الرابع

في مكانٍ بعيد عن الوطن، ولكن مثلما يقول الكثيرون من أن هجران الأوطان تُهجر القلوب، وتتحول الحياة من لونها الوردي حتى لو كان به شقاء، تتحول بدرجة كبيرة لساعة هجير الجميع يفر منها خوفا، هنا فقط تُصاب الروح بحرقٍ لا يعرفون كيف يضمدوه، بالفعل كان هذا حال قلبه الذي تحول إلى صخرة صماء لا حياة فيها، وقف يرمي ببصره يتطلع إلى الأفق الخلاب الذي يتمنى أن يخترقه ويرجع إلى الماضي الأليم الذي حوله إلى ذلك الشخص المُظلم الذي يحتاج قرون وليس أعواماً ليُرمم الخراب الذي أحدثوه بنفسه، عانق نفسه بقوةٍ وكأنه يشعر ببرودة تجعل عظامه تنخر ويود أن يُصيبها بعناقه ببعض الدفء، ولكن الجو لم يكن بالبارد أبدا أنه في أوج أوقات الصيف وأكثرها حراً وحرارة، ولكن ما سبب ذلك البرد الذي يشعر به، أغمض عينه يعتصر جفنيه بقوةٍ وكأنهما عدو أدرك ضعفه فمسكه بيده يود أن يبديه قبل أن يجعل من ضعفه مشاعاً لمن يُريد أن يأسره، ولكنه فشل؛ فشل كما فشل في الكثير على مدار حياته.
حرر أسر عينه وزاح نظره عن الأفق الذي يعلم أنه لن يقدر على اختراقه، ولكن الوحيد الذي رماه بعيداً عنه هو ذلك الماضي رُغم أنه يقدر على أن يُرمم حطامه، هبط ببصره يُطالع ذل الشاطئ الذي يقف أمامه، شرع في تأمل تلك الموجات التي تتعالي وكأنها تعبر عن غضبٍ عظيم يدور أسفل أعماق المياه ولا تقدر على أن تبوح به، بدأ في خلع حذائه، ورفع سرواله وأخذ يتقدم صوب المياه، وكأنه يُعانقها في عناق يشبه الموت، بل هو من بدأ يقدم نفسه للموت على طبقٍ من فضةٍ، فلم يبدأ يُجدف بذراعيه بل استسلم بكل طواعية للموج ليفعل به ما يحلو له، مرة يجعله أعلى ومرة يسحبه ليغرق في ظلمات البحر، ولكن أ لم يكفيه ظلمات نفسه حتى يغرق في المزيد، اختلطت جزئيات الماء المالحة مع دموعه الحارقة لكي تكوي الباقي من تماسكه، وقد رمى بجسده كله للمياه، لا مقاومة، لا رغبة في الحياة، فقط استسلم لكل شيء، وقد بدأت الذكريات في تلك الظلمات تتدفق إلى عقله من جديد.
كانت الأجواء في ذلك المقهى على البحر ليلية، كانت يتأمل السماء الصافية والبسمة بدأت تسلل ليه وتشق صدره تقيم بداخله حالمي جميلة لا تنفك أن تمنحه سعادة تتدفق إلى روحه، أدار كرسيه حتى يُصبح نظره للبحر مباشرةً يراقب ذلك الموج الثائر بكبير وكأنه ينبه الكثيرين بأنه هنا موجود، يدعو الناس أن يغرقوا به حباً، ظل يتأمل ذلك لمدة طويلة لا يعلم كم مر عليها، ولكنه يكفيه أنه بعد يوم عملٍ في المشفى هنا يجد راحته، هنا يُعقم روحه من رائحة الخذلان التي يشعر بها عندما يموت عزيز لأحد عجز الأطباء عن إنقاذها وأجله قد حان وهم لا يملكون له نفعاً لوا ضراً كذلك، ولكن رائحة الحزن التي تهيمن على المكان تجعل روحه تصرخ صمتاً وهي عاجزة عن البوح، هنا أغمض عيناه أكثر وكأنه يواري الحزن الذي يشعر به حينما يُفقد أحد، فهو أدرك ذلك الشعور حينما توفي والده مبكراً وهو في الثانوية، تذكر حزنه عليه في ذلك واكتشف كم أن ظهره أصبح في العراء الآن بلا حارس وحامي، فقد جزء من بهجته حينما يكثر همه ومن كان يشاركه به قد فارق إلا من توأمته التي تشعر دائما به، فلولاهما على الآخر، تنهد بكبرياء يرسمه جيداً، وداخله ألف سؤالاً يستعجب من سخري الناس عليه حينما يضعف قلبه أمام حزن أحد، وكيف وهو طبيب لجراحات القلب حينما يموت أحدهم يبكي قلبه عليه ويبدأ بالدعاء، يستعجبون كيف تلك الوصال تنشأ بينهم في أيام معدودة، تهكم في نفسه عليهم وكأنهم لا يعرفون أن بقلبه بعض الرحمة تجعله يحزن على الغير، يمكنه ذلك الشعور من أنه يمتلك القدرة على المواساة بكونه ليس بجامدٍ، أو ربما لم يعرفوا أن الله جعل منه ذلك الهين اللين رقيق القلب صخب برجولته التي تُفرض على الجميع ويجعلهم ينحنون احتراماً، عاقل في الوقت الذي يحتاج إل عقله فيه، ليس بذلك الشخص المستهتر الذي يجعل الغير يفر منه، البعض ظن أنه شخصية متكاملة، ولكنه يعلم جيداً أنه ليس بذلك هو شخص به نواقص، خرج من شروده وتحليل شخصيته هذه على صوت صخب قريب جداً منه، وجد رفاقه الثلاثة يجلسون على الطاولة ذاتها، جميعهم ارتمى على الكراسي وهم يزفرون أنفاسهم وكأنهم تخلصوا من عبءٍ لا يحصى، أغمضوا جفونهم يرجون الراحة وكلمات تعبر عن آلامهم خرجت من أفواههم وهم يلعنون كل شيء، لم يجد أمامه مفر من ألا يضحك بصخبٍ على هؤلاء الأطباء الثلاثة، شعر وكأن أحدهم أجبرهم على دخول تلك الكلية أو ذلك التخصص تحديداً، فهو يدرك أن ثلاثتهم دخل ذلك التخصص بملأ إرادته، وعندما رأى علامات التذمر بادية على وجوههم أكثر قال:
_ماذا هناك؟ ليس بعد كل فترة مسائية تفعلون ذلك.
وأعاد ضحكه مجدداً، تذمر كل من أحمد ومحمد على حديثه، ولكن كامل لم يصمت وقال بحقد أجاد دفنه وخلله بالمرح قائلاً:
_أهلا بكَ يا دكتور أحمد، فأنت لا تحمل هم شيءٍ، صاحب المشفى صديقك فلتعبث كما شئت.
هز يزيد رأسه على حديث صديقه الذي لم يكف عنه، لا يعلم لم يراه مستغلاً إلى تلك المرحلة، ولكنه لم يعقب لأنه لا يجد جدوى من الحديث معه، ولكن أحمد لم يصمت على حديثه وقال وهو يرفع حاجبه:
_ماذا هناك كامل؟ ليست كل مرة نجلس فيها معاً تقول ذلك، أنت تعلم أن أحد ليس هكذا أبداً، كما تعلم أنه شريك بأسهمٍ في تلك المشفى، لذا لا داعي من ذلك الحديث، بالإضافة إلى أنه أكثر واحداً فينا يعمل، وأكثرنا مهارة وجميعاً نتعلم منه.
قلب كامل عينه بمللٍ من ذلك الحديث الذي يسمعه كل يومٍ وصمت لأنه يعلم أنه لا يأخذ حق من لا حق ولا باطل من باطلٍ، تحدث محمد تلك المرة ليُخفف التوتر من الجو وهو يقول:
_ألن نشرب شيء وننهي تلك الثرثرة أيها الثرثارون؟
ضحك جميع الجالسون وهو يرددون معاً عبارة معك كل الحق، جاء النادل وطلب الجميع المشروب الذي يفضله، وبعد وقت ليس بطويلٍ جاء النادل وهو يحمل مشروب كل منهم يضعه أمامه، ولكنه جاء عند وضع كوب يزيد وغمز بطرف عينيه إلى كامل ومن ثُم انصرف، بدأ جميعه بشرب تلك المشروبات التي أمامهم بهدوءٍ بعد يومٍ صاخب، ولكن على الطرف الآخر من الطاولة كان أحدهم يجلس والمر يلمع داخل مقلتيه، قبل أن ينهي أحمد مشروبه وجاءه صوت هاتفه يُعلن عن مكالمة من المشفى، فتح أحمد الهاتف وهو يسمع المتحدث يقول:
_يزيد تعالى إلى المشفى سريعاً هناك حالة طارئة.
نهض يزيد من مكانه مسرعاً وهو يقول:
_أنا قريب من المشفى سآتي على الفور.
وبالفعل أسرع يزيد في التوجه صوب المشفى ليقوم بعمله كم يجب دون أن ينهي آخر جزء من مشروبه.
كان يقود سيارته بسرعةٍ غير ابه بما يدور في الطريق أو أنه يمكنه بكل سهولة] أن يفعل حادثا يكون هو ضحيته في النهاية، أطلق زفراته وهو يقف إشارة مرور ينتظر الثواني تمر حتى يستطع أن يصل للمشفى بأسرع وقت، ولكنه وهو واقف في الإشارة شعرت بغيمةٍ سوداء حلت فوق رأسه، أخذ يطبق على جفنيه لربما يكون شيء ما أصاب عينه بطرفةٍ جعلته تغيم، ولكن مع المحاولة لم ينجح أبداً، لم يخرج من تلك الحالة مؤقتاً إلى عندما سمع صوت ضجيج السيارات من خلفه يحثه على التحرك للأمام، فأخذ يقود سيارته بخطى مضطربة يجاهد أن يصل إلى المشفى بأقل الخسائر الممكنة، وبالعفل كان يقود بشكل يشبه السكارى فاقدي العقل، توقف أمام المشفى أخيراً لا يعلم كم مر عليه، أو كم اخذ من الوقت حتى يصل، ولكنه اتجه صوب الداخل بخطاه المضطربة، كان صديقه يقف على باب المشفى يقف في انتظاره، أدرك يزيد هنا أن الأمر خطير، اقترب منه وهو يسأله عن بيانات الحالة، توجه إلى غرفة التعقيم في المشفى وارتدى زي العمليات وهو يستمع إلى ما يقوله أكرم شريكه ورفيقه رُغم السنوات التي يكبرها عنه:
_السيد يوسف كمال، أُصيب بجلطة أدت إلى انسداد في شريان القلب وتضخم، لذلك يجب دخوله غرفة العمليات الآن، الإيكو، الإشاعات، رسم القلب، وجميع التحاليل ستجدها داخل غرفتك.
تحرك يزيد بسرعة تجاه غرفة العمليات، اطلع على التحاليل والإِشاعات ورسم القلب وكل شيء أعد، علم أنه يجب التدخل الجراحي سريعاً، دلف إلى غرفة العمليات وجد أن كل شيء أصبح جاهز، بالإضافة إلى أن كل شيء يعتمد عليه، تقدم صوب السرير الذي يرقد عليه المريض وهو يتطلع إلى مؤشراته الحيوية، عندما تأكد من أن كل شيءٍ واجب أمر طبيب تخدير أن يقوم بفعلته، وبالفعل بدأ طبيب التخدير بوضع المقدار الذي يتناسب مع حالته والعملية التي سوف تُجرى، حينها أمسك يزيد مشرطه بل سلاحه الذي يملك به أما الحياة وأما الممات لمن يقع تحت يديه، أحس بنفس الدوار والغيمة التي شعر بها منذ قليل، بل كارثته لم تكن عد ذلك الحد فقط، بل كانت أن يديه بدأتا ترتجفان بقوةٍ، وعجز عن التملك من المشرط الذي بين يديه، المرة الأولى التي قف بها عاجز غير قادر على أن يخطو للأمام خطوةٍ واحدة بلع ريقه وهو يسمع أحدي الممرضتين تقول:
_أنا سأذهب لدكتور كرم كي يأتي ويقوم بتلك الجراحة بدلاً عنه.
ولكن الممرضة المجاورة نهرتها عما كانت سوف تفعله، وهي تمسك يدها تأبى أن تجعلها تذهب، ولكنها حررت يديها حينما سمعت صوت يزيد يردد:
_دكتور كرم خارجاً أدعيه حالاُ.
وما زالت رجفة يديه تهيمن على الشعور بداخله، يقف أمام الراقد على الفراش ومازال طبيب التخدير يقوم بتخديره ويحقن وريده ببعض الحقن، لم وقت طويل إنما الدقيقتين حتى يغفو بعد المخدر، وقد دخل أكرم يهرع بسرعة، ولكنه توقف لبرهةٍ في صمت يراقب يد يزيد التي ترتجف، ابتلع ريقه وهو يركض يمسك المشرط الذي بين يديه، يأخذ موضعه حتى يبدأ هو تلك الجراحة، نعم أنه الأستاذ، استعجب حالة يزيد لكنه ليس الوقت المناسب ليتساءل عمه به، أخذ المشرط من بين يديه واقترب من الراقد، وسأل طبيب التخدير الواقف جواره:
_منذ متى خدرته؟
رد عليه الآخر مُجيباً:
_من دقيقة واحدة غفا دكتور أكرم.
تنهد أكرم بارتياح وهو يقترب من الراقد بلا حول ولا قوة لكي يقوم بمهمته، ولكن قبل أن يضع المشرط على صدر الراقد الأيسر سمع صوت صفير الجهاز الذي يعد ضربات القلب يرتفع باضطراب مصدراً صوت ضجيج موحش لكل من يقف في تلك الغرفة، وبعدها تحول هذا الشريط الخاص بضربات القلب يستقيم ليُعلن أن الراقد على الفراش على حافة الموت وأن قلبه قد توقف، صرخ أكرم في يزيد حتى يُسرع كي يتصرف ويكون جواره، وبالفعل كان يستجيب بسرعةٍ، ويأمر الممرضة بإحضار جهاز ضربات القلب وتزويد المحلول بحقنة معينة وبالفعل نفذت الممرضة ذلك الأمر، وجلبت الأخرى جهاز الصدمات ووضعته بين يديه، أمرها بتجهيز وضبط الجهاز على درجة معينة نفذتها بالفعل، أمر الجميع أن يبتعد وليقوم بصعق صدره، ولكن جسده لم يستجيب، أمرهم أن تزيد الدرجة ولكنه لم يستجيب، كررها على أعلى درجة ولكنه لا يستجيب، ترك أكرم المشرط ويزيد ترك جهاز الصدمات وحاول بمساج سريع للقلب، وأعاد الصدمات ولكنه لم يستجيب ثانية، أوقفه أكرم عن المحاولة بذلك الوضع وقال:
_ساعة الوفاة الثانية عشر وخمسة عشرة دقيقة.
تأمل أكرم يزيد وهو يبتعد عن سرير العمليات، ولكنه اقترب منه يقول بصوتٍ مرتفع:
_يزيد اهدأ، احتمال خروجه من العمليات كان ضعيفاً ولكننا كنا نحاول فقط بمبدأ المعجزات يزيد.
توقف يزيد مكانه لا يشعر بشيءٍ بل شعر بغيامه أكبر هيمنت عليه، فلم يشعر بنفسه إلا وهو يسقط سريعاً على الأرض، انقبض قلب أكرم على حدث، تأمل الممرضة التي خرجت له تطلبه للدخول وقال لها:
_قفي هنا كريمة، وأنتِ تعالي معي لنخبر أهل المريض.
وبالفعل خرج أكرم وبصحبته الممرضة ووقف أمام أهل المريض قائلا بحزنٍ وهو ينكس رأسه:
_أعتذر منكم لقد كان قلبه ضعيفاً جداً البقاء لله.
تركهم وتوجه يأمر الثلاجة بأخذ المتوفي للثلاجة من أجل التغسيل ولكي يقوموا بتجهيزات وإجراءات الدفن، ولكن قبل دخول عمال المشرحة كان أكرم ومعه كريمة يلجان للغرفة من جديد، جذب أكرم يزيد إلى غرفة جانبية جوار غرفة العمليات، وضعه جانباً وقال لها بهدوءٍ:
_احكي لي بالتفاصيل ماذا حدث؟
بدأت الممرضة الحديث قائلة:
_لقد دخل الدكتور يزيد إلى العملية وكان يبدو أنه ليس بخيرٍ، ومع الوقت كانت حالته تزداد سوءٍ حيث فقد الدكتور السيطرة على التحكم في مشرطه، فكان يبدو كمن يتناول المخدرات.
عند آخر شيء في حديثها كانت قد اتسعت عينيه بقوةٍ، وقال بصوت غامض:
_هذا الحديث لا يخرج لأحد كريمة.
هزت الممرضة رأسها وقالت له:
_بالتأكيد دكتور أكرم.
هرول أكرم من أمامها بسرعة وهو يأتي بحقنةٍ وضعها بوريده ويُخرج منها عينة دم أخذها وبعدها اتجه بها صوب معمل التحاليل، ولكن قبلها كان قد أمر ممرض طلبه بحمله على والتوجه به صوب غرفته.
وتوجه هو ليعلم أن تلك العينة هي من ستحل لغز تلك المعضلة الصعبة، منحها لطبيب يثق به وظل واقف في المعمل حتى ينتهي من تحليل العينة، وبداخله ألف لغزاً وسؤال عن كيف وصل يزيد إلى الحالة التي دلف بها إلى غرفة العمليات، يعلم أنه لو لم يكن طلبه أن يأتي ليكون مكانه وقاد تلك العملية سيتكون نهايته الطبيبة بكل تأكيد وسيُزج بعدها إلى السجن، ولكن همه الأكبر الآن أن يعرف كيف وصل يزيد إلى تلك الحال التي وصل لها، هو يضمن أن كريمة لن تتحدث، ولكن تلك الممرضة الأخرى التي كانت بداخل الغرفة لا يضمنها قدر أنملة، لذا ينتظر أن تَخُرج التحاليل ونتيجتها، وبعدها يتصرف من تلك الرعناء حتى يضمن صمتها للأبد.
******************
وقف داخل المعمل يجوبه ذهاباً وإياباً منتظر النتيجة في أسرع وقتاً، وما زاد الطين بلة هو ما يقوم به ذلك الطبيب الذي يخترق بعينه المنظار ومن ثم يعود ن جديد ولكن علامات الدهشة والاستنكار بادية على ملامحه مما أثار الذعر والرهبة في نفسه، ابتلع ريقه وهو يُراقب، لا يعلم ما وجده صديقه في فحص العينة حتى يُصبح بذلك الاضطراب وكأن أمر عظيم يحدث بين يديه، رائه وهو يقوم ببعد العينة التي بين يديه ويأخذ عينة جديدة يقوم بالفحص من جديد، تلك الفعلة قد أثارت الباقي من تماسكه الواهي، اقترب منه وهو يزمجر بغضبٍ:
_ماذا هناك عمر؟ لماذا كررت التحاليل مرتين؟
رأى تفاحة آدم الخاصة به تتحرك بعنفٍ وكأنه يُجاهد ليُخرج ذلك الحديث من بين شفتيه وصمت لا يقدر، ولكنه زمجر بغضب يعيد عليه السؤال من جديد:
_ماذا هناك عمر؟ هل أقبل يديك حتى تقول ماذا هناك؟
ابتلع عمر ريقه وهو يُجيب عليه قائلاً:
_حاشا لله أن تفعل دكتور أكرم، ولكن نتيجة هذه التحاليل صادمة حقاً.
نظر له وكأنه يخبره أكمل، فأخذ يبوح بالباقي عنده قائلاً:
_هذه العينة تنم عن أن صاحبها يتناول مُخدر يجعل صاحبها بين الصحو والنوم، بالأصح يسبب اضطراب، بالإضافة أنه يسبب رعشة في الجسد.
تراجع أكرم عدة خطوات للخلف وهو لا يصدق ما قاله عمر، ولكنه سأله مجدداً يوده أن ينفي ما سمعه:
_أ متأكد من حديثك هذا يا عمر؟
هز عمر رأسه قائلا:
_مئة بالمئة دكتور أكرم.
ابتلع ريقه وغلبه فضوله ليسأل:
_ولكن من صاحب تلك العينة دكتور أكرم؟
دنا أكرم منه أكثر يهمس في أذنه بفحيح:
_إذا علم أحدهم بنتيجة هذا الاختبار أقسم لكَ أنك لن تكون بخير أبداً.
ابتلع عمر ريقه وهو يبتعد يعلم جيداً أن أكرم لو أقسم سينفذ بكل تأكيد قسمه، فابتعد عدة خطوات وهو يقول بهلعٍ:
_أقسم لكَ لن يعلم أحد أي شيء، اعتبر أنك لم تأتي إلى المعمل اليوم.
ربت على كتفه بحنوٍ وهو ينظر له بأعين ماكرة قائلاً:
_كن مطيعاً يا ولدي أحبك كثير.
وربت على خده وحمل ما سمعه ع التقرير وأوشك على ان يخرج من مكانه ويرحل، ولكن قبل الرحيل استدار له يحذره قائلا:
_تخلص من العينات الموجودة عندكَ، لا أريد لها أي أثراً في المعمل.
بدأ عمر في تنفيذ الأمور التي ألقاها عليه رب عمله ومالك تلك المشفى، بينما أكرم تحرك من غرفة المشفى عندما لاحظ أن عمر نفذ كل شيءٍ على أكمل وجه، بينما أكرم خرج خارج المعمل ووقف يلتقط أنفاسه وكأنه كان في سباق عدوٍ أرهقه وأزهق روحه، سار في ممرات المشفى ودواخله زوبعة من الاسئلة تعيث في نفسه فساداً، وأسئلة لا إجابة لديه ويشعر أن يزيد كذلك، هو متيقن أنه ليس من هؤلاء المُهملين أبدا، فجوار أنه جراح ماهر إلا أنه رياضي بارع كذلك، يمتنع عن تلك الأشياء نهائياً، ولكم داخله سؤال يلح عليه من أين أتت تلك المواد ومن وضعها، هو على ثقة ويقين أنه لم يفعل قط.
زفر أنفاسه الساخنة وأسرع تجاه غرفة يزيد، وجده راقد على الأريكة في حالة ما بين نوم مضطرب ويقظة يُجبر عليها، ذهب وجلس على الكرسي أمامه وهو يتأمل حالته، راقبه حتى أوشك أن ينهض تماماً من تلك الغفوة التي وُضع بها، وبالفعل مرت حوالي عشرة دقائق وكان قد استيقظ بالفعل، نهض من مرقده بعدما شعر بالألم في رأسه، تأمل المكان حوله وجد أن أكرم يجلس أمامه وحاله لا يبشر بالخير ابتلع ريقه وهو يُصرخ بغضبٍ في وجهه:
_دكتور يزيد ما دمت تتناول ذلك السم لما دخلت غرفة العمليات؟ لما تعرض حياة شخص للخطر؟
ابتلع يزيد ريقه وهو لا يعلم عن ماذا يتحدث، فسأله:
_ماذا هناك دكتور أكرم؟ عن أي سم تتحدث؟ وماذا فعلت؟
خرج صوت أكرم متهكماً وهو يجيبه:
_صدقاً لا تعلم، سأقول لك أجبني كيف تتدخل لغرفة العمليات وأنت متناول مخدر يا دكتور يا مبجل؟
جحظت عيني يزيد هو يسأله:
_كيف ذلك؟ أتعلم ذلك عني؟ أنت من تتحدث هكذا! كيف تقول ذلك؟
عجز عن ترتيب كلماته فصمت، رأف أكرم بحاله وبدأ يشرح له:
_أنت دخلت لحجرة العمليات وبدمك مخدر يفقد الوعي والسيطرة على الأعصاب يزيد، المريض لو كان قوي وأنا لم أكن موجود وفضل الله كان مات بين يديكِ، مشوارك الطبي وحلمك كان على المحك، أخبرني من يمكنه فعل ذلك؟ و لماذا يفعل؟
أحاط يزيد وجهه بيديه وهو لا يملك إجابة على حديثه هذا مطلقاً، لا يعلم أي نفساً مريضة سولت لها نفسها أن تقوم بتلك الفعلة الشنيعة، تعاظم بداخله الشعور بالذنب وهو لا يعرف ما يقول، ولكن داخله سؤال واحد ود الإجابة عليه:
_هل مات المريض بسببي؟
تنهد أكرم وأخذ يُجيبه:
_لا يزيد، المريض مات بعد البنج مباشرة، لم تكن بدأت نهائياً، وكذلك حاولت إنقاذه ولكن عمره نفذ، تلك رحمة ربك بكَ يزيد، ولكن أخبرني أين كنت وماذا شربت قبل أن تأتي؟
بدأ يزيد يسرد ما حدث قبل أن يأتي للمشفى:
_كنت أجلس في المقهى الذي على البحر القريب من هنا، كنت أجلس بمفردي حتى جاء أحمد ومحمد وكامل، مزحنا قليلاً ومن ثم طلبنا المشروبات، وبعدها طلبتني فأتيت، هذا كل ما حدث.
عض أكرم على شفتيه وهو يُردد كامل، كامل، كامل، ويزيد جواره لا يفقه أي شيء مما يقوله أكرم، لا يعلم ما يجول بخاطره، ولكن ما كان بخاطره عظيم حقاً، لقد بدأ الشك يتسلل في نفس أكرم تجاه كامل، هو يعلم مقدار كره كامل ليزيد الذي يعمل جاهداً أن يطمره خلف المزاح، ولكن مزاحه هو الحقيقة، ولكن عقله إلى الآن لا يستوعب أنه يمكن أن يفعل ذلك ويضع حياة آخرين في الخطر من أجل أهدافه، ولكن ما أثار الشك في نفسه أكثر هو فعلة الممرضة التي يعلم أنها تابعة كل التبعية لكامل، أيعقل أن تكون تلك لعبة كان سيكون ضحيتها الكثير، رباه هو لا يصدق ذلك، ابتلع ريقه وقال ليزيد بسرعة بعدما توقع الذي سيحدث لو صدق حدسه:
_يزيد اسمعني ونفذ ما سأقوله لك، إن جاءت الشرطة لن تقول أنك أنت كنت الطبيب الأساسي الذي سيقوم بالعملية بل أنا من كان سيفعل، وأنا عندما اتصلت بكَ كان لموضوع شخصي، وسبب دخولك العملية لتكون جواري وأنا من طلبت ذلك، غير الذي قلته لن تبوح بأي شيءٍ غير الذي قلته.
نظر يزيد له بذهول وهو لا يفهم ما يحدث ولما يلقي أكرم أمر مباشر أن يفعل ما قاله، ولكنه سأل باستغراب:
_لماذا كل ذلك أكرم؟
صاح فيه بغضبٍ قائلاً:
-أسمع وأفعل ما قلته يزيد.
كاد أن يعترض على حديثه ولكنه صمت حينما فُتح الباب فجأة ودلفت كريمة من الباب تصيح بوجهٍ مذعور:
_دكتور كامل الشرطة هنا وقد علمت بما حدث في غرفة العمليات؟
أدار بصره صوب يزيد وكأنه يقول ألم أقول لك، وردد بجملة ماكرة لم يفهمها يزيد:
_أهلا بكَ في اللعبة دكتور كامل.
**************
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي