العميان٨

غردت الفراشات فوق قلبها، بل بدت وكأن الربيع قد حل على أرضها بعدأن عانت في ليالي شتوية شديدة البرودة، دارت في غرفتها تعانق ذراعيها، تحاوط نفسها أمان، تخبر ذاتها أن القاد سيكون فقد الخير، فقد أعطى لها ذلك ال يزيد وعداً، تأكدت هي بأنه لن يخل به أبداً، ابتعدت بقدميها بعيداً عن تلك الشرفة التي يتخللها شعاع الشمس الذي منحها لتوها بريقاً كانت ترجوه منذ زمن، ولكنها قبل أن تنصرف من أمام الشرفة كانت ألقت نظرة على العمال ولكن تلك المرة ليست بطريقة متشائمة، أو طريقة تعبر عن شوق أو حدود تتمنت لو بإمكانها أن تزليها، فهي بالفعل كانت استطاعت منذ دقائق معدودة فك إحدي تلك العقد التي انتشرت حول حياتها، أطلقت أنفاسها التي حبستها داخل صدرها لفترة طويلة، حينها فقط شعرت أن تلك النار التي كانت تشعر أنها تأكلها أصبح برداً وسلاماً عليها، ألقت نظرة أخيرة متفائلة على كل شيءٍ يحدث بالأسفل، ذهبت عيناها إلى ذلك الصغير الذي كان يعبث مع خاله بالأسفل، يمزح من العمال هنا وهناك، شنشر بريق طفولته، يعيش لحظاته الحقيقة، رأت أخاها حسام ينفس الحنان الذي عليه يزيد ولكنه دوماً ما يُغلف ذلك بالعملية، شعره الأسود الذي تم فرده بنجاحٍ يتطاير على وجهه، منحه وسامة تليق به حقاً، لمحت بعض من تذمره وهو يعيده إلى موضعه من جديد، راقبته عن تأفف منه واستسلم لما يحدث وبعدها توجه إلى ذلك الصغير يحمله ومن ثم على كتفيه يسير به هنا وهناك، تعالت صوت الضحكات أكثر حتى تيقنت أنها بالفعل لا تعيش بحلمٍ، وأخيراً ذلك البيت سيستطيع أن يحيا بالسلام الذي يستحقه حقاً، سيجتمع الجميع غداً داخل حدود ذلك المنزل الذي جاء عليه وقت وقد أصبح خاوياً من أي بهجة، نحت أي تفكير سيء قد يتطرق إلى قلبها إلى الآن، تود أن تستمر حالة المرح التي كانت وستكون دوماً، وكانت في طريق الذهاب إلى أمها من جديد لكي تخبرها أن يزيد قد لبى الدعوة أخيراً وسيكون غداً هنا، غداً فقط سيحط الطير المُهاجر فوق أرضه، سيعود بعد سنين طوال من الشوق والعذاب، ولكن في طريق الذهاب لم تستطع أن تبعد أي تفكير بالسوء عنها، بل جاء إلى عقلها ما حدث اليوم داخل بيت زوجها، البيت الذي دخلت منذ سبع سنواتٍ، عاشت فيه أجمل أعوام حياتها، حلق الحب فوقها كطير لازمها وأقسم على ألا يُفارقها، لمعت عينها ببريق خاطف حينما أقرت أن ذلك الحب لم يكن منبعه إلا ذلك الضلع الذي خلقت منه، رُغم أنه به بعض من الإعوجاج إلا أنها تدرك أنها ليست طبيعته أبدا، بل هو مربوط بأصفاد دعته كثيراً أن يفك نفسه من أسرها، ولكنه دوماً ما يلتزم الهدوء ويبقى دائماً على حالة الخنوع التي بها، وما كان أشدها كرهاً لهذا الضع، وما كان أكثر ألمها على تلك ال ملك التي عانت الأمرين في بيت أبيها، وخاصة نظرات الكره التي يرميها الجميع بها، رأت ذلك جيداً في نظرات إيهاب وزوجته، وخالد كذلك، ولكنها على يقين أن نظرات خالد كانت نظرات مصطنعة، غير حقيقية بالمرة، نظرات خاطفة يداري خلفها شعور عظيم تعلم أنه يفتكه بسبب ذلك الوعد الذي أجبرته أمه عليه وهي على فراش، أقرت في نفسها حقيقة أنها لم تكره أحداً من قبل، ولكن ما كان أشدها كرهاً إلى تلك السيدة التي كنت السبب في ذلك الحزن الذي استوطن حبيبها ومنزلها، وعدٌ أدركته بمحض صدفةٍ تامة، حاولت أن تنحيه عن تنفيذه ولكنه دوماً ما كان أبي رافض أن ينكس بعهدٍ تعلم أنه ينهض روحه التي تظهر التماسك كل ثانية، ولكنها لم تكن تلك المستسلمة يوماً، أقسمت في نفسها أن ستحل كل شيء، فقد عاد أخوها الهارب أخيراً، هو على وشك أن يفيق من غفلته، ستستخدمه كي يساعدها في مهمتها من أجل عائلتها، تعلم جيداً أنه سيكون الوحيد القادر على المعركة التي ستخوضها ما بين المحبة التي تفيض من زوجها وحنانه المستتر على أخته وخوفه عليها، وبين ذلك الجزء الجامد الذي ستكون السبب في انصهاره بكل تأكيد، هي لن تسمح بشيءْ غير ذلك، بنظراتها الثاقبة أدركت أن زوجها يعتبر هو الركن الأضعف والأشد قوة عن أخوتها، علمت جيداً أن ذلك لم يكن إلا طريق المتناقضات، بل هو كان التناقض بذاته، على عكس أخيه الأصغير مؤمن الذي يكون أمامه بوجهه العادي الغير مبالي مثله ولكنه ليس مقيد بذات القيد الذي أُجبر عليه، ترى أن مؤمن هو الجزء المُكمل إلى ذلك المفقود، أغمضت عيناها تتذكر الكلمات التي ألقتها في الصباح فوق عاتقه، ولكن كان لابد منها، لا تعلم ما يجب أن تفعل الآن، ولكنها لم تفكر دقيقة أخرى وهي تحمل هاتفها، تطلبه على الهاتف ليلبي الحديث التي تتمنى أن يقبله، ظلت تحاول عدة مرات ولكنه لم يُجيب، أدرك جزء منها أنه دلف مجدداً إلى معتقله وكادت أن تفقد الأمل، ولكن الرد الذي جاءها من الطرف الآخر كان صادماً بعض الشيء، فقد جاءها صوته الرخيم يُجيب:
_نعم أميرة، هل أيهم بخير؟
أدركت تماماً أنه حزين منها على ما تفوه به لسانها، ولكنها قررت أن تسايره حتى تُراضيه قائلة:
_كلنا بخير حبيبي، فقط كنت أود أن أطمئن عليك، يزيد سيأتي غداً في الصباح، وكنت أود أن تأتي لكي تنام هنا معنا، تعلم أني لن أستطيع غبر بكَ.
ثم توقفت ثانية تُحاول ابتلاع ريقها وهي تسأله:
_هل مازالت في.......؟ وصمتت لا تقدر أن تكمل سؤالها.
تحدث إليها بصوتٍ لائم يجيبها:
_أهذا كل ما تُريدنه أميرة؟!
أدركت مغزي حديثه ولكنها أكملت:
_لا حبيبي، أنا أودك جواري، تعلم أني لا أستطيع دونك، أضعف بكثير مما يمكن ان تتوقع أن أكون عليه، فقط أود تطيب خاطرك الذي أعلم أني ألمته، لكني والله ما فعلت ذلك إلا لتعود حبيبي الذي أحببته منذ عشرة سنوات.
أطلق أنفاسه وهو يجيبها ببرودٍ:
_حسنا، سأرى أن كنت سأتي أم لا وداعاً، وآه جوابا على سؤالك لقد خرجت من معقتلي، أنا في طريقي للعمل.
أغلقت الهاتف وهي تعلم أنه سوف يأتي هو لن يقدر على ذلك البعد أبدا، هي الراحة والسكن والسكينة إليها، إذن فلتكن كما كانت، ابتسمت أخيراً على يومها هذا، أدركت أنه ربما يكون يوم الحظ بالنسبة إليها، فلقد نجحت أو أشرفت جميع مهاماتها أن تتحقق.
تنهدت بفرحةٍ كبيرة تمكنت من نفسها، أنها أخيراً على مشارف أن تنتصر بأحد مهاماتها التي وجدت لها، سواء أكانت أختاً أم زوجةً أو ابنة، حمدت الله على ما توصلت به أخيراً، وفي طريق خروجها من غرفتها صوب اتجاه غرفة أمها كانت تُحلق نفسها في أفق ذلك المنزل، تتأمل كل ركنٍ فيه، وكأنها تؤكد ان كل شيءٍ سيصبح على ما يرام بل أوشك أن يكون على ما يُرام، أسرعت بخطواتها أكثر حتى توصلت إلى غرفة أمها في الطابق السفلي الذي سكنت فيه بعدما وهنت قدمها ولم تقدر على الصعود أو الهبوط، تبقى لها خطوتين وأصبحت على أعتاب غرفتها، طرقت الباب وانتظرت في انتظار الإذن بالدخول، ولكن مرت دقيقة ولم تفتح، ارتجف قلبها من الخوف، فتحت الباب بقوةٍ ودلفت من بعدها، وجدتها تجلس على سجادة الصلاة، لقد نست أن الظهر قد أذن من وقتٍ قليلٍ، تقدمت داخل الغرفة أكثر حتى جلست على مقعد في جانب الغرفة تنتظرها أن تفرغ من صلاتها، ولكن لسانها ردد بصوتٍ مرتفع ولكن بدا الحزن عليه:
_لا تنسيني يا أمي من دعائك.
قالت جملتها تلك وبقيت في مكانها تنتظر فروغها ن الصلاة، وبالفعل لم يمر وقت طويلاً حتى انتهت من الصلاة، طبقت السجادة وضتها في مكانها المخصص وذهبت إلى سريرها ارتاحت عليه، أشارت لتلك الكبيرة الصغيرة أن تأتي إليها، وكانت بالفعل قد لبت النداء، فقد ربتت الأم على جانب الفراش لكي تأتي وتجلس جوارها، وبمجرد جلوسها جذبتها إلى داخل أحضانها، ربتت على حجابها الذي لم تتخلى عنه إلى الآن، فكته عنها وربت على شعرها من جديد، وقالت بصوتٍ حنون:
_بعيداً عن تلك المشاكل يا صغيرتي ماذا بكِ؟ ليس معني أني ألقي عليك بمسئولية أنني لا أشعر بكِ أو ما تمرين به، لا بل أنا أقدر تماما ما يجول داخل عينيكِ.
رفعت يد أمها قبلتها وقالت بصوتٍ حاولت منحه بعض المرح:
_أنا بخير حبيبتي، بل بكل خير لا تقلقي عليَّ فقط اشغلي بالك بذلك الذي سيسبب لكِ إزعاج هو وزجته.
ضحكت أمها قليلاً على حديثها المرح وقالت:
_وما أجمل من ذلك الإزعاج أميرتي، ولكن حديثك هذا ل يجعلني أكف عن سؤالك عن حالك، أشعر بحزنكِ، أخبريني ما بكِ يا مهجة القلب.
عند هنا لم تستطع أن تصمد أميرة أمام أمها أكثر من ذلك، بدأت أميرة تقص على أمها التي تعرف عن خالد ومعاملته لأخته، هي لم تخبرها بشيءٍ، ولكن عنذ ذهابها إلى هناك كانت تُلاحظ ما يحدث، لقد قرأت مراراً وتكراراً نظرات الحزن العميق داخل قلب تلك الصغيرة ملك، حزنت عليها كثيرا، تمنت أن لو لها سلطة لتتدخل لتمحي عن تلك الصغيرة بعض حزنها، ولكن لم يكن لديها أي سلطةٍ لتفعل ذلك أبدا، نحت ذلك التفكير عنها، واستمعت إلى حديث ابنتها تُخبرها بما فعلته اليوم وبما قالته لزوجها من دون أن تدخل بتفاصيل، تجعدت ملامح وجه والدتها عقب أن انتهت من حديثها، رفعت بصرها إلى أمها تلك النظرة التي ارتسمت على ملامحها أقلقتها بعض الشيء حتى سألتها:
_ماذا هناك أمي؟ هل أخطأت بشيءٍ ما؟
تنهدت الأم بخفوتٍ وهي تُجيبها قائلة ومازالت تربت على رأسها:
_ألم تسمعي يا ابنتي بأن اللين لا يمكن كسره؟!
لمحت علامات الاستغراب بادية بوضوٍ على وجهها، فأكملت هي حديثها:
_أنا متأكدة أنكِ سمعتِ عن ذلك، ولكن كيف تتحدثين بتلك اللهجة أميرة أمام أخوته، حتى وإن كان الموضوع يخص الجميع فأنه لا يخصك أن تتحدثي بتلك الطريقة أمامهم، فقد ارتفع صوتكِ على صوته، ومن يقبل بهذا؟ خالد يحبك كثيرا، وحنون أكثر يا بُنيتي، عالجي ذلك الموضوع بالهدوء، واعملي أن لكل مقامٍ مقال، وليس كل شيء يجب أن يُحكى أمام الجميع؛ حتى لو يعلمه الجميع.
أدركت أميرة الآن خطأها، لم تكن تدرك أن ما فعلته خطأ فكل ما أرادته أن تكون تلك العائلة بخير مثل الكثيرين الذين يعيشون بسلامٍ، أاليس من حقهم، كانت تظن ان الغاية تبرر الوسيلة، ونسيت أن لكل غاية وسيلة مناسبة لها، عندما علمت ذلك هزت رأٍها إلى أمها وقالت:
_حسنا ماما، سأعمل بنصحيتك.
قالت ذلك وصمتت وهي تلاحظ أن أمها هزت رأٍها إليها بمعنى نعم، كادت أن تصمت هي الأخرى، ولكنها انتفضت من مكانها عندما علمت هي الأخرى أنها نست أن تقول لها شيئاً، نظرت إلى أمها من جديد بأعين مرحة شغوفةٍ، وقالت وهي تقفز من على فراشها وصوت الفرحة خرج من بين شفتيها:
_أمي الحبيبة، لقد تحدثت مع يزيد وهو بالفعل سيكون هنا غداً، لا أصدق أنه سيأتي من جديد.
نظرت الأم لها نظرة سعيدة ولكن ليس بالقدر الذي ظنته أميرة أن تراه، استعجبت أميرة تلك النظرة وسألت أمها قائلة:
_ماذا هناك أمي، ألستِ سعيدة بقدوم يزيد من جديد، أم أنكِ كنتِ.....
توقفت عن الحديث حينما استشفت شيء من ملامحها، لا تعلم لما شعرت أن أمها كانت على علم قبلها بأنه سيأتي، وإن كان سيأتي دون حديثها، لما هذا الذي حدث منذ قليل، نظرت إلى أمها بحزنٍ وقالت:
_كنت تعلمين أن سينزل من دون حديثي، إذن لما فعلتِ ذلك.
ابتسمت أمها بخفةٍ وقالت وهي تضرب على رأسها بخفةٍ كأنها تقول لها استفيقي، وتحدثت أخيراً:
_هل أنا من سأخبركِ عن يزيد؟ ألم تعلمي أنه حتى لو لم نفعل ما كان سيطرق أبوابنا غدا أميرة، لقد كان سيفعل بكل، وبالفعل لقد كلمته وفي جميع الأحوال كان سيعود، ولكني فعلت ذلك حتى تهدأي معه، أود أن أراكما الشقين اللذين لا ينفصلا أبداً.
ربتت أمها من جديد عليها، فقبلتها وقالت بوعدٍ:
_أعدكِ أننا لن ننفصل أبداً أمي.
قبلتها ومن ثم نهضت من مكانها، أخذت تهرول هنا في الغرفة، أسرعت صوب الباب متجهة للخارج حتى قالت:
_سأذهب لأجهز كل شيءٍ لغدا لأتين أخي، وزجي اليوم.
ضحكت الأم عليها كثيراً، وسمحت لها بالذهاب وهي تدعو لها بالسعادة وصلاح الحال.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي