الفصل التاسع

أُحبُّك، إن كان هذا هو المعنى أن يأخُذ احدهم قطعةً من روحك ويُلصِقها بجانب قلبه فقد فعلت، إن كانت تعني لحظات الصمت الذي يُغطّي كُلّ ما عجزنا عن البوح به ليبقى مُختبِئًا بداخلنا فقد احببت، احببتُكَ حتّى في حوارنا الوحيد الذي نسردهُ مساء كُلّ يوم دون ان نشعُر بالملل.

- مساء الخير.
- كيف حالكِ اليوم؟
- كيف سار عملُك؟
- هل ستذهبُ باكِرًا الى العمل؟
- حضّرت ثيابك.
- العشاء جاهز.
- تُصبح على خير.

كُلّ تلك العبارات نتلوها على مسامع بعضنا البعض بمثاليّة غريبة، أُحبُّك بصورة اكثر عقلانيّة وهدوء، عندما نتشارك الحياة بعدالة، نتنسّم هواء ذات الغُرفة، يجمعنا ذات الفِراش، نضحك، ابكي وتضحك من طفوليّتي، اخاف فأحتمي بك، ننثُر الحكايا، تتشابك ايدينا، تتعانقُ اجسادنا، وتهوى القُبلات على شفاهنا، كلّ المشاعر ومواسم الحُبّ عشناها سويًّا بقلبٍ يرفُضُ الإعتراف، احببنا بعضنا منذُ اوّل لقاء واوّل لمسة يد، كُنّا مُنسجمين بصورة غريبة وكأننا خُلِقنا لنُصبح هنا، سويًّا بمنزِلٍ واحد.

اذكُر دومًا اولى لحظات حياتنا؛ سردت عليّ يومها نظام حياتنا واستمعتُ اليك بإنصات طالبة مُجتهِدة قُلت لي :
- انا لا أُحبّ الفتيات المُدللات ولست مُتفرّغ لتلبية رغبات العاطفيات الحالمات، اكرهُ النساء الثرثارات ولا أُفضّل الزواج من طفلة، أُريد فتاة عاقلة تستطيعُ تحمُّل مزاجيّتي وعدم التذمُّر من اوامري الصارمة.
واضفت ايضًا:
- لا أُحبّ الاحتفالات ولا اجلب هدايا وورود، انا فقط أُعطي نقود وبإمكانكِ حينها ابتياع ما تُريدين، اتفقنا؟

رباه كم اخفتني حينها، شعرتُ انني سأعيش حياةً مريرة ومأساوية لكنّك ابتسمت فجأةً، تلك الابتسامة الأخاذة التي تسلِبُ الألباب وخِفتُ منك اكثر، بدوت كدُميةٍ خشبية جامدة الملامح، أأرُدّ اليكَ البسمة ام ستغضب؟! فكرّت بقلق وانا ادعوا الله ان تمُرّ هذه الليلة بسلام، ليلة الفُستان الأبيض والورود، ليلة احلام الفتيات التي انتهت بجلسة عسكرية وانت تقِفُ على رأسي كمُدير صارم.

كرِهتُ حينها موافقتي السريعة وتهوّر مشاعري وانقيادي نحو نظريّة حمقاء قرأتُها ذات يومٍ بأحد الكُتُب، كنتُ فعليًّا اسمح للقدر بالإبحار بي حيثُ يشاء دون ان اعترض، اتبع حدس اللحظة الاولى وأُقرر انني موافقة على الزواج من شخص بالكاد اعرِفُ ملامح وجهه لينتهي بي الأمرُ في بيته بثوب زفاف.

امسكت بيدي فجأة، كانت كبيرة وخشنة مثلك تمامًا ولكنّها حنونة مثلك ايضًا، وجدتُ فيها امانًا من كُلّ مخاوفي، ومنذُها وهي احبُّ صديقٍ لي، بات بيني وبينها ميثاقًا بالحماية، ودون ان اشعُر غدت عادتي ان اظلّ بجانبك لأُمسِك بها، في ذلك الوقت بالذات لم أكُن بحاجة لشيءٍ اكثر من الأمان وشيئًا فشيئًا بِتُّ اكثر جُرأة في نيل ما احتاجهُ منك.

حاولتُ كثيرًا ان اتسلل لقلبك ولكنّهُ مُحصّن بقِلاعٍ عالية، مُحصّن بخوف رجولي من ان يُضعِفك الحُب وتُصبِح كسائر الرِجال الذين تكرههم، كأُولائك الذين يغازلون زوجاتهم امام الجميع واذكُرُ كيف كان نقاشنا حول هذه النُقطة مُحتدِمًا في احد الليالي؛ لقد حرِصت ان تُحذُرني من كُلّ ما تكره لكي لا ارى وجهك الغاضب ولم أكُن لأُخاطِر بفعل ما قد يُظهره لي. 

قرأت ان العام الأوّل من الزواج هو ما يُحدد استقرارية الزواج؛ فإن مرّ بسلام وتأقلم الشريكان على عيوب وخطايا بعضهما سيستطيعان تجاوز بقيّة الحياة سويًّا، وللغرابة مرّت التجرُبة بسلام، كان عامًا جميلًا ومُثيرًا للحماس؛ ففي كُلّ يوم اكتشِفُ فيك شيئًا جديدًا، شيئًا كالإعلان الترويجي للأفلام، يدفعني للدهشة واللهفة لمعرفة المزيد عنك.

عن طارق الرجُل الذي دلف فجأة كعابر سبيلٍ لبيتٍ مجهول، حيث حياتي الهادئة البسيطة وشرع دون إذني في بعثرتها بفوضاه المُحببة، ووجدتُ نفسي اتمنّى ان يظلّ الى الأبد، فليعبث بحياتي كما يشاء فبالنهاية سيتعب كطفلٍ مُشاكس ويغفو تعبًا بين ذراعاي وحينها سأكون بانتظاره بلهفة ألف أُم.

على ذكر الأُم؛ اردتُ ان اكون أُمًا منذُ فترةٍ طويلة، منذُ اوّل لحظةٍ رأيت فيها ماريا الصغيرة بين ذراعي والدتي، كُنتُ ارغبُ بأن احمِلها كما يفعل حسن وايمن ولكن والدتي ترفِضُ دومًا وتقول انها صغيرة وستقع من يداي، اغضبُ وابكي وبعد جدال تضعني والدتي في فراشها وتسمح لي بحملها لتغدوا لحظة الأمومة اليوميّة لي دقائق مع ماريا الحلوة.

تحكي لي والدتي دومًا تلك اللحظات؛ تُخبرني انني حملتُ حُبّ ماريا كطفلتي منذُ ولادتها وبالفعل كانت ولا زالت طفلتي الكبيرة؛ بالرغم من عِصيانها الدائم لي وقوقعة الحُلُم التي تعيش بداخلها الّا انني اوّل من تلجأ اليه عند افتعال مُصيبة واضطر ان أُحلّ مُشكِلاتها العويصة دون تذمُّر.

لا زِلت اذكُر عندما جائت لزيارتي قبل بضعة اعوام باكيةً واخبرتني بأنها تشاجرت مع حبيبها وسيترُكان بعضهما البعض، حبيبها الذي تعرّفت عليه صُدفةً ببيت الخالة ماريا، سيف ابن أُخت الخالة ماريا الشاب المثالي لكلِمة "لامُبالاة" شاب فاشل في كُلّ شيء عدا الحُب، المعدن الذي تُنقّب عنه أُختي منذُ اولى سنوات مُراهقتها، الوهم الذي تحشو به قلبها المسكين، حاولت طويلًا ان أُقنعها بأن الحُبّ للحكايا وليس للحياة ولكنها تستمِرُّ في القول:
- سيأتي يا بيداء! سيأتي حبيبي ومهما كان سأتزوّجه.

لقد جاء بالفعل واحبّته وعايشتُ بنفسي قصّتهُما المحفوفة بالمخاطر، حاولتُ كثيرًا ان امنع ايّ تواصُل بينهُما حتى الخالة ماريا بدت رافضة لتلك العلاقة التي لا تمشي على قدمين، ولكنهما تبادلا الحُبّ بجنون، بِجُرأة ممنوعة بمجتمعنا واخذا عهدًا بأن يتزوجا رُغمًا عن انف الجميع.

كُنتُ اعلم انّ ماريّا جريئة ومشاكسة ولكن الحُب منحها تهوّرًا اعظم وكادت لأكثر من مرّة ان تفقِد كُلّ شيء في سبيل البقاء برفقة حبيبها الذي يبدوا انّ الحُب زادهُ تعقُّلًا فبدى يخاف على سُمعتها اكثر ويمنع لقاءآتهُما السرية وحينها بدأتُ اثِق به قليلًا فقد وعدني بأن يبحث عن عمل ويحاول الاستقرار بدلًا عن حياة الطيش التي يعيشها وبغضون اقلّ من عام سيأتي لخطبتها.

كنتُ ارى العشق بعينيه واتفهّم توق أُختي لهذا الحُب وكُرهها لإبعاده لها؛ فبمرحلةٍ ما من الحُب لا يكتفي المرءُ برؤية حبيبه فحسب بل يشعُر برغبةٍ في الانغِماس بداخله الى الأبد حيثُ لا يُفرّقُ بينهما شيءٌ حتّى ذرّات الهواء.

ان تُحبّ يعني ان تُصلِح من نفسِك لتُصبِح لائقًا لحمل عبء المشاعر، ان تقتلِع روحك دون ان يُصيبُك الأسى وتضعها بين يدي حبيبك، ان تبكي من فرط الشوق لحبيبٍ لا يفصِلك عنهُ سوى شارِعان.

لقد شهِدتُ على كُلّ تلك المشاعر عندما اصبحتُ حلقة الوصل بينهُما حيث اغلق سيف هاتِفهُ وانتقل لبيت جديد لكي لا يتواصل مع ماريا؛ فبالفترة الأخيرة اصبحا كالزيت والنار ما ان يلتقيا لا يقاوِما رغباتهما المجنونة حيثُ انّ العِناق والقُبلات المحمومة اصبحت شيئًا طبيعيًّا بينهُما ووثيقة الحُب اوشكت على هتك كُلّ الأعراف والمحظورات واصبح الحلّ الأمثل هو الإبتعاد الى ان يُصبِح مؤهلًا للزواج منها اما عائلتي.

لم يكُن سيف فقيرًا ولكنّهُ يعيش عالةً على والديه اللذان دللاهُ منذُ طفولته لكونه الصبيّ الوحيد لهما، عاش سنوات حياته الخمس وعشرون وهو يعبث مع اصدقائه دون ايّ هدف الى ان عرِف ماريا التي سحرتهُ بمزيجٍ غريب من الجُرأة، الطفوليّة والذكاء، دون ادنى تعقيد ابتدأت علاقتهما واستمرّت لعامين في الخفاء قبل ان يتقدّم اليها رسميًّا وترفُضه بشدّة لأنّهُ اختفى فجأة واحرق قلبها برسالة هاتِفيّة باردة مفادها انّهُ سيعود قريبًا.

كنتُ خائفة اكثر من سيف لإنتهاء هذه العلاقة، فقد شعرتُ بأنها جُزءً منّي ولم اتمنّى سوى ان يتزوّجا لتكتمِل حكايتهُما الجميلة، كنتُُ اعلم ان أُختي تُحبّهُ بشدّة ولكن ابتعاده عنها بذلك الوقت ذنبًا عظيمًا لن تغفِرهُ بسهولة ومع كُلّ تلك التعقيدات تقدّم لها شاب آخر ووافقت عليه دون ان تُفكّر حينها تحوّل سيف الى شخص آخر، هاتفني عندما لم ترُدّ عليه واقسم ثلاثًا انّهُ سيقتُلها وينتحر اذا فكّرت بالارتباط بغيره.

فإضطررتُ ان أُساعِدهُ لينفرد بها بمركز التجميل الذي تمتلكه الخالة ماريا، وكُنتُ اعلم ان لقاء واحد بعد تلك الفترة من الفراق سيتكفّل بغُفران كُلّ شيء وبالرغم من عدم معرفتي بما جرى بينهُما الّا انّها اخبرتني لاحِقًا انّهُ ترجاها باكيًا ان ترفض الرجل المُتقدّم لخطبتها، واردفت بعد صمتٍ مُقدّس لذكرى تلك اللحظة:
- لم أكُن لأتزوّج غيره، كنتُ فقط اعاقبه على غيابه المُفاجئ ولكن دموعه اسرت بداخلي شعورًا لم اختبرهُ بحياتي، وهو اليقين بأنّهُ بالفِعل يُحبّني، السكينة التي ستُغلّف حياتي في كُلّ لحظة قادمة مُخبرةً إياي انّ كُل الصِعاب ستنتهي لأنهُ يحبني.

تزوّجا بعدها مُباشرةً دون ان يعلم احد ببداية حكايتهما سواي والخالة ماريا التي فرحت بزواجهما ايما فرح؛ فهما سيبقيا بجانبها الى الأبد بناءً على رغبة سيف الذي بنى لزوجته بيتًا بجانب بيتنا لتُصبِح قريبة من خالتها ماريا التي تُحبّهُما كأبنائها تماما.

بحياتي لم اشعُر بتلك المشاعر المُتضارِبة سوى بليلة زواجهما، اختلطت حينها سعادتي بتتويجهما زوجين امام الجميع مع تعاسة غريبة، تعاسة رميتُ فيها نفسي منذُ ان تزوّجتُك وقتلت كُلّ احلامي بالحُب، بحياتي لم اتمنّى الزواج برجُلٍ غنيّ، كنتُ دائمًا اتخيّل انني قد اتزوّج احد ابناء الحيّ او ابناء عمومتي، سأعيش في بيت صغير كبيتنا، سأُنجب الكثير من الأطفال وعندما يكبُرُ الصغارُ قليلًا سأكتشِف انني أُحبُّ زوجي دون ان انتبه، سيكونُ مرِحًا لطيفًا كأبي واكون حنونةً كأُمّي، لم اتمنّى الكثير لقد اردتُ فقط زوجًا يأخُذُ بيدي في درب الحُب الى ان نشيخ.

عندما عُدنا للبيت في ذلك اليوم تأملتُكَ طويلًا وطالعتني بدهشة، كنتُ ابحثُ بعيناك عن شيءٍ صغير قد يُخفف من حجم خيبتي، القليل فقط من لمعة العشق التي تسكُن عينا سيف عندما ينظُرُ لماريا، نظرة حُبٍ واحدة كانت لتمحوا كُلّ اوجاعي ولكنني لم اجد شيء، وجدتُ الإهتمام، المودّة، العطف، وجدتُ كُلّ شيء عدا الحُب.

خبأتُ وجهي بين يداي وبكيتُ طويلًا، بكيت تردُدي الدائم وعدم قُدرتي على البوح برغباتي، ليتني آمنتُ بالحُبّ وانتظرتهُ كماريّا ليتني لم اخشى المُجتمع والعادات والتقاليد، ليتني لم استغِلّ اوّل فُرصة لكي أُصبِح امام الجميع متزوّجة، ما الذي استفدتهُ عندما ركِبتُ قِطار الزواج ولم انتبه لقِطار الحُبّ الذي تأخّر قليلًا عن موعده وحمل أُختي على متنه؟! ليتني صبرت قليلًا، قليلًا فقط وكانت حياتي لتتغيّر الى الأبد.

ضحِكت يومها على مشاعري، عانقتني مُبتسِمًا واخبرتني انني اصبحتُ أكثر حساسيّة بسبب الحمل وعدلتُ عن قراري بالإعتراف بحُبّك واكتفيت بلقب أُم اطفالك الذي سأنالهُ عن قريب ورششتُ دموعي المالِحة على نيران قلبي المُتأجِجة فخمدت الى الأبد.

****
أعيشُ برفقتك وقلبّي بالضِفّة الأُخرى يطلِبُ الخلاص، يرغبُ بأن أُنقِذهُ ولكنني لم افعل! يتألم ولا استطيع علاج ندوبه العميقة؛ تلك التي بدأتَ تُشكلّها عندما افلتّ يدي وامسكت بسراج، عندما انتهت علاقتنا التي بدأت لتوّها في النُضج وظننتُ انّني قد وصلتُ الى قلبك اخيرًا ولكن تبيّن انني مُخطِئة؛ فكيف حالكِ غدت كيف حال سراج، ومساء الخير وصباح الخير تخُصّه وحده، واناملهُ الصغيرة غزت مكاني المُفضّل بين يديك، ولم تكتفيان بذلك بل اصبحت اكثر صرامة وحدّة معي مُنبّهًا إياي ان أكون أُمًّا جيّدة لطفلك.

زرعت بقلبي الخوف والقلق وشعور آخر اكثر إيلامًا من الحُب، ذلك الشعور الذي يُخبرني دائمًا انني لا اصلُح لرعاية طفل؛ انا التي كانت اقصى احلامي ان احصُل على طفلي الخاص، طفلي الذي سأُحبّه اكثر منك بقليل ولكن كُلّ ذلك تلاشى بكلماتٍ قليلةٍ منك، كلِمات لم تقصِد ان تؤذيني بها ولكنها قتلتني.

****

تكتُب وتكتُب دون ان تمحوا مرارة ايامها؛ فبدلًا عن ان يشفيها البوح من جروح قلبها تزدادُ وجعًا على حالتها، تركت عملها برفقة وليد بعد مأساتها الأخيرة انتهى بها الأمرُ ببيت عائلتها، بغُرفتها القديمة وحيدةً كما كانت من قبله، تحاول التأقلُم مع فكرة الابتعاد النهائي عن طارق ولكنها تفشل ببراعة، تتمنّى ان تستطيع النهوض مُجددًا وعيش حياتها القديمة دون ان يعيقها شيء ولكن ليست كُلّ الأُمنيات قيد التحقُق.

فها هي منذُ شهرين على خروجها من المشفى ترفضُ رؤية ايّ احد، تشعُرُ بالخجل من نفسها وما اوصلتهُ اياها حساسيتها المُفرطة واكتئآبها البغيض، ترى نظرات الشفقة من الجميع وتكرهُ نفسها اكثر لأنها تجهلُ ما حدث، آخر ما تذكُرهُ هو كتابة تلك العبارات بمُفكرتها لتستفيق وتجِدهُم يتهمونها بمُحاولة الانتحار، يدعون انها حقنت نفسها بجُرعة مُفرِطة من الدواء الذي اتضح انّهُ من الادوية النفسية والمُخدّرة التي تؤدي الى الإدمان.

بكت كثيرًا واخبرت طارق انها لن تُفكّر يومًا بإيذاء نفسها او على الأقل تخطّت مرحلة التفكير باللانتحار مع علاج منال ولكنهُ لم يُصدّق، صرخ بوجهها مُنفعِلًا:
- اتعلمين منذُ متى وانتِ بالمشفى! اتُدرِكين ما شعرتُ به امام الجميع عندما اخبرني الطبيب بكُلّ بساطة انّ زوجتي تتناول عقاقير مُخدّرة، بل وانّها افرطت بجُرعتها هذه المرّة وكادت ان تودي بحياتها!

دلف الجميع على صوت صراخه عليها وابعدوه عنها بالقوّة ليهتِف بقهر:
- هذا جزائي بعد كُلّ ما فعلتهُ لأجلك؟! هذه مُكافئتي على الحرص على سلامتكِ؟ تُريدين الموت دون ان تُفكّري للحظة بطفلكِ على الأقل! تُصرّين على تشويه سُمعتنا بأنانيتك الطفوليّة بسبب مشاعر غبيّة.
صمت وانفاسهُ تتعالى بشدّة، ينظُرُ اليها بعينان حمراوان اختلط بهما الخوف والغضب والخُذلان، لقد وضعتهُ بموقفٍ لم يتخيّلهُ بحياته:
- لقد جعلتِني ابدوا حقيرًا للغاية يا بيداء، الجميع ينظرون إليّ كما وانني السبب في وصولكِ لهذه الحالة، هل انتِ سعيدة الآن بنشر حياتِنا امام الجميع؟!

قالها وبقلبه وجع عظيم عليهما؛ فآخر ما تمنّاهُ ان يعرِف احدٌ ما تمُرُّ به من مُشكِلات، كان قد انهى كُلّ ما قد يُبعدهم بطلاقه من نهال، انفصل بأسرع وقت ليظلّ بجانبها ويطمئن على شفائها ولكنها خيّبت آماله.
خرج على الفور دون ان يسمع ايّ تبرير سخيف منها، فأي كلمة قد تنطقها بهذه اللحظة قد تُنهي حياتهُما.
ما لا تعرفهُ ان طارق يتحمّل ايّ شيء عدا ان يُقلِل احدهم من قدره او يهينه وهي بفعلتها ذلّتهُ امام الجميع واظهرت انّهُ فاشل في إدارة حياته لدرجة دفعت بإمرأته لمُحاولة الانتحار.


كان ذلك آخر لقاءٍ بينهُما فبعد ان تحسّنت حالتها قليلًا تمّ وضعها بمصحة لعِلاج الإدمان بالرغم من رفضها ونوبات بكائها الطويلة؛ فقد اثبتت التحاليل انها وصلت لمرحلة الإدمان ويجب ان تتخلّص من تلك لسموم قبل ان تودي بحياتها، ظلّت لمُدّة ستّة أشهُر بغُرفة مُغلقة، تبكي طالبةً دواءً قد يُخفِف ألم رأسها وحُرقة قلبها، تصرُخ وتشتِمُ وتنهشُ شعرها بيديها الى ان تسقُط فاقدةً للوعي، ينسلِخُ السُمّ عن جسدها آخِذًا معهُ صحّتها وحيويتها وكُلّ احلامها.

حاول الجميع زيارتها ولكنها ترفضُ رؤية احد ماعدا سراج الذي تأتي به حنين كُلّ اسبوعين، تشعرُ حينها فقط انها على قيد الحياة، تنتظرهُ بلهفة وترتدي ابتسامةً بالية تُخفي قِناع دموعها، يحتضِنها مُخبرًا إياها بشوقه العظيم لوجودها، يبكي قليلًا ويرفعُ كفيه الصغيرين الى السماء يدعوا الله ان تعود والدته الى المنزل كما علّمتهُ جدّته؛ يُسلّيها بحكاياه التي لا تنتهي وترى كم هي جاحدة لنعمة وجوده بحياتها، كيف كانت بتلك الانانيّة وهي تنسى كُلّ شيء في سبيل إرضاء قلبها وتُقسِمُ إن كُتِب لها عُمرًا بعد هذه العذاب ستفنيه في الاعتناء بسراج فوحدهُ من يُحبّها بصدق، وحدهُ من تثِق به وتتمنّى ان تُشفى لأجله فكُلّ من سواه ماتوا عندما رموها بهذا المكان، عندما لم يُصدّقوا انها بريئة.

مرّت بلحظات لن تتمنّى لأعدائها عيشها، قد يمُرّ يوم كامل وهي تصرُخ كالمجانين ولا يملِك الاطباء قُدرة على إعطائها ايّ دواء، وايامًا أُخرى تسكُن دون حِراك كالجُثة، وعندما تُفكّر بأن تغرِس اظافرها بعُنقِها الى ان تموت تُطِلُّ صورة سراج في مُخيّلتها، تتذكّرُ كُلّ لحظاتها معهُ منذُ ولادته، كُلّ بسمة وكُلّ دمعة سكبتها فرحًا وخوفًا عليه، اوّل خطوة واوّل كلمة واوّل ليلة ميلاد قضاها بدونها، لن تغفِر لهم تلك الليلة ابدًا ولن تنسى كيف قضى صغيرها ليلة عيد ميلاده الرابع، رفض الحفل وهاتفها طالبًا منها ان تخرُج من المشفى بسُرعة لتصنع لهُ حفلًا كما وعدته، وقتها لم تذكُر كيف انتهت ليلتها ولكنها افاقت باليوم التالي وقد جفّت دموعها تمامًا، اصبحت اكثر هدوء وقبول للعلاج لأنّ ما عايشتهُ بتلك الليلة قضى على كُلّ ما تبقّى منها.

- بيداء!
- نعم يا حنين.
قالتها بجمود فقد جفّت دموعها بالستة اشهُر الفائتة، جلست بجانبها وقالت بقلق:
- حسن سيجِنُّ من ما قالهُ لهُ والدكِ، لقد اقسم ان لا يسمح لكِ بالذهاب من المنزل، بحياتي لم اراهُ بهذا الغضب ارجوكِ اعيدي التفكير بقراركِ فإخوتكِ غير راضين عن ما تفعليه حتى والديك...
قاطعتها هامِسة ببرود:
- خائفة على حبيبكِ؟ لا تقلقي انا لن اكون سببًا بإنفصالكُما؛ طلاقي عن طارق لن يمِسُّ علاقتكِ بحسن.

- لا تُحادثيني بهذه الطريقة ارجوكِ.
هتفت حنين وهي تنهار باكية فهي الأكثر تأثُّرًا بما يحدُث؛ فقد تمزّقت اشلاءً بين صديقتها واخيها وزوجها، كُلّ منهم يقِف بناحية، تطلُب بيداء الانفصال ويرفض طارق، يُقسِمُ حسن بأن يُطلّقها منه ويعود ليمنعها من ترك بيت العائلة.
- اعتذِر، فأنا كما يقول اخيكِ مريضة نفسيًّا وقد افعل ايّ شيء.
عانقت صديقتها واضافت:
- إخبري حسن انني سأُغادر في الغد ولا يُمكنهُ منعي؛ انا سأستقِر بمنزلي الخاص برفقة ابني، سأعتني به دون مُساعدة من ايّ احد، واخيكِ سيُطلّقني قريبًا برضاه او رُغمًا عنه.

وبمكانٍ آخر كانت نهال تجلِسُ بمنزل والدها الذي الزمها عدم الخروج منه، تُتابِعُ اخبار بيداء بغضب؛ فقد بدأت خُطتها بالفشل، تلك الخُطّة التي بدأت بتنفيذها قبل معرفة مرض بيداء، منذُ ان دخلت حياتهم واحبّت طارق ارادت إبعادها ولكن ببُطء دون ان يشُكّ بها احد، اصبحت تضع لها مُخدّر بكمّيات قليلة وبمرور الزمن تزداد الكميّة، تضعها الخادمة بكوب الشاي الصباحي دون ان ينتبه لها احد وكان الهدف الأساسي ان تحثّها على الإدمان وتفضحها امام طارق ليُطلقها وتبقى هي الوحيدة بحياته .

ولكن عندما تشاجرت معها ذلك اليوم وعلِمت بأن طارق باح بسرّها ارادت ان تنتقِم منه وتقتُلها؛ فهي تدرك مدى حُبّه لها لذا حقنتها ذلك اليوم بجُرعة زائدة من دواء الإكتئآب الذي عرِفت إصابتها به ليبدوا الأمر وكأنها تنتحر، كانت الكمية كافية لقتلها ما ان يحلّ الصباح ولكن عودة طارق المُفاجأة وإسعافه لها خرّب كُلّ شيء ولكن لا بأس فهما الآن سينفصلا وبصورةٍ او بأُخرى ستكون قد حققت غايتها، وفراقهما عادلًا للغاية هكذا سيُصبح طارق وحيدًا كما تمنّت ولن تحزن لفراقه بما انّهُ ليس لإمرأةٍ أخرى.

لم تكُن تدري انّ ثمّة من يُصدّق بيداء ويعلم انّ احدهم خطط لإيذائها، فبمُجرّد التركيز على التقرير الطبّي سيكشِف الأمر؛ فالأدوية المُترسّبة بدماء بيداء هي مُخدرات مشهورة يتعاطاها الشباب وليست من نوع ادوية الإكتئآب التي حُقِنت بها لاحِقًا ايّ انّ احدهم وضع لها المُخدرات بصورة دورية فهي قد تُفرِط بتناول ادويتها ولكنها قطعًا لن تبتاع مُخدّر لتُدمِن.

بعد تفكير طويل توصّلت منال الى احتماليّة ولكنها يجب ان تتأكد اولًا، لن تتوانى في كشف الحقيقة حتّى بعد مرور اكثر من ستّة اشهُر، ستحرص على مُعاقبة من جنى على بيداء المسكينة ولن تسمح لها بالانفصال عن طارق.

.
.

لا تُصدّق الى الآن انّها امتلكت منزلها الخاص، فرحة عظيمة تغمرها وهي تدلِفُ برفقة ابنها لذلك البيت الصغير، صحيح انّهُ ليس بفخامة منزل طارق الّا انها ستحرص على ان يحظى فيه سراج بكُلّ مقومات الحياة التي تعوّد عليها؛ فقد إدخرت تلك النقود منذُ بداية عملها الأول حيث وضعتها بأحد البنوك كوديعة لتأمين حياة ابنها الّا انها قررت ان تستخدمها لبدء حياتهما الجديدة، ابتاعت منها هذا البيت وستفتتح مكتبًا للإستِشارات الهندسية؛ ستحظى اخيرًا بعملها الخاص.

المنزل بمساحة صغيرة مكوّنة من غُرفتين وصالة ومطبخ متواضع، صغيرًا بحجم أحلامها البسيطة، كافيًا لأُم وطفل والكثير من السعادة، جلست على الاريكة المُقابلة للتلفاز ولم تستطِع منع الحُزن على دموع عائلتها، تعلم انّها قست عليهم كثيرًا ولكن يجب ان تبتعِد لتنسى كُلّ شيء ويمكنها حينها ان تُصلِح علاقتها بهم، يؤلمها رفض حسن توديعها او التحدُّث اليها بعد ان تلقّى تحذيرًا من والدها بعدم التعرُّض لها وتركها تتصرّف كما تشاء ولكنها موقنة بأنّ قلبه الطيّب لن يزيد من قسوته نحوها.
- سراج، اين انتَ يا فتى؟
نهضت لتفقد ابنها وتفاجأت بوجوده امام الباب المفتوح وهمست بتفاجؤ:
- وليد!


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

الفصل القادم هو الأخير.
انتظر آرأكم.

مع حبي ❤❤❤

فايا
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي