومة ليست مريحة بالمرة وربما تؤلم ظهرها، عادت تكرر فعلتها أكثر من مرةٍ حتى شعرت بها تململ في نومتها، أخذت تفرك عينيها بطفولية، وعبث قد بدا على محياها وهي تقول بلومٍ:
_ماذا هناك ماما، هل ممنوع أن انام هنا براحة لقليل من الوقت، ضحكت أمها بصخب على مظهرها وهي تقول:
_لا عزيزتي ليس ممنوع أبداً، ولكني فلتغفِ في كانٍ مريح عن هنا، ربما تسبب لكِ تلك النومة ألماً.
ابتسمت لأمها وهي تقول:
_حاضر عزيزتي استيقظت من نومتي ولن أغفو من جديد، ولكن تعالي جميلتي جواري هنا، ماذا تُريدين؟
نظرت لها بملامح حزينة وقالت بلومٍ:
_حقا لا تعرفين.
هزت رأسها بفراغٍ صبر واستسلام وهي تقول:
_حاضر ماما سأفعل ما تحبين؟ ولكن هل بعد تلك السنوات التي بعدنا فيها عن بعضنا البعض سُيجيب عليّ.
نهضت أمها من أمها وهي تُردد:
_أنت نصفه الآخر أميرة، لذا أنتِ الوحيدة من تقدرين أن تُجيبي على مثل هذا السؤال.
ورحلت من أمامها تاركة نفسها بالفعل تبحث عن ذلك الجواب الذي ظنه عويصاً ولن تقدر على أن تُجيب إجابةً يقينية عليه، ظلت جالسة في مكانها وهاتفها قد جلبته والدتها معها، كنت تعبث بالهاتف بيدها لا تعرف بأي شكلٍ يبدأ الحديث، أو بالأدق كيف تطرق بابه بعد هجر أعوامٍ بينهما، الشقان اللذان لا ينفصلان انفصلا بالفعل، ابتلعت ريقها بصعوبة ولا تقدر على فعلها في التو.
نهضت من على الأرجوحة وهي تصول وتجول في الحديقة، والهاتف بين أناملها تعبث به، نفخت خديها بغضبٍ وكأنها تلوم حالها في تلك اللحظة، رفعت الهاتف بين يديها تنظر لها وقالت بتشجيع لنفسها:
_هيا بنا سنفعلها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي