بيداء

Faya`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-02-21ضع على الرف
  • 21.1K

    جارِ التحديث(كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول

‏وَمَنْ يَنْظُرْ بِعَيْنِ القَلْبِ يُبْصِرْ
جَمَالاً لَيْسَ تُبْصِرُهُ العُيُوْنُ.
** مقتبس **


"حلاتِك" تلك الكلمة البسيطة التي تصِفُ جمال المرء وحدها ما منحتني الثبات في هذا العالم الظالم؛ فطالما رددتها والدتي في طفولتي ومنذها وهي تنسابُ الى مسمعي في كُلّ لحظة قبل خلودي الى النوم.

"انتِ جميلة، وبإمكان الجمال التغلُّب على كُلّ هذا القُبح المكتظ في العالم" أُردد هذه العبارة كُلّ يوم كدعاء ما قبل النوم، الى ان اصبحت هذه الكلمات كجدارًا منيعًا اختبأت خلفه الفتاة الساذجة ذات القلب المُرهف، لم اكُن يومًا فتاةً مُتطلّبة او بالأصح لم استطع ان أكُن كذلك، فالفقر الذي وجدتُ نفسي فيه منذُ ولادتي بالكاد يسمحُ لي بالتنفُّس وفي كثيرٍ من الأحيان ارى ان حياتنا نحنُ المُعدمين خصمًا على حياة الاغنياء، وفلسفة وجودنا غريبة، فما الذي سنمنحهُ للكون ونحن بالكاد نسدُّ جوعنا؟! وبالرغم من إدراكي ان افكاري هذه مغلوطة الا انني وللأسف لم استطع التخلّي عنها، اُظهِرُ تلك الفتاة المُتزنة فكريًا وأُخبئُ افكاري الخاصّة اسفل وسادتي العتيقة.

دعوني اقِفُ قليلًا لتعريفكُم على شخصي البائس، ذات ليلةٍ مُمطِرة غرق فيها منزلنا كالعادة وبدأت جدرانه الطينية بالاهتزاز كعجوزٍ تتوكأُ عصاةً رخوة شعرت والدتي بآلام الطلق، وقد كُنتُ حينها ادفعُ جُدران رحمها المُهترئ بحماس ظنًّا منّي انني سأخرُجُ لأوضع في فراشٍ ورديّ ناعم وحظيّ العاثر يضحكُ على احلامي البريئة.

اخذت والدتي المسكينة تتألم طوال تلك الليلة الطويلة بسبب المخاض والبرد والخوف من ان تسقُط تلك الغُرفة الصغيرة فوق رأسها، مرّت الدقائق والساعات ببُطءٍ شديد الى ان حلّت اولى لحظات الصباح لأخرُج اخيرًا للحياة وقد قصّت القابلة آخر ما قد يربطني بوالدتي "ذلك الحبل السريّ" قصّتهُ بمقصها الصدئ لأستقبل الحياة بعويلٍ حزين لإدراكي لذلك العالم البائس الذي وجِدتُ فيه، حتى انّ صدر أُمّي لم يكن دافئًا كما تخيلت، فقد كانت ترتجفُ من البرد واولى وجبات حياتي منها كانت حليبًا صاقعًا كمشروبٍ باردٍ انصبّ فجأةً الى حلقي.

آهٍ من خيالي الواسع، ابدوا دراميّةً للغاية وانا اصفُ تلك اللحظات ولكن في الحقيقة هذا ما حدث، كبرتُ قليلًا وادركتُ انّ لي اخوان اكبرهما حسن، ربما يكبرني بسبعة او ثمانية اعوام، كان طفلًا لطيفًا احبّني للغاية وهدهدني كثيرًا عندما كانت والدتي تغيب للعمل في احد المدارس، اما الأصغر والذي يبلغ على حسب علمي خمسة اعوام حينها كان ايمن الكريه، لم احبّه ابدًا واشعُر دائمًا بأنّهُ يكرهني للغاية، فتىً مُدلل وخبيث منذ طفولتنا، كان يضربني دائمًا وعندما تأتي والدتي لتتفقدنا يُمثّلُ انهُ يلاعبني، ربما يكرهُ استحواذي على مكانته كأصغر طفل في المنزل.

على العموم لم تكُن طفولتي جميلة ولكن لم تكُن بائسة الى ذلك الحد، فالحيّ الذي نقطنه يغرقُ بالفقر والفقراء، ووالدي الحبيب كان بياع خُضار في السوق القريب بينما والدتي تصنعُ افطار الصغار في المدرسة القريبة منّا وهذا كان كفيلًا بتأمين حياة مناسبة لنا، بعد ثلاثة اعوام من مولدي جائت الى الحياة أُختي الوحيدة ماريا التي أسمتها أُمي على اسم المدرسة الحسناء التي جائت الى المدرسة حديثًا وكما تقتضي العادات جلبت المعلمة ماريا هدية لسميّتها الصغيرة، جلبت لها ثياب ملونة لم ترتديها طفلةً بحيّنا من قبل اضافة الى حلق ذهبي صغير كان ثمنهُ ثروةً بالنسبة لنا؛ فماريا إبنة احد تُجار الذهب المشاهير إضافة لأن زوجها موظف حكومي لهُ مُرتب عالٍ للغاية وقد امتلك السيارة الوحيدة بالحارة إضافة الى المنزل الاجمل على الاطلاق.

وبماريا المدللة اكتملت عائلتنا البسيطة الى هذا اليوم فبالرغم من رغبة والدتي بالكثير من الاطفال كان والدي حازمًا للغاية في هذا الموضوع فوحدهُ من ادرك ان اربعة اطفال بوضع اقتصادي كالذي نعيشهُ كافين للغاية بل ان الاعتناء بنا حملًا كبيرًا على عاتقه وللصراحة اعذره للغاية، وللغرابة كنتُ ولا زلتُ سعيدةً للغاية بهذه العائلة بالرغم من كُلّ شيء، بالرغم من الفقر والجوع والأحلام بعيدة المنال، وحدهم من منحوني الأمان والحُب.

- بيداء! انتِ يا فتاة!
كان هذا صوت ايمن الغبيّ يناديني لأكره اسمي من جديد، بالله عليكِ يا أُمّي لم تجدي اسمًا سوى هذا الأسم البائس لي؟! "الصحراء" اهذا ما بدت عليه هيئتي منذُ ولادتي، هذا وقد ولدتُ بيومٍ مُمطر؟! كان عليكِ تسميتي ديمة او مطر على الأقل.
تأففتُ بانزعاج وانا انتصِبُ حاملةً مكنسة القش بيدٍ واحدة واجبتهُ بتذمُّر:
- نعم سيّد ايمن، هلّا اخفضت صوتك قليلًا؛ فقد اسمعت اسمي للأحياء المجاورة.

افلتُّ من حذائه الذي صوبهُ نحوي بأعجوبة وركضتُ مُتبعدةً عنهُ عندما حاول الأمساك بي هاتفًا بحنق:
- اين قميصي الأزرق؟! ألم تقومي بكيّه الى الآن؟!
اللعنة عليه وعلى قميصه الوحيد!
- حسنًا حسنًا سأكويه الآن.
تركتُ الفناء الذي بدأتُ بتنظيفه وغادرتُ لأقوم بتنفيذ اوامره وإلّا سيقوم بضربي بأقرب ما تنالهُ يداه، كبُر هذا الفتى واصبح رجُلّا والى الآن لا يتشاجرُ مع احدٍ بالمنزلِ سواي، وكأنني قتلت عزيزًا عليه.

خرج اخيرًا بعد ان اجبرني على صُنع الشاي لهُ ولصديقه الحقير وغادرا لأعود لكنس الفناء من اوراق الشجر التي بدأت بالتساقُط بشدّة، وماريا لا زالت نائمة كالأميرات وانا وحدي من يقعُ على رأسه عبء المنزل.
انا الآن ابلُغُ تسعة عشر عامًا وبضعة اشهُر وإلى الآن لم استطع تحقيق حلمي بالذهاب الى الجامعة ولكن بإذن الله في بداية هذا العام الجديد سأرتادها، فقد تم اختياري في احد افضل الجامعات بالبلاد واحتاج لرسوم كثيرة لذلك قمت بتجميد العام الى ان اجمع ما يكفي من النقود.

ربّاهُ كيف مرّ هذا العام بهذه السُرعة! فهانذي اقِفُ امام محطّة المواصلات مُتحمسةً لأوّل يومٍ جامعي، ودّعني ابي باكرًا قبل ذهابه للعمل بالدعوات ووضع بكفّي عشرة جُنيهات قائلًا بنبرةٍ هي أحبُّ إليّ من كُلّ نقود الدُنيا:
- أعلمُ انها قليلة ولكن أعِدُكِ ان اعطيكي بالغد اكثر منها، لقد طلبتُ من حسن ان يعطيكي ايضًا فاليوم يجب ان تسعدي بأولى لحظاتكِ بالجامعة.
وقبل ان أُغادر وقد اغرورقت عيناي بالدموع منحني كلمات لن انساها ما حييت، كلمات ستمنحني القوة لمُجابهة العالم أجمع:
- إياكِ ان تخجلي يومًا من حالتكِ؛ فذات يوم ستكونين بمكانةٍ عالية، انا واثقُ من ابنتي الرائعة.

أُحبُّك بطريقةٍ غريبة، كما وانني أُولدُ مع كُلّ كلمة بصوتك، أُخلقُ في كُلّ لحظة المحُ فيها عيناك، آهٍ كم أُحبّك يا ابي.
وكالعادة اختنقت المشاعرُ بداخلي ولم استطع ان أُعانقهُ واخبره بأنني أُحبّه، كان علينا دائمًا ان نُخبئ المحبّة بجُدران من برود غريب، وككُل مرّة مسحتُ دموع فيضان حُبّي داعيةً الله ان لا يُريني فيه مكروهًا.

ودعني جميع من بالمنزل حتى ايمن منحني بعض الحنان بتعليماته الفظّة بشأن التعامُل مع الشباب بالجامعة، جميعهم منحوني املًا عظيمًا ورُغمًا عنّي كُنتُ احمِلُ على عاتقي احلامهم وامنياتهم، فأنا الفتاة الوحيدة التي ستدرس بالجامعة، انا الملاذ الوحيد لحياة كريمة لهم جميعًا، انا من سيزيل تعب السنين عن ملامح والداي ومن سيُحقق احلام أُختي.

امام تلك البوابة العتيقة خفق قلبي بجنون لدرجة شعوري ببعض الغثيان، مسحت حبيبات العرق الذي تكون على جبيني بطرف حجابي وبيدان مُرتجفتان دلفت الى مصنع ذاتي، حيث سأبني بيداء أُخرى مُختلفة عن تلك البائسة ذات الاحلام الكثيرة، فقد انتهى وقت التمنّى وجاء وقت التنفيذ.

- لا تتطلّعي عليهم، كُفّي عن البلاهة وارضي بما قسمهُ الله لكِ! لا تمنحيهم فُرصة لإستشفاف نقاط ضعفك.
قلتها بداخلي وانا اكبحُ عيناي عن التطلعُ بمن حولي ورُحتُ انظُر للساعة التي اهدتها لي ماريا صباح اليوم لأجد انّهُ تبقى نصف ساعة لأول محاضرات اليوم، وحمدتُ الله انني جئت قبل بضعة ايام واكتشفت الأماكن المُهمة بالجامعة، فجلست على احد المقاعد المُحاذية للقاعة وانا انفضُ حُبيبات التُراب التي علقت بعبائتي السوداء التي تحولت لرمادية وهي تلتقطُ شتى انواع الاتربة من مكان حارتي وصولا الى مبنى الجامعة البعيد جدًا.

ورُغمًا عنّي نظرتُ الى الفتيات من حولي وهنّ يرتدين ثيابًا اقلّ ما يُقال عنها انّها حُلمًا بالنسبة لي ولكن ولحُسن حظّي لم أكُن أُعطي للأمر اهميّة كُبرى واستطيع الأحتفاظ بكُلّ ذلك التوق بداخل قلبي دون ان يظهر على ملامحي، اخذتُ امنح لنفسي تلك الكلمات المحفزة بإصرارٍ شديد
"لا بأس يا بيداء، كُلّها بضعة أعوام وستكونين مُهندسة معمار مميزة وبمخطط واحد ستُحققين كُلّ اُمنياتك"

لم يحضُر الاستاذ بالمُحاضرة الأولى فبدأ الطُلاب بالتعرُّف على بعضهم البعض بينما انزويتُ بأحد الأركان بعيدًا وانا انظُر للفتيات بشرود لأعترف اخيرًا بغباء الكذبة التي قالتها لي أُمي يومًا وصدقتها، "حلاتِك!" كانت دومًا تقولها لي ليس لأنني جميلة على العكس تمامًا فقد ارادت فقط ان تزيد من ثقتي بنفسي لا غير، فأنا مجرد فتاة اقل من عادية.

الجميلة بحق هي ماريا التي تملِكُ اجمل عينان رأيتهُما بحياتي، عيناها بلون العسل وعندما تقِفُ مُقابل الشمس تبدوا كأحد المُمثلات الاجنبيات، فارعة القوام كتماثيل الاغريق وبشرتها ناعمة كالأطفال، لونها كلون المانجو قُبيل نُضجه بقليل، بين الذهب والرمل، فاتنة أُختي الصغيرة التي اصبحت بين ليلة وضُحاها حديث اهل الحارة البائسة، تقدم لخطبتها الكثير ولكن والدي يرفض ويقول انها لا زالت صغيرة ولكنني ادرك سبب رفضه، لأنهُ يجب ان اتزوج انا اولًا، هذا ما يراهُ الأغلبية او ما تنصُّ عليه القوانين.

افلتت من بين شفتاي ضحكةً خافتة وشعرتُ بيدٍ توقظني من شرودي لألتفت لتلك الفتاة التي لا اعلمُ متى جلست بجانبي وقبل ان انبس ببنت شفة وجدتُ من يقول بصوتٍ مخمليّ ثقيل، كأصوات مذيعي الراديو:
- هلّا عرفتنا على نفسك ومكان سكنك.
التفتُ حولي لأجد كُلّ الأعيُن تنظُر اليّ بفضول بينما همست اليّ الفتاة ذاتها بخفوت:
- اجيبي الأُستاذ!
تمتمت بتردُد:
- بيداء...

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
فكرة مرتجلة مرت بذهني وقمت بتدوينها فورا واحببت مشاركتها معكم، ستكون رواية مختلفة وغريبة فهي ما ستكتب نفسها ولن اتحكم في بدايتها او نهايتها، سأجعل الأحداث تعبر عن نفسها دون اي تعديل، قد تكون طويلة او قصيرة على حسب تشكل الفكرة.
اتمنى ان تنال اعجابكم خاصة وانني اكتب لأول مرة بأسلوب الأنا الراوي حيث ستسرد بيداء قصتها بنفسها لذا اشعر بالقليل من الارتباك.

مع حبي ❤❤❤



فايا
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي