الفصل الرابع

من الصعب الفكاك من الحب  انه يمضغ قلبي بأسنانه  وأشعر أن روحي عالقة بين فكيه
*****مقتبس****

شاهدها تقِفُ امامهُ بعد ثوانٍ معدودة، تلتقِطُ انفاسها بصعوبة وعيناها تتفحصهُ بقلق، تُحاوِلُ صوغ جُملة مُفيدة وتخونها الكلمات، تتدفّق الدموع حارّةً على وجنتيها وتفشلُ كُلّ محاولات كبحها؛ ستنتحِبُ الآن وهو لن يتحمّل هذا الأمر لذا نهض عن الأريكة بتعب ليجدها تسندهُ تلقائيًا وقبل ان تسألهُ عن ايّ شيء قال لها وقد بدأ يشعُر بالانهاك الشديد:
- لنصعد الى الغُرفة في الحال؛ فلا يجب ان أُقلق جدّتي او اخوتي.

اطاعتهُ بصمت وبخطواتٍ ثقيلة اصطحبتهُ لغُرفتها ووساعدتهُ على الاستلقاء، تحسست الضمادة الكبيرة على صدره وارتجفت شفتيها ببُكاءٍ مكتوم، مررت يداها على وجهه وعُنقه واضافت باختناق:
- حرارتك ترتفع؛ يجب ان نذهب الى المشفى.
- كنتُ بالمشفى منذُ مساء الأمس، لقد تم استخراج الرصاصه ولم يعُد هنالك خطر على حياتي، سأنام قليلًا وأُصبِحُ بخير، اعطيني فقط دوائي، انهُ بالأسفل.

سارعت بجلب الدواء وساعدتهُ على تناوله ليُضيف وقد هدأت آلامه قليلًا وبدأ المُسكن بتخديره:
- ابقي هنا، ولا تُخبري جدّتي.
- حسنًا، لن اخبر احد فقط استريح.
ابتسم وصوت دعائها المُختلط بالبكاء يأتيه بوضوح الى ان غرق بالنوم.

كان طارق يعمل بالشُرطة ولكن طوال فترة زواجهم التي قاربت للستّ اعوام لم يُصاب سوى اصابات طفيفة؛ فقد عُرِف عنهُ الحذر الشديد والدقّة في العمل ولكن هذه المرّة يبدوا جليًّا انّهُ لم يكُن بكامل تركيزه، رُبما هي السبب بخلافاتها معه.

ازداد بكائها عندما ظنّت للحظة انها السبب بما حدث له، فكيف لها ان تحيا اذا اصابهُ مكروه؟! بكت وبكت الى ان حلّ الصباح ولم يغمض جفنها، تخاف ان يسوء حاله ولا تكُن بجانبه، خوف عظيم عصف بها اثناء مُراقبتها له؛ فيبدوا انها وطئت ارض الحُبّ منذُ فترةٍ طويلة، ذلك الحُب الذي اقسمت ان لا تمنحهُ الاذن لإيلامها من جديد ها هو يجتاح جدران قلبها مُمزّقًا كُلّ الحصون.

اعوامًا طويلة قضتها برفقة طارق وآثرت فيها ان تكون مُجرّد زوجة، تهتم به، تحترمه، تُربّي اطفالهُ دون ان يمسّ نبضةً من قلبها ولكن حدث ذلك دون ارادتها، متى وكيف ولماذا لا تدري، المُصيبة انّها الآن تُحبّهُ، بالرغم من حدّة طباعه وقلبه المُصمد، بالرغم من خيانته لها، تخافُ بشدّة ان تخسره وبذات الوقت لا تستطيع مُسامحته على ما مضى.

نهضت لتغسل وجهها علّها تُخفف من احتراق عينيها وعندما طالعت وجهها لمحتهُ يسكُن بداخل حدقتيها، هو وحُبّه المُكلل بالخوف والحيرة والدموع.
طرقات باب غُرفتها جعلتها تُسرع لتفتح الباب وهي تمسحُ وجهها، وجدت جدتها تقِفُ امامها قائلةً بقلق:
- ليس من عادتكِ التأخُر الى هذا الوقت، اشرقت الشمس منذُ بضعة ساعات.

كادت ان تدلف ولكنها وجدت بيداء تنظُر الى الداخل بارتباك، ولمحت حفيدها نائمًا فرسمت ابتسامةً ماكرةً وهي تقول:
- لقد ظننتُ انّكِ بمُفردكِ ولكن يبدوا انني مُخطئة، متى اتى طارق.
- مساء الأمس.
اجابت ووجنتاها تشتعلان بحياء؛ فيبدوا انّ الجدّة تُفكّر بشيءٍ آخر.
- حسنٌ يا عزيزتي، اغلقي باب غُرفتكِ جيّدًا وعودي الى النوم.
غادرت لتزفِر بيداء براحة وتهمِسُ بيأس:
- احلامكِ بعيدةٌ للغاية يا جدّتي؛ فحفيدكِ لم يترُك لي فُرصةً لفتح صفحة جديدة، لقد دمّر كُلّ الأوراق.

انتصف اليوم ولا زال نائمًا، بدأت الشعور بالقلق عليه؛ فعلى الأقل يجب ان يتناول دوائه، اضطرت لمحاولة ايقاظه لتطمئن انّهُ بخير، فأخذت تهمِسُ بصوتٍ مسموع بجانب أُذُنيه:
- طارق! انهض من فضلك! هل تسمعني يا حبيبي!
قالت كلمتها الأخيرة بعفويّة ولقلقها لم تلحظها الّا انّهُ سمعها بوضوح، ولاحظ تحشرُج صوتها ففتح عينيه مُهمهِمًا بتعب مُصطنع ليُشاكسها قليلًا فوجد وجهها امامه مُنحنيةً اليه وخُصلاتها تسقُطُ على وجهه.

قرّبت أُذُنها علّها تفهم ما يقول مرّت ثوانٍ وبدأت عينيها بالاتساع، وقلبها بالخفقان وقد ذابت كُلّيًا من كلماته القليلة لدرجة انّها ابتعدت فجأةً وهي تكتُم شهقات دهشتها وابتلع هو ضحكةً كادت ان تفضحه، وعاد لإغماض عينيه مُمثِلًا دور المريض الذي يهذي، يُراقبها بعينان نصف مُغمضتان تقترب لتنظُر اليه وتعود للابتعاد بخوف، وعذرها لردّة فعلها المُضحِكة فبحياته لم يبُح لها بأيّ مشاعر وفكّر بأنّهُ بحاجة لبضع رصاصات ليستطيع اخراج ما اختبأ بقلبه.

لاحظ انها بدأت تهدأ ولكنها ابتعدت عنه جالسةً بالاريكة البعيدة فقرر النهوض لشعوره بالجوع، ناظر حوله باستكشاف وحاول النهوض ليجدها تقتربُ منهُ هامسةً بلهفة:
- انتَ بخير؟ هل تشعُر بتحسُن ام ان هنالك بعض الألم؟!
- لا بأس، الآن انا بأفضل حال فقط اريدُ تناول الكثير والكثير من الطعام.

اجابها وعيناهُ لم تكُفّ عن مُراقبتها لتقول وقد ظهرت الراحةُ في صوتها:
- سأصنعُ لك كُلّ ما تشتهي، فقط استرح ولا تحاول النهوض.
التقت نظراتهما للحظةٍ وكعادة طبعه المُترفّع لم يستطع ان يشكُرها على كُلّ ما تفعلهُ لأجله ولم تنتظِر هي منهُ ايّ شيء، يكفي انّهُ بخير لأجل ابنه على الأقل.

في مساء ذات اليوم، شعرت بيداء بإنهاكٍ عظيم خاصّة وانّها لم تجلس طوال اليوم، بين طارق وابنه واوامرهما المُرهِقة، واخيرًا ناما بعد جدالٍ طويل ووصلة بكاء لعدم رغبة سراج بترك والده، جلست على الاريكة المقابلة لهُما واضعةً يدها على ظهرها وهي تفكّر بأن طفل واحد يُتعبها بهذه الصورة ماذا إن انجبت لهُ اخًا آخر! وراح تفكيرها رُغما عنها لحالتها قبل شهران عندما فقدت جنينها، لقد عرِفت بأنها تحمِلُ طفلًا آخر منه عقِب زواجه عليها وعودتها لمنزل اهلها، طوّقها حينها الألم والصدمة والعذاب الى ان اختنقت تلك النُطفة الصغيرة وفارقت الحياة.

مسحت دموعها موقنةً بأن هذا الطفل ليس من نصيبها، فكُلّ شيء يحدُث بسبب، فقد كان قلبها ولا زال مُمتلِئًا بالإيمان العميق والثقة بأنّ الله سيضعها في المكان المُناسب وسيستجيب لدعوتها اليتيمة- ان تحصُل على الراحة- الراحة بعد هذا العناء الذي يغمُرها منذُ مولدها؛ ستبقى تدعوا لآخر رمقٍ بروحها علّ دعوتها تدلِفُ ابواب السماوات.

تذكّرت بأنها لم تذهب لزيارة الطبيبة فأرسلت لها رسالة اعتذار واخبرتها بأن تُأجل موعد جلستها القادمة بضعة ايام، وما ان قرأت الطبيبة رسالتها حتى هاتفتها قائلة بقلق:
- ما الأمر يا بيداء، هل كُلّ شيء بخير؟! اقلقتِني للغاية.
- انا بخير يا منال، ولكن طارق أُصيب بطلق ناري واضطررتُ للبقاء معه.

اجابت طبيبتها التي تعتبرها بمثابة أُختها الكُبرى فقالت منال بنزق:
- واين حبيبة قلبه الحقيرة لماذا لا تعتني به.
- هي لا تعلم بوجوده بالمنزل، لقد اجبرني على عدم اخبار ايّ احد منهم لكي لا يقلقوا عليه.
صمتت منال تاركةً المجال لمُحدثتها بالحديث فيبدوا انها بحاجة للبوح، قالت بيداء وهي تخرُج من الغُرفة وتتوجه لغُرفة سراج:
- لقد شعرتُ بأنني سأموت إن اصابهُ مكروه، خِفتُ عليه كثيرًا، ابدوا بائسة وعديمة كرامة أليس كذلك؟!

- لا يا عزيزتي لستِ كذلك؛ فخوفكِ عليه طبيعي لأنهُ زوجكِ وحبيبكِ.
- لا أُحبّهُ.
هتفت بها بانفعال دفع منال للابتسام قائلة بهدوء:
- بيداء انا اعلمُ تمامًا ما تُعانين منه الآن ولكن يجِبُ عليكِ الاعتراف بهذا الحُب لأنهُ وحدهُ ما سيمنحكِ القُدرة لاسترجاع طارق.
- ولكنني لا أُحبّه، رُبما تعودت عليه بحُكم سنوات زواجنا ولكنهُ لم يدلِف لقلبي ابدًا؛ لأنهُ لا يرغب بذلك، بحياته لم يُعاملني كحبيبة، كنتُ دومًا الزوجة، وأُم الطفل فحسب.

قالتها بضيق وعيناها تنطِقُ بالحُزن، وقاسمتها منال الأسف بتنهيدةٍ عميقة لتقول:
- اعتذر يا منال يبدوا انني ازعجتُكِ بمشاكلي.
- اولًا انا طبيبة وهذا واجبي وثانيًا يا عزيزتي انا اعتبِرُكِ ابنتي الروحية فبالله عليكِ لا داعي لهذه الدراما.
ابتسمت بيداء بإمتنان وقالت:
- لقد ارتحتُ للغاية بعد التحدُّث اليكِ، صِدقًا لا اعلمُ كيف لتكون حالتي لو لم اعرفكِ.

ضحكت منال قائلةً بخجل:
- لا تُحرِجينني يا فتاة فأنا لا اعرفُ الردّ على هذا الحديث الجميل، على العموم بعد يومان سأذهب لمركز "جوليانا" واريدُ ان التقيكِ هُناك.
- حسنًا سنلتقي بإذن الله.
وقبل ان تُغلق الهاتف قالت لها منال بصِدق:
- انتِ زوجة رائعة وأُم مثالية وحبيبة تستحق كُلّ ما هو جميل، ضعي هذه الكلمات دومًا برأسكِ.
ورددت خلفها:
- انا الضياء، انا الورد، انا الشمس، انا البيداء.
اغلقت هاتفها مُبتسمة وغفت بأملٍ جديد.

في صباح اليوم التالي قرر طارق تناول الافطار مع عائلته فبيوم العُطلة جميعهُم يجتمعون بمنزله، ترجّل بمُساعدة بيداء وما ان لمحهُ اخيه الأكبر حتى اقترب منه هاتفًا بقلق:
- ما الأمر يا طارق؟!
- لا شيء يا قاسم، انها اصابة بسيطة.
اجاب اخيه الذي تقدّم ليساعده على الجلوس مُتفحّصًا اياهُ بخوف حقيقي ليُردِف:
- أُقسمُ انني بخير.

- الى متى ستظلُّ بهذا العمل الخطير، اخبرتُك مِرارًا بأن العمل بحقل الشُرطة قد يقضي عليك، اترُكه وتعال لتعمل معي بالتجارة؛ لن تحتاج لشهادة فقط القليل من ذكائك العظيم ستُصبِحُ غنيّ.
ضحِكت بيداء وشاركها طارق الضحِك على الكلمات التي يرددها قاسم على مسامعه كُلّ يوم ليتأفف الأخير هاتِفًا بضيق:
- وانتِ بدلًا عن اثنائه عن هذا العمل توافقيه؟! صِدقًا تليقان ببعضكُما البعض.

تجمدت الابتسامة على وجه بيداء وهي تلمحُ نهال تدلف وكالعادة وجهها مُمتلئ بالزينة وثيابها تنطِقُ بشخصيتها الجريئة، عبس قاسم بوجهها بوضوح ونهض وتبعتهُ بيداء ليجلسان على الاريكة البعيدة وتفاجأت حينها بقول قاسم:
- لا أعلمُ كيف فقد اخي عقلهُ وتزوّّج هذه الفتاة، لا تقلقي يا بيداء فأنا اكثر من يعرفه؛ ثمّة خطأ بالأمر؛ فطارق بحياته لم يكُن مُندفع، حتى قبل زواجه منكِ لم يخُض علاقات نسائية، رُبما هي من خططت لكُلّ شيء، هل تحدثتي معهُ حول الأمر؟!

اجابتهُ وعيناها معهما:
- لم اسألهُ عن ايّ شيء، لقد اراد التحدُّث ولكنني رفضت؛ فماذا سيُفيد الأمر؟! لقد تزوجها وانتهى الأمر واصبح بينهما طفل.
قال قاسم ببساطة:
- الأطفال لا يربطون الرجُل بالمرأة كما يظُنّ الجميع، فإذا شاء الرجُل سيبتعد ولو لديه مئآت الاطفال، انا اعتبركِ كحنين تمامًا، فما لا ارضاهُ لها لا ارضاهُ لكِ بالمُقابل لذا أنصحُكِ بأن لا تسمحي لها بالتوغُل اكثر بحياته؛ فأنتِ وسراج فقط أُسرته.
- شُكرًا لك يا قاسم، انا سأبقى فقط ليحظى سراج بحنان هذه العائلة ولأنكم بالنسبة لي اكثر من اهل ابني، انتم اخوتي وعائلتي الثانية.

****

ذات يوم؛ عقِب صلاة العشاء، كان الهواءُ صافيًا والقمرُ يتدلّى كقلادة على عُنق السماء، وفي ذلك الفناء الخالي سوى من سجادة كبيرة جلسنا سويًا، ماريّا كالعادة تضعُ رأسها على حِجر والدتي كطفلةٍ شقيّة، تتقرفصُ بقلبها آخذةً حصّة الحُبّ الأكبر نظرًا لأنها آخر العنقود او "ملح البيت" كما تقول أُمي، يجلِسُ ابي بجانبهما ومسبحته لا تُفارق يده اليُمنى واليُسرى تُربّتُ على ظهر والدتي طالبًا من ماريا النهوض عن قدمي أُمّها وترفضُ هي بدلال.

يتأمّلُ حسن السماء بصمت وبعينيه لمعة دمعٍ او نعاس لا ادري، فقد سمِع بخبر حمل شهد بعد ان حاولنا اخفائهُ حفاظًا على مشاعره ولكن ليس باليد حيلة؛ فبالنهاية الفتاة قد اختارت طريقها ولا يُمكنهُ فعل شيءٍ حيال الأمر، ايمن يعبثُ بالهاتف الحديث الذي جلبهُ مؤخرًا من عمله الجديد وها هي رائحة الحليب المُعتّق بالشاي تجتاحُ رئتاي، حضّرته وقدمتهُ اليهم، جلستُ برفقتهم على الأرض، السماءُ تعانقنا والأرض تحتوينا، سويًّا دائما كعائلة واحدة.

- هل سمِعتُم بدياب ابن الخالة زينب.
قالها حسن وقد خرج اخيرًا من شروده فأجابت ماريا وهي تعتدل بجلستها:
- قالوا انّهُ جاء بصخور كثيرة من الذهب أليس كذلك؟
- ليس الكثير منها ولكن على الأرجح حجارة ذهبيّة ستجعلهُ يعيش حياة رائعة اذا استثمرها بمشروع جيّد.

قال ايمن وشاركهُ والدي الرأي وبدأوا بالحديث عن الارض التي ساورها عطفٌ على المساكين فقررت ان تمنحهم هديّة سيفوز بها من يملك الجُرأة للبحث، في الصحراء الشماليّة بالبلاد تمّ استكشاف كميّة هائلة من عنصر الذهب واصبح الشباب الذين لا يملِكون سوى اياديهم يحفرون بحثا عن الكنز، منهم من يجده كدياب ومنهم من يموت تحت مناجم الذهب.

بين مؤيد ومُعارض لهذه المُخاطرة قال حسن بحزم:
- انا سأذهبُ مع دياب، سيعود مرّةً أُخرى للبحث.
- بالتأكيد لن تفعلها!
قلتها لهُ بحدّة ووافقتني والدتي ولكنهُ قال ببساطة:
- سأذهب، انا فقط أُطلِعكم على الأمر.
وادركتُ من نبرته انّهُ لن يتراجع؛ لتُسطّر تلك الليلة اهم قرارات حسن او بالأحرى القرار الذي اثّر على حياتنا جميعًا.

فعلها وغادر بعد ايام من هذا الحوار لنمُرّ بأسوأ ليالي حياتنا؛ فبعد ان وصل لآخر منطقة مأهولة بالسُكًان انقطع آخر ما قد يربطنا به بانقطاع شبكة الهاتف وكان عليهم السير الى منتصف الصحراء القاحلة حاملين القليل من الماء والطعام والكثير من الأمل والخوف.

****

اغلقت الدفتر بهدوء وتفاجأت بدموعها التي انهمرت لتذكُرها لتلك اللحظات فوضعت كفّيها على قلبها مُتمتمةً براحة:
- حمدًا لله انّهُ بخير.
وابتسمت وهي تتأمّلُ صورتهُ التي تضعها على مكتبها برفقة بقيّة العائلة؛ يحمِلُ ابنتهُ الصغيرة الأحبُّ الى قلبها.
هاتفتهُ وتحدثا لبعض الوقت وقد اشتاقت كثيرًا لأحاديثه ونصائحه، وعدتهُ بزيارة قريبة وهي بالفعل بحاجة لرؤية والديها والجلوس مع اخوتها كما كانوا في الماضي.

بتردُد طرقت باب غرفته التي ينفردُ فيها منذُ بضعة اسابيع ؛ فقد بدى جليًّا رفضها القاطع لأيّ مُصالحة بينهُما ولم يحتاج هو للكلمات لمعرفة نفورها منه فانسحب بهدوء وعاد ذلك الفراغ بينهُما.
- تفضّل.
- مرحبًا.
التفت اليها مشدوهًا، اتت اليه بقدميها، ببساطتها، بثوبها البيتيّ الطفوليّ، بشعرها الفوضويّ الباهت، ودون ادنى تصنُّع زعزعت كُلّ قوته التي ادعاها بالفترة السابقة لتجاهُلها.

- مرحبًا، هل تُريدين شيء؟!
رُبما على احدهم ضربه على رأسه ليكُفّ عن التحدُّث بلهجة ضُباط الشُرطة معها.
- أُريدُ ان أُخبرك انني سأعود الى العمل.
قالتها ببرود وقد بدى ان كُلّ ذلك الارتباك الذي شعرت به قد خمد امام لامُبالاته الغريبة، رفعت عيناها اليه لتجدهُ يراقبها بنظرةٍ مربِكة، نظرة بدت قصيرة ولكنها اجتاحتها بشدّة.

- ألم تستقيلي عن العمل؟!
تقدّم خطوتان وتراجعت خطوة:
- لقد قدمت اوراقي لشركة أُخرى ونلت الموافقة.
- اين مقر عملكِ الجديد؟
لفحتها انفاسه القويّة المُختلطة بنكهة السجائر وعلكة النعنع، اغلقت عينيها واجابت:
- قُرب مكان عملي السابق، على بُعد شارعين.

ستّة اعوام برفقته ولم ترتبك لوجوده كما تفعل اليوم، رُبما لأنّ هذه المرّة مُختلفة بالنسبة لها، فبهذه اللحظة مرّت كلماتهُ بين أُذُنيها، سكبت وعاء قلبها فتناثر حنينٌ أحمق.
"بيداء يا حبيبتي، لا تترُكيني، أُحبُّكِ" قالها وهو يهذي بفراش المرض ومُتأكّدة تمامًا انّهُ لم يكُن ليقُلها في هذه اللحظة؛ فالحُبّ بالنسبة لهُ ضعفًا وطارق خُلِق ليكون قويًّا.

احدى يداهُ القويّتان تمُرّان على ظهرها، بلمساتٍ حنونة وهمجيّة مثله تمامًا، يقربها لصدره هاتِفًا بشوق:
- أُريدكِ يا بيداء! لا يُمكنكِ ان تحرمينني من حقّي فيكِ.
ربّاه كم كسرت قلبها هذه الكلمات! كانت سترتمي بين ذراعيه طواعية دون شعور بالذُل او الامتهان، لو فقط قالها بلهجةٍ أُخرى لو فقط زيّن رغبته بالقليل من الحُب، ولكنها الآن ستموت بعين ذاتها إن اقترب منها.
- وانا لا أُريدُكَ يا طارق! لا أُريدك.

.
.

بأحد الشركات الهندسيّة المرموقة، وتحديدًا بمكتب المُدير التنفيذي للشركة دلف أحد الموظفين قائلًا:
- طلبتني سيّدي.
اشار وليد للموظف المسؤول عن ارسال نتائج قبول الوظائف قائلًا:
- هل ارسلتُم الموافقة على تعيين المُهندسة بيداء محمد.
- نعم، لقد ارسلت على بريدها الألكتروني.
اجاب الموظف ليُردِف:
- أُريد ملفّها.

بدت الحيرة في ملامح الموظف الذي اطاع مديره وجلب الملف ليقول وليد مُبررًا اهتمامه:
- بيداء كانت طالبتي قبل اعوام، وقد كانت طالبة مميزة جدًّا لذلك يجب ان تكون بمكانها المناسب بشركتنا.
غادر الموظف وتأمّل هو صورتها المُلتقطة حديثًا وجمرة الحُبّ القديم تمرُّ عليها هبوبٌ الحاضر لتُشعلها من جديد.
- آهٍ يا بيداء كم اشتقتُ اليكِ...

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

كيف ستتعامل بيداء مع طارق؟!
ومماذا تتعالج؟
وهل سيؤثر ظهور وليد في حياتها؟!
هذا واكثر في الفصول القادمة

مع حُبّي❤❤❤

فايا
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي