الفصل الثاني

‏لكلِ قلبٍ إذا ما حجَّ وجهتهُ ..
لا تسأل الناس تفسيرًا لما اعتنقوا
*** مقتبس ***

يبدوا الأمر وكأنما اطفو بداخل احد الحكايا الخيالية؛ انسُجُ ابطالًا لا وجود لهم واستمع لأحاديثهم الدائرة بداخلي كما وانّ روحي مسرحًا عتيقًا اقِفُ هُناك على عتبته وأُشاهد ما يحدُث بتسلية، ابدوا للعيان هادئة غير مُحِبّة للكلام ولا يعلم احدٌ ان بداخلي مهرجانات، هؤلاء الاصدقاء الخياليين كانوا خير مُعينٍ لي اثناء سيري الطويل ذهابًا وايابًا من الجامعة، فبصحبتهم يبدوا الطريق التُرابي المليئ بالحُفر والقاذورات غابةً خضراء جميلة تسيرُ فيها الأميرة الحسناء التي هي انا ولم ارى يومًا ان تفكيري ساذجًا بالرغم من انّهُ كذلك في نظر الجميع الّا انّني سعيدة بتلك الوحدة.

مرّ الأسبوع الأول وقد تعرفتُ فيه على صديقةٍ واحدة هي تلك الفتاة التي جلست بجانبي اوّل يوم، نهال التي تبلغُ من العُمر ثمانية عشر عامًا، لا اعرِفُ عنها الكثير ولكنها مميزة، يبدوا جليًّا انها ذات شخصيّة قوية، انيقة المظهر، مُلفتةً دون تصنُّع، عيناها واسعتان وحادتان كنسور الصحارى ولكن بداخلهما حُزن غريب لا يستطيعُ استشفافهُ سوى خبيرًا بقراءة العيون مثلي، فمنذُ طفولتي يخبرني ابي ان العين مرآة الروح فمهما بدى مظهرنا جميلًا لا يظهرُ على اعيُننا سوى ما نُخبئهُ عميقًا عن الجميع، حيث بقايا الكلام، وذلك الحديث الذي لم نبُح به.

دومًا ما تمنيتُ ان اجد من يرى ما بداخلي، من يُخبرني من انا، اتوق لرؤية انعكاس روحي، عندما أُفكّر بذلك الأمر ارى انّ من سيُمعن النظر بداخلي سيجدُ انني لست سوى شجرة نيم كبيرة، خضراء يانعة ذات جذور عميقة وجذع ضخم، فما ان تُعانق الأرض وتبرُزُ اولى شجيراتها الخضراء لن يستطع ان كائن بالدُنيا اقتلاعها، تنمو وتنمو غير مُباليةً بصيف او شتاءٍ او خريف، ومهما بُترت اطرافها تعود خضراء بعنادٍ غريب، وهذه انا، اصمُد وصمُد ولا انكسر.

.
.

بيوم الجُمعة، عقب انقضاء صلاة الظُهر واثناء تناولنا للقهوة بالعريشه المصنوعة من القش والتي قُمت برش رمالها الحمراء بالمياه ليتعطر جوّها برائحة التُربة الرطبة، دلف حسن بمظهرٍ لن انساهُ بحياتي، فقد خفق قلبي برُعب ما ان لمحتُ ذلك الألم الذي نُقِش على ملامحه، وادركتُ انّهُ ثمة شيء كبير للغاية؛ فعندما حاولنا التحدُّث اليه صرخ بجنون:
- لا شيء! لا شيء!
واحترق بداخله كُلّ شيء.

فبعد لحظات قليلة جلجلت اصوات الزغاريد بالمنزل المجاور وجاء الخبر الصاعق، لقد تزوجت شهد، ابنة الجيران، تلك الفتاة التي تربّت معنا بذات الحارة لا يفصلنا سوى حائط مُتشقق، حبيبة أخي وصديقتي، حبيبة حسن الذي يعلمُ كُلّ سُكان الحارة بعشقه لها، والتي فعل المُستحيل ليؤمن مستلزمات زواجه منها، رباه فليكُن مُجرد كابوس! غيمةً سوداء ستزول بعد دقائق! ولكنها لم تكُن.

ركضتُ الى الغُرفة التي دلف اليها منذُ مجيئه، ولمحتهُ هناك، صامت سوى من اصداء تكسُّر قلبه التي اكادُ أُقسِمُ بسماعها، هادئ بتحكُّمٍ رجوليّ يُحسدُ عليه ولكن صوته المُتحشرج خانه عندما همس لي بخفوت:
- اجلبي لي ماء، ماء بارد يا بيداء.
جلبتها لهُ ليرتشف منها ببرود ورشق الكثير منها على وجهه لتتساقط على وجنتيه مصحوبةً بدموع رجُلٍ عاشق، دموعًا خجلت ان تسقُط من قبل ولكن جُرح الحُبّ مؤلمٌ للغاية، وكأنما يُمضغُ القلب بأسنان الحقيقة الحادّة.

تراجعتُ وانا امسحُ دموعي لأعود واجلس بجانب والديّ واخوتي وما ان ربتت والدتي على رأسي بمواساة حتى غرقتُ بنحيبٍ خافت ولم يستغرب احدُهُم بُكائي فحسن بالنسبة لي أكثر من مُجرد أخ، اراهُ الأب الثاني والحبيب والصديق.
- لماذا فعلتي ذلك يا شهد؟! لماذا؟!
تسائلتُ بحسرة ليُجيبني ايمن بحنقٍ يُخفي حُزنه:
- المال يفعل اكثر من ذلك يا عزيزتي، انتِ لا تعرفي من تزوّجت.
- من؟!
قالتها ماريا بانزعاج ليُجيبها والدي:
- أُسامة زوج المعلمة.
هُنا انتفضت ماريا هاتفة بجنون:
- زوج خالتي ماريا؟!

اومأ ابي بحُزن واتسعت أعيُننا بذهول، واوّل ردّة فعل كانت من ماريا التي وبسُرعةٍ غريبة وضعت ثوبها على رأسها وركضت لمنزل شهد، وعندما لحقنا بها كانت العروس تصرُخُ بشدّة وماريا أُختي تسحبها من شعرها مُطلِقةً عليها كُلّ سِباب الحارات القذِرة؛ والى الآن لا يُصدّقُ احدٌ منا ما يحدُث، كيف لشهد ان ترتبط بزوج المرأة التي تعتبرها كإبنتها، المعلمة ماريا او الخالة ماريا كما يروق لكُلّ اطفال القرية مناداتها استطاعت ان تنفِذ الى قلوبنا منذُ اوّل لحظاتٍ لها بهذا المكان، وشيئًا فشيئًا كبُرنا وكبُر معنا حُبّها العظيم لكُلّ ابناء الحارة وكأنهم اطفالها الذين لم يمنحها اللهُ فُرصةً لإنجابهم، كيف حدث وتمّت هذه الخيانة العظيمة؟!

كنتُ انظُرُ للشجار العنيف بشرود مُدركةً ان لا احد باستطاعته التغلُّب على أُختي الغاضبة واخذتُ أُفكّر بقرف بماهيّة ما يسمونهُ البعض حُبًّا ويرمِزُ لهُ الآخرون بالرغبة، الانتشاء، السعادة، او الشهوات، لا يُهم، كيف لتلك المشاعر الهادرة ان تقود المرء الى هذا الحضيض؟! وكيف باتت حكايا الحُبّ الذي ينتصِرُ على مصاعب الحياة مُجرّد افكار لروايات عاطفيّة ساذجة، لأُدرِك في تلك اللحظة وصورة حسن والخالة ماريا تمُرُّ بين عيني، ان ما يسمونهُ الحُب مُجرد عقرب قاتلة تختبئُ خلف ثوب حرير ما ان نرتديه حتى نموت ببُطء.

عن ألم الحُبّ قالوا: كما وأنّ الروح نصف باقية، والقلب ينتفِضُ مُحتضِرًا ولم يمُت.

.
.

تبقى يومان على زواج شهد حيثُ ستُقام حفلة صغيرة بناءً على رغبة اهلها وستذهبُ للعيش برفقة أُسامة بمنزلٍ مُنفرد بعيدًا عن حارتنا، وقد علمنا بعد ذلك ان الخالة ماريا موافقة على زواجه وهي من طلبت منه ان يتزوج ويكون لديه اطفال يحملون اسمهُ ولكنها صُدمت باختياره اكثر من الجميع وما صدمها اكثر هو موافقة شهد على الزواج، منذُ طفولتها لم تطأ قدماها الأرض، دومًا ما حلّقت بأحلامها بعيدًا، حيث الزوج الغني الذي سينتشلها من فقرها وكُنتُ لغبائي ارى انها مُجرد مزحات منها فهي تملِكُ ما لا تملكهُ فتاةً بقريتها، تمتلكُ قلب اخي الحبيب ولكن يبدوا ان قلبه بدى رخيصًا امام منزل وسيارة وثياب راقية.

كنتُ اسيرُ برفقة نهال الى المقصف وقد تبقى لدينا ساعة للمُحاضرة الثانية شاردة بالتفكير بحالة حسن عندما التقيتُ بمن بسببه تغير كُلّ شيءٍ بحياتي، كان لقاءً ترتب عليه كُلّ ما حدث بحياتي بعدها، اصطدمتُ بفتاة يبدوا ان مزاجها ليس على ما يُرام فعندما اعتذرتُ اليها ومددتُ اليها الدفتر الذي سقط عند اصطدامنا تفاجأت بصُراخها عليّ بحدّة:
- كيف لكِ ان تدفعينني بهذه الطريقة؟! الا تعلمين كيف تسيرين بطريقٍ مُنتظم ام انّكِ عمياء؟!

اخفيتُ دهشتي من ردّة فعلها المُبالغ بها وعندما همّت نهال بالردّ عليها اشرتُ اليها بأن لا تتحدث ومنحت مُحدثتي التي استشففت شخصيتها الطفولية من اوّل لحظة، منحتها نظرة تقول ماريا انها اكثر نظراتي استفزازًا ولم اترفّع بالرد عليها مُغادرةً برفقة نهال وتركناها تُرعِد وتُزبد وقد تجمع حولها اصدقائها في محاولة لجعلها تهدأ لكي لا تُصاب بسكتة قلبية، وقد كان هذا اوّل لقاءٍ بيني وبين حنين والتي هي الآن من اقرب الأشخاص اليّ.

.
.

وضعت مذكرتها على الطاولة القريبة من فراشها واغلقت الأضواء لتنام بعُمق في محاولة للهروب من كُلّ ما يحدُث، فقد قررت اخيرًا ان تكتُب كُلّ تلك الذكريات وتتخلّص منها كما اخبرتها الطبيبة فحينها فقط ستستطيع التفكير بما تُريد وما ستؤول اليه حالتها.

طنين اجهزة المشفى وروائح الادوية المختلطة برطوبة الهواء وقُبلةً دافئة على عينيها جعلتها تأن بتعب.
- لا يا الهي! لا ارغبُ برؤيته الآن، ليس وانا بهذه الحالة!
همست بداخلها بذُعر وعيناها مُغمضتان بشدّة وشفتاهُ هناك، على جفنها المُطبق بنعاس، حنينٌ احمق يجتاحها لرائحته، ملامحه، عيناه الحنونتان، وكلماته الصارمة، كُلّ شيء، كُلّ شيء! ولكن بجانب ذلك الشوق ثمّة ألم عظيم، كشوكةٍ غُرِست بمُنتصف قلبها، سقطت الدموع من حدقتاها المُغمضتين بالتزامُن مع زفرةٍ من اقصى اعماق قلبه، نظرت اليه بتشوّش فمسح دمعته اليتيمة وتحوّلت ملامحهُ الى صرامته المعهودة وقال:
- سنعودُ الى بيتنا.
ثلاث كلمات القى بها على ملامحها وغادر بهدوء.

- كِدنا نجِنُّ يا بيداء عندما صرخت والدتي ذلك اليوم، وجدناكِ فاقدةً للوعي وظننا للحظةٍ اننا فقدناك الى الأبد، لماذا تفعلي ذلك بنفسكِ يا عزيزتي؟!
قالتها زوجة حسن بينما زجرتها ماريا وهي تحتضنها هامسةً بحنان:
- المُهم انّكِ بخير وكُلّ شيء سيتحسّن.

تبادل الجميعُ زيارتها، والديها، اخوتها وزوجاتهم، وصديقاتها، ولم يزُرها هو بعد زيارته الأولى ويبدوا انّهُ لن يفعل، فمن هي ليهتمّ بها؟! هذا ما ظنّتهُ طوال الاسبوع الذي مكثت فيه بالمشفى غير مُدرِكة بأنّهُ لم يُغادر المشفى منذُ مرضها؛ كُلّ ساعة وكُلّ دقيقة قضاها بجانب غُرفتها دون ان يسمح لها بأن تلمح تلك اللهفة المُطلّة من قلبه، ولكن اليوم هو موعد اللقاء المُنتظر.

خرجت ماريا مُتحججة بمُكالمة هاتفية ووجدتهُ بإنتظارها؛ لم يكُن بينهما ودًّا مُتبادل خاصّة بعد ما حدث بحياة بيداء بسببه ولكن ذلك لم يُلغي كونه زوج أُختها وبرضى الجميع هو سيصطحبها اليوم لمنزلها، سمحت لهُ بالدخول وانتظرت لترى ما سيحدُث، بينما دلف هو ليجدها تربط ثوبها على خصرها، ترفعهُ بتعب ليُغطي خُصلات شعرها المُتقصفة من فرط الأهمال، قامتها الفارعة غدت هشّةً كعودٍ يابس؛ وأد تلك المشاعر سريعًا عندما التقت نظراتهما ليقول:
- سنعود الى بيتنا، هيا بنا.
حقًّا؟! زِدتَ كلمتان على الثلاث السابقة؟!
قالتها بداخلها وترجمتها نظرتها الصفراء وبهدوءٍ لم يتوقعهُ كلاهُما اجابت:
- هيا بنا.

.
.

- حبيبي!
قالتها وقد تلقفت الصغير الذي ارتمى بين ذراعيها ما ان دلفت للسيارة، اوجع وجنتيها تقبيلًا ويداهُ تعتقلان عُنقها بحُب مُرحبًا بها بكُلّ الأناشيد التي حفظها بالروضة، وقهقهت هي بخفوت ما ان صمت الصغيرُ فجأةً وتأكدت بأنّ ابيه قد جلس بجانبه، حتى الطفل الصغير بات يعرِفُ طبع والده الحاد، خبأ سراج وجهه بين ذراعي والدته برفض عندما امره ابيه بالجلوس بالمقعد الخلفي فأجابتهُ بيداء برفض:
- دعه بجانبي.

بدى التحدّي جليًّا بنظراتها ليُضيف:
- كما تشائين.
لأجل الورد يُحتملُ ألم الشوك.
- سأحتمل هذا الجفاء، لأجل عيناكِ يا عزيزتي، سأحتمل.
وصلا الى المنزل اخيرًا، اربعة أشهُر مرّت كأسوأ شهور  حياتها، كيف لا وها هي ذكريات ذلك اليوم المشؤوم تمرُّ بذاكرتها، شِجارهما العنيف، صفعته القاسية، وعينا تلك المرأة التي خطفت منها زوجها.

- تذكري انّكِ الأولى والباقية في حياته، لن تترُكي لها زوجكِ، إياكِ ان تكوني مثلي، انا في الماضي كانت لي اسبابي ولكنكِ أُمّ ابنه وحبيبته، ضعي هذا الحديث برأسكِ يا ابنتي.
حديث الخالة ماريا جعلها تنفِضُ ضعفها بعيدًا، دلفت امامه بثقة وحمل هو ابنه وتبعها لتستقبلهُما حنين بسعادة وتنزِلُ عن الدرج المُصيبة الكُبرى، نهال! الزوجة الثانية، صديقتها التي سرقت زوجها.

- مرحبًا عزيزتي بيداء! كيف حالكِ؟!
تطلّب الأمرُ من بيداء الكثير من القوّة والجُهد لتُحافظ على برودها بينما حملت حنين سراج الصغير لغُرفته واصبح الجوّ مشدودًا بتواجُد الزوجتين وزوجهما؛ انهت بيداء الحوار قبل بدايته وابتعدت متوجهةً لغُرفتها ولكن نهال قالت من خلفها بحُزنٍ مُصطنع:
- اخبروني انّكِ فقدتِ جنينك، حزِنتُ للغاية لأجلكِ.
تشبّثت بطرف الدرج بشدّة وقد بهتت ملامحها بألم ولكن ما قالتهُ نهال بعدها هو ما سمّرها مكانها:
- استريحي انت يا عزيزتي؛ فأنا احمِلُ طفلهُ الثاني.

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

ما علاقة حنين ببيداء؟!
ولماذا ستتزوّج نهال زوج بيداء؟!
هل سينسى حسن حُبّ شهد؟!
وماذا سيحدُث مع شهد عقِب الزواج؟!
هذا واكثر سنعرفهُ بالفصول القادمة

مع حُبّي❤❤

فايا
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي