الفصل الثامن

قيلَ عَن الغِيرة :
_ حينها لم أكُن أعلم أكان القلبُ يدقُّ، أم يضرب رأسَهُ في حائِط صدري.

*** مقتبس***


تصافح الرجُلان وقبضة طارق تقسوا على وليد بخشونةٍ لا يتصنعها؛ فمظهره وحدهُ يدُلّ على القوّة، طويل وضخم الجُثّة، عيناهُ حادّة وملامحهُ تُثير الريبة، بينما وليد رجُل انيق المظهر مُرتّب وراقي إضافة الى ابتسامته الوديعة التي لا تفارق شفتيه.



لم يحاول مُصافحة بيداء لأن نظرات زوجها واضحة ويدها الصغيرةُ مُختبئةً بيده، اشار لهُما بالجلوس وحاول تلطيف الأجواء بسؤال بيداء عن دراستها وما عملتهُ قبل مجيئها لشركتهم، كانت تُجيبهُ باختصار فإلى الآن لا تُصدّق ان مُدير الشركة هو وليد، وانّها الآن تجلسُ معهُ لمُناقشة عمل طارئ، كم صغيرةٌ هذه الحياة! التقت عيناها مع الجالس امامها وملامحهُ جامدة لا توحي بما يدور بداخله من غيظ، كاد لأكثر من مرّة ان يقاطع حوارهم الذي لا يخدم ايّ عمل ولكنه يتراجع بآخر لحظة، اخرج لفافة التبغ وشرع بالتدخين تحت نظراتها المُحرجة.


برر وليد دعوته لها بهذا الوقت لمناقشتها حول سير احد المشاريع التي استلمت العمل عليها، مرّ اللقاءُ بذبذباته الخفيّة مُسريًا بداخل ثلاثتهم مشاعرًا مختلفة ولكنها عنيفة للغاية، فها هو وليد يجلِسُ على مكتبه بخُذلان! يبدوا انهُ خسِر معركته قبل البداية.

لن يُنكِر انّهُ رغِب بشدّة في رؤيتها بالرغم من معرفته بأنها مُتزوّجة ولكن احترامه لذاته يمنعهُ بالتمادي بأي شيء آخر، لقد ظنّ انّها ستكون تعيسة بحياتها، سيُنقِذها من زواجها الفاشل ويتزوجها ولكنها لم تكُن كذلك؛ يبدوا انها تُحبّ زوجها، وسيظلُّ هو مُجرّد تجرُبة قديمة لم تنل النجاح، تجرُبة ساهمت والدتهُ في فشلها، سنوات لم يستطع مُسامحة والدته على ما فعلتهُ بحقّه، حاول العودة عندما اخبرته والدته بحوارها مع بيداء اراد ان يعتذر منها ويُخبرها انّهُ يريدها حتى وإن رفض الجميع الّا ان الأوان قد فات، فقد كانت وقتها عروس لرجُل آخر.



في طريق العودة كانت لكمات عنيفة تطرُقُ قلب طارق؛ فرؤيتها اليوم برفقة هذا المدير لم ترُقُه ابدًا، خاصّة وانّ وليد يبدوا من نوع الرجال الذي لا يفضله، اولئك الذين يمتلِكون رقّة وليونة في التعامُل مع النساء.
- لم يبدوا انّهُ كان مُجرد استاذ يا بيداء، هل كان اكثر من مجرد استاذ؟
تسائل عند وقوفهم على اشارة مرور لتُجيبهُ بعفويّة:
- طلب يدي وكُنا سنتزوج.

انتظر ان تضحك لتؤكد انها مُجرد مزحة ولكنها لم تفعل، كانت شاردة في هذا اللقاء الغريب وما قد يترتب عليه من نتائج، تدعوا ان لا يعيدها وجود وليد لنُقطة الصِفر من جديد، لا تريد ان تتذكره هو او والدته.
- ولماذا لم تتزوّجا؟
- حمدًا لله اننا لم نتزوّج.
القت بكلماتها بارتياح ليُبادلها ابتسامةً صفراء مُهتزّة مُبطّنة بالغضب، كيف لها ان تُخبرهُ بهذه البساطة انّ مُديرها بالعمل رغب بالزواج منها ايّ انّها تُعجبه! وبالمقارنة مع مرور الزمن سيزداد الاعجاب بالتأكيد، بذات الوقت لم يكُن ليغفر لها إن كذبت عليه.


امسك بيدها الخالية من الزينة التي ترمزُ للنساء المتزوجات فقال بحزم:
- ضعي بعض الحنّاء على يديكِ، بالتأكيد معظم زملاء عملكِ يظنون انّكِ "آنِسة"
- ابدوا صغيرة أليس كذلك؟
علْقت مازحة ليهمِس بإسمها من بين اسنانه فتهتِفُ بتذمُّر:
- لا داعي للغضب، سأضعها ما ان اصل الى المنزل بالرغم من انني لا أُحبُها.

اجابها ببساطة:
- لا داعي لأن تُحبينها، يكفي ان أحبّها انا.
تأوّهت بدهشة والتفتت اليه قائلة:
- هل بالفعل تُحبّ تلك الأشياء التقليديّة التي تفعلها النساء!
- لا افعل! هيا الى الداخل.
ترجل، فتبعتهُ وهي تتأفف بضيق؛ ارادت ان يكملا حوارهما فمن النادر ان يتحدثا بهذه العفوية.


كانت الشمسُ تتراجعُ عن وجه السماء ولكن لا زال الضِياءُ يُظلل جُزءً من الأرض عندما راقبتهما عينا الجدّة بحُب وهما يتقدمان ليُلقيا عليها التحيّة وينضمّا للجميع في الجلسة المسائية العائلية.
- اين كُنتُما كُلّ هذا الوقت؟
تسائلت بفضول ليُجيب طارق سريعًا:
- مشوار خاص يا جدتّي.
ابتسمت برضا وهمست اليه:
- إذن فليُكثِر اللهُ من مشاويركما الخاصّة.


حبيبات المطر تطرُقُ وجه المدينة بعُنف كصفعةٍ قاسية على خدّ طفل، تصطدم بالارض الاسفلتيّة مكوّنة بِرك صغيرة من الدموع، يُراقب طارق وابنه تساقُط المطر بصمت، يحاوِلُ صرف تفكيره عن بيداء وعملها مع وليد ولكنهُ لا يستطيع، لم يعترض يومًا على عملها بل هو من ساعدها فور تخرُجها على الحصول على وظيفة ولكن الآن يشعُرُ بعدم الارتياح، او بالمعنى الأصح يتقلّب على جمر الغيرة الحارق.


بينما بالغُرفة المجاورة فكّرت بيداء بأن لقائها مع وليد اليوم لم يؤثّر فيها بقدر ما تخيّلت بل سار الأمرُ عاديًّا؛ لأنها نجحت بمحوه من حياتها، افضل شيء قد تفعلهُ الآن هو ان تعود بذاكرتها لأوّل لقاءٍ بينها وبين طارق، التقطت الدفتر لتنتبه لعدم وجود الآخر المليئ بالذكريات، بحثت بهدوء ولكن بلا فائدة، بدأت القلقُ يكسوا قسماتها؛ فآخر ما قد ترغب به هو رؤية ايّ احد لما تكتب.
- طارق هل رأيت دفتري الأحمر، اضعهُ دائما بالطاولة القريبة من فراشي والآن هو ليس موجود.


- لم اراه.
اجاب باختصار وراقب انفعالها الشديد وهي تُقلّب كُلّ ما يمُرُ امامها بسُرعة وتهتِفُ بغضب:
- يا الهي! اين ذهب؟ لا يُمكن ان يدلف احدهم لغُرفتي سوى سراج! اين هو؟
راحت لغُرفته وهو يتبعها هاتِفًا بأن الصغير قد نام للتوّ ولكنها ايقظتهُ وسألتهُ ما اذا لعِب بأغراضها ليُجيبها ناعِسًا انّهُ لم يفعل ولكنّهُ اضاف مُتذكّرًا ما حدث:
- كانت الخالة نهال بغُرفتكِ.
فقد لمحها وهي تخرُج ولم تنتبه اليه.


ما ان نطق اسمها حتى شتمتها بحدّة واقسمت ان لا يمُرّ هذا اليوم على خير! لقد تحمّلتها طويلًا ولكن أمر كأخذها لهذا الدفتر سيُفجّر الغضب الذي كتمتهُ طويلًا.
- نم يا صغيري، تُصبح على خير.
قبّل طارق ابنه ولحِق ببيداء لاعِنًا حظّهُ الذي اوقعهُ بالزواج من اثنتين.
تستلقي نهال على فراشها تقرأ ما خطّتهُ بيداء دون اهتمام؛ فكُلّه لا يفيدها بشيء، ولكنها لمحت اسم وليد بأحد الصفحات، ابتسمت بنصر مع دخول بيداء والشررُ يتطايرُ من عينيها، سحبت منها الدفتر على الفور وهتفت بغضب:
- كيف تتجرأين وتدلفين لغُرفتي وتسرقين اغراضي؟ الى هذه الدرجة وصلت بكِ الدناءة؟


ازاحت الغطاء عن جسدها ونهضت بكسل عند دخول طارق، كانت ترتدي ثياب نوم خليعة للغاية؛ فقد توقعت قدومهُما، ابتسمت بدلال لطارق حينها ازداد احمرار عينا بيداء والتفتت اليه هاتِفة بجنون:
- اخرُج من هنا! أيُعجِبُكَ منظرها؟!
قبل ان يبادر طارق بالدفاع اجابتها نهال وهي تقِفُ امامها ويدها على خصرها:
- بالتأكيد سيُعجِبه منظري؛ زوجتهُ وحلالهُ انا، اما انتِ فأنُظري الى نفسكِ وبعدها امنعيه عن النظر.


هذا اكثر شيء مُذِل للمرأة، ان ينتقِص احدُهُم من جمالها امام من تُحِب، كادت ان تبكي ولكنها تذكرت حقيقتها، ليست سوى سافلة باعت جسدها بأبخس ثمن، للحظةٍ تمنّت ان تنكِث بوعها لطارق وتخبرها بأنها تعرِفُ كُلّ اسرارها المُخبأة ولكن طارق سحبها عنوةً وهو يهمِس:
- انا سأحلّ الأمر معها.
كادا ان يخرُجا عندما قالت نهال:
- ألن تسألها عن محتوى دفتر الذكريات.



تجمّدت بمكانها وبدأت دموعها بالسقوط ببُطء، لقد اهانتها كثيرًا اليوم، لن تغفِر لها ما فعلته.
- الدفتر الذي تحكي فيه قصّة حُبّها القديمة مع استاذها الجامعي، استاذ وليد.
هنا حلّت الصدمة على ملامح طارق، ينظُر الى دموعها التي تشرح كُلّ شيء، وتُضيف الأُخرى:
- كانت مجنونة به في السابق ولكن للأسف لم يتزوّجا؛ ورُبما الى الآن تُحبّه.
صفعتها بكُلّ ما يعتمِلُ بداخلها من كُره وغضب وصرخت بها:
- اخرسي يا حقيرة، اتظُنين انني مثلكِ يا...


كتم طارق صوتها بيده ولكنها رفضت السكوت، تمتمت باختناق عن كُلّ شتيمة تعرفها بحياتها بينما قرأت نهال تلك الكلمة بعيناها، الكلمة التي اجتاحت أُذُنيها كوابِلٍ من الرصاص بصوت والدها اثناء ضربه لها، الكلمة التي تستحِقُّ ان توصف بها لأنها خسرت شرفها وحملت ابنًا ليس شرعي، إذن اخبر زوجته بالحقيقة! بيداء الآن تعرِفُ قصتها كُلّها؟ راقبت طارق ينظُرُ اليها بغضب قبل ان يحمِل بيداء ويخرُج تارِكًا اياها تُمسِكُ بخدّها وتهمِسُ بجنون:
- ستدفع ثمن هذا غاليًا يا طارق، لقد وعدتني الّا تُخبِر أحد ولكنك خائن، ككُلّ الرجال.



افلت فمها ما ان اوصلها للغُرفة، اغلق الباب ونظر اليها مليًّا، وسقط بصره على الدفتر الذي تحتضنهُ كما وانّهُ كُلّ حياتها، سأل ببرود:
- ماذا يوجد بالدفتر؟
- ذكريات!
همست باختصار ليقول:
- اريدُ ان اقرأه.
- تفضّل.
اعطتهُ اياه برأسٍ مرفوع؛ فهي لا تُخبئُ عنهُ ما قد يُخجلها، ولن تسمح لنهال بأن تفوز عليها، ستدعهُ يقرأ ويعلم انّها لم تكتُب شيئًا عن وليد ولن تفعل.



اتجهت الى فراشها ونامت على الفور فهذا اليوم الأكثر إرهاقًا طوال الفترة السابقة. وسهر طارق يقرأُ ما خطّتهُ بالرغم من شعوره بخطأ تطفُّله على حياتها السابقة الّا ان حديث نهال اوجعهُ للغاية؛ يريد ان يتأكد من انّها لم تكتب عن ذلك الحقير، وجد انّهُ يتعرّف على جوانب أُخرى لديها، جوانب لم تُظهرها اليه، يضحكُ على افكارها الغريبة، يحزنُ لرؤية مشاعرها السوداويّة، يغضبُ من عدم رؤيتها لمحاسن شخصيتها، لاحظ انها لا ترى انها جميلة، وهذا ما كان يراهُ في السابق ولكن الآن بات ينظُرُ اليها بشكل مُختلِف، يرى انها زهرة نادرة حصل عليها وحده، وفي اللحظة التي تبدوا فيها كُلّ النساء مُتشابهات تأتي هي لتلفِت انتباهه، الزينة، الثياب الجميلة، الشعر المُصفف، كُلّ تلك الأشياء مُجرّد برواز لصورة الروح، وهي اجمل وألطف روح عرفها.



هو يعلم انّ نهال تفعل ذلك لتُنشئ بينهما خلافات ولكنها لا تدرك انّها اليوم اهدتهُ سببًا جديدًا للتمسُك ببيداء، انتهى حديثها وعرِف حقائقًا لم يكُن ليعرفها عنها. كانت مشاعره تزدادُ تأجُجًا ولكن ثمّة هاجس يُخبرهُ بأن شيءُ ما قد يُعكر صفوا حياته، عليه إبعاد نهال بأسرع وقت، فلم يعُد بمقدوره مجابهة المزيد من المشاكل.


اغلق الأضواء، فتح الشُرفة واقترب ليُطالعها تحت ضوء النجوم، تتحوّلُ بقايا المطر المُعلّقة بين السماءِ والأرض الى زخّات عطرٍ ملائكي، تنثُرُ عبيرها البارد على وجنتي حبيبته فتُخبئُ وجهها بكفّها كما يفعل سراج عادةًً اثناء نومه.
- اعتذر عن كُلّ دمعةٍ ذرفتِها بسببي.
همس وشعورهُ بالعذاب يتضاعف؛ فما ان ادرك انّهُ يُحبّها بات كُلّ شيء مؤلم، نظرة عابرة من عينيها قد تؤرّق ليلته، حُزنٌ قليلٌ يسكُنُ ابتسامتها يشرخُ قلبه، ما الذي اوقعهُ بهذا الفخّ؟! كان قبلها مُستريحًا ينامُ ما ان يضعُ رأسهُ على الوسادة، يتحدثُ اليها قليلًا ويحترمها كثيرًا ولكن قلبهُ بعيد مُستريح البال، الآن كُلّ شيء يُحرِق، الشوق، الرغبة، الفراق، حتّى قُبلتها البريئة على وجنته تؤلم قلبه، ذلك الألم الذي يدعوا الله ان لا يُزيلهّ من قلبه.
استلقى بجانبها وابتسم عندما اشتمّ رائحة الحنّاء المُنعِشة، لقد اطاعتهُ وخضّبت يديها، اناملها الصغير غدت حمراء كفاكهةٍ شهيّة، قبض على كفّها، اشتمّها بعُمق، وقبّلها هامِسًا بنعاس:
- سأحتفِظُ بيديكِ معي غدًا، إذهبي بدونهما!

.
.


امّي وحدها من رأت أثر اوّل مرّة قابلتُكَ فيها، لمحت بقايا نظرتك التي اختزنتها بداخلي، وقاست بابتسامتها دقّات قلبي المُضطرِبة، ودون ان تسألني رُحُت اخبرها بما حدث في يومي مُستِغلة غياب ماريا لكي لا تُفسِد حديثنا بمُخيلتها البالية.
- أتعلمين ماذا حدث اليوم يا أُميّ؟
- سأعلم عاجلًا ام آجِلًا يا حُلوتي!
قالتها ضاحكة بيقين ومارست بنظرة واحدة سحرها عليّ لأقول:
- اليوم لم يكُن لدينا دراسة، يوجد اجتماع لكُلّ اساتذة القسم لذلك اصرّت حنين ان اذهب معها لمنزلهم.


كان وقتها قد مرّ اكثر من عام على معرفتي بها ووالدتي تعرفها لأنها زارتني من قبل.
- ذهبتي برفقتها؟
- نعم! ذهبنا، اتعلمي بيتهم جميل للغاية واهلها لُطفاء جدًّا، انتِ تعلمي انّ والديها متوفين ولكن جدّتها طيُبة جدًّا، احببتُها من اوّل لقاء .
- من ايضًا يعيشُ معهم.
أُمّي ألطف شخص قد تتحدّث اليه في الحياة، أُحبُّ كيف تلتقِطُ منّي الكلمات، كسارقٍ ماهر تُخبِئُ الأعترافات بداخل ثوبها وتبتسم ببراءة.


- إخوتها قاسم وعابد وطارق، وزوجاتهم.
كُنتُ اعرف تفاصيل حياتها كما تفعل هي ايضًا لذلك عندما سألتني والدتي عن ما اذا كانوا جميعًا متزوجين اجبتها بسُرعة:
- عدا طارق.
خرج اسمك من فمي مُختلِفًا، ليس كأيّ اربعة احرُف انطقها كُلّ يوم، بدت حائرة كحالتي عندما القيت عليّ السلام.


كنتُ اجلس برفقة جدّتك وحنين عندما دلفت حامِلًا همسة ابنة قاسم التي كانت تلعب امام الباب، نظرة واحدة كانت كافية لحدوث ضجيج غريب بداخلي كِدتُ ان اضحك عندما تذكرت حنق حنين منك وتذمُرها اليوميّ من اوامرك واستغربتُ عدم كُرهي لك كما كُنت افعل من احاديث أُختك.
- السلامُ عليكُم.

قُلتها وكأنك مُرغمٌ عليها، حمدًا لله انني لم امدّ يدي لمُصافحتك لأنك تجاهلتني ووضعت الصغيرة وغادرت، والى الآن لا أُصدّق انّني قبِلتُ بالزواج منك بعد ذلك الموقف السخيف، فقد كان الجميع لطيفون عداك، حتى إخوتك الآخرين قابلتهم قبل انتهاء زيارتي التي طالت اكثر مما توقعت، ودعت جدتك التي قالت لي:
- انتظِرُ زيارة أُخرى منكِ عزيزتي؛ فقد صرتِ كحفيدتي.

ويال الغرابة بعد اقل من عام صِرتُ جُزءً من العائلة.
عندما اكملتُ لأُمي تفاصيل اللقاء ابتسمت ولم تُعقّب بل امسكت بكفّي طويلًا دون ان تقول ايّ كلمة، دسّت بين اناملي الكثير من المشاعر، كانت تُطمئنني، تواسيني، تُحبّني بطريقتها الخاصّة.


نفذ مداد القلم ولم يهدأ بحر الذكريات، ثمّة لهفة عظيمة بقلبها لرؤيته فمنذُ ايام لم يعُد الى المنزل بسبب العمل، ذلك الحنين احمقٌ للغاية ولا يفوقهُ جنونًا سوى الحُب وهي ببساطة غارقة بكلاهُما، تقِفُ امام خزانة ثيابه التي يبعثرها دائما، تتناول قميصه الاسود كوجبةٍ شهيّة، قُبلتان وعناق كبير لرائحة عطره المُميزة ورسالة أخيرة منهُ اكملت جمال يومها:
- لقد طلّقت نهال.


انتظرت عودته بفارغ الصبر، ارادت ان تكون ذكرى هذا اليوم مُختلفة، لن تسمح لهُ بعد اليوم بتقديم مُساعدة من هذا النوع لأي شخص، يكفي نهال واحدة بحياتها!
بدت جميلة، مُفعمة بالحُب، مُنتعِشة كزهور الفُل، على شُرفتها المُطِلّة على السماءِ انتظرتهُ طويلًا دون فائدة، صوت حشرات الليل، حفيف الشجر، بعض قطرات من السماءِ ودمعة يتيمة بعد الرسالة الثانية:
- لن اعود اليوم.


هذه الليلة لم تكن كسواها من ليالي الخريف الخانقة حيث تتصاعد رطوبة البحر لتتكاثف على زجاج النوافذ؛ بل اجتاحني فيها برد قارِس ما ان تلمّست يداي تلك الرسالة التي رماها قدريّ المُرّ من عقبِ بابي، لم تكُن حبيبًا وفيًّا كما عهدتك؛ فقد هربت بجُبن ولم تمنحني وعدك الدائم باللقاء بل لم تُكلّف عيناك بتوديع ملامِحي.

تركت عطرك ينخر مسامات روحي وساعتك تلسعني بعقاربها الحادّة، قميصك الذي يعانق قامتي لفرط الشوق، لماذا لم تقتلع كُلّ بقاياك من قلبي؟! لماذا تركتني على اطلال وجودك وحيدةً مُحمّلةً بكُلّ ما هو انت؟! ما هو ذلك الشيء الذي دفعك للبُعد لدرجةٍ لم تنتبه فيها لعُلبة سجائرك وشعري؟! وهما اكثر ما يُرديانك ثمِلا؟!


اغلقت دفترها، جمعت خُصلاتها وغفت ببقايا الكُحل على عيناها الدامعة ولم تدري انّها قد لا تفيقُ بعد تلك اللحظة، وقطعًا لم تعلم بما فعلتهُ نهال بها، فحُقنة صغيرة كانت كافية لرسم البسمة الشيطانيّة على شفتيها.
- وداعًا بيداء!
قالتها وغادرت لتنام بسلام فهذه آخر ليلة لها بمنزل طارق.

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
قاربنا على النهاية
الفصول القادمة من الماضي وسنعود الى الحاضر بآخر الحكاية



مع حبي❤❤❤


فايا
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي