الفصل العاشر

في نصف ليل الروح تنطلق الفراشة من سراديب العقيق
في رأسها تاج من الذهب القديم، يقودها حلم ببستان الحريق
جلبابها البلور يلمع في الظلام بلا بريق
       ****مقتبس****

- اردتُ ان اكون اوّل زائرٍ لكم.
قالها وهو يمدُّ اليها يدهُ مُصافِحًا واضاف بلُطف:
- هذه هديّة بسيطة بمناسبة البيت الجديد.
اخذتها منهُ وشكرتهُ ولا زالا امام الباب؛ وقد فهم هو تردُدها ليقول:
- انا سأُغادر، اردتُ فقط ان اتمنّى لكِ بدايةً سعيدة.
- تفضّل ارجوك، سأصنعُ قهوة ونتحدّث قليلًا.
حسمت امرها وهي مُدرِكة انّ وليد ليس شخصًا قد تخاف منه خاصّة وانّهُ ساعدها كثيرًا منذُ خروجها من المشفى.

رفض هو الدخول مُتحجِجًا بالعمل ووعدها ان يأتي مرّة أُخرى لزيارتها، عادت برفقة سراج الى الداخل ليفتحا الهديّة بفضول، كانت لوحةً متوسّطة الحجم بها اسم بيداء بخطّ عربي مُزخرف.
ابتسمت بسعادة وبداخلها شعور بالاسى تجاه وليد الذي يتقرّب منها بصورة واضحة واحتياجها لوجوده بقُربها في هذه الفترة بالذات لأجل العمل، هو لم يتزوّج الى الآن ويبدوا انّهُ يرغبُ بها ولكن هذا لن يحدُث وقلبها مُتعلّقٌ بطارق، يجب ان تحادثهُ بهذا الأمر لكي لا يظُنّ انّها تستغلّه.

قضّت بقيّة اليوم في توضيب اشيائها بمساعدة حنين وماريا اللتان جائتا لزيارتها بعد بضعة ساعات، وكان لوجودهما اثرًا عميقًا بقلبها فقد ادركت انّها لم تفقدهُما بحماقتها الأخيرة وقسوتها، حنين التي خالفت عناد حسن واتت لصديقتها شعرت بخسارة اخيها لإمرأةٍ مثل بيداء وادركت ان الحياة ستمنحها فُرصة للسعادة لأنها تستحقُّ ذلك، يكفي انّها ملاكًا يجمعُ الأحبّاء، لقد منحتها مفاتيح قلب حسن وجعلتها تُسعدهُ بعد سنواتٍ من العذاب، اهدتها عائلة مُحِبّة وأُمًّا لم تحظى بحنانها ولكنها وقعت بين يدي اخيها الصارِم عديم القلب وما اسوأهُ من حظّ.

.
.

لقد عاشت بمُجتمعٍ يعتبر المرأة مفعولٌ به، يتم تربيتها بصرامة، حمايتها ككنز، تغطيتها كسِلعة مسروقة وتدريبها لتُصبِح الزوجة المثالية دون ان تستطيع إبداء ايّ رأي، كُلّ ما عليها ان تظلّ منصوبة القامة دائمًا فإذا انكسرت لا يمكن لأحدٍ ترميمها وسيؤول اللوم على الفاعل وهم اهلها بالطبع لذلك لا يُمكنها ان تُخفي خوفها من هذه الليلة؛ فلأوّل مرّة بحياتها تنامُ بمنزِلٍ لا يحرُسهُ رجال.

لقد تعوّدت على ان تشعُر بالأمان بسببهم، ان تستنِد عليهم بأصغر امور حياتها، وبالرغم من كونها امرأة مثقفة ومهندسة مرموقة الّا ان العوز الانثوي لوجود رجُل بحياتها سِمة خُلِقت بها كما حال جميع النِساء وسيكون من الصعب عليها مُمارسة دور الأُمّ العازبة بهكذا مجتمع، فهو سيضعها في خانة الممنوعات ما ان تنال لقب مُطلّقة، سيُشهِر عليها الرغبات الحيوانيّة للرِجال وسيتعين عليها حينها ان تُربّي مخالبها للحفاظ على نفسها قبل ان ينهشوها بلا رحمة.

الجيد بالأمر انّها تعلم تمامًا ما ستواجهه ولكنها ليست مؤهلة للدفاع عن نفسها؛ فها هي الآن ترتعِبُ خوفًا بالرغم من إغلاقها لكُلّ الأبواب وتأكُدها من ذلك اكثر من مرّة ولكن قلبها يأبى ان يكُفّ عن القلق، تواسي نفسها بوجود سراج غير مُدرِكة انّ والده يقِفُ بالخارج لحمايتها.

كما كان دومًا يفعل كُلّ شيءٍ في الخفاء؛ يخاف عليها ويهتم لأمرها بل ولا يغمض جفنه الّا بعد الاطمئنان عليها دون عِلمها، يكرهُ قول ذلك ولكنّهُ نادمٌ للغاية لكُلّ كلِمة قالها في لحظة غضب وبذات الوقت خوفه من بيداء الجديدة يمنعهُ من ملاقاتها؛ فعقِب خروجها من المصحة لم تعُد تلك الضعيفة الباكية، غدت اكثر صلابةً وقسوة، لقد نجح بقتل الحُبّ والعطف بداخلها وصنع منها أُخرى تشبههُ.

تشبه طارق القديم الذي تزوجها بناءً على رغبة جدّته، تزوج الفتاة الطيبة التي مدحتها أُخته دون ادنى رغبة بالرفض لتكُفّ جدته عن طلبها الدائم برؤية ابنائه، سيتزوّج ويُنجب ابناء ويُريح رأسه وقلبها، ولكن اليوم وهو يقِفُ على عتبة بابها لا يرى ذلك الرجُل اللامُبالي القاسي، يرى آخر بقلبٍ يكاد ينفطر لشدّة رقّته، يرى حُبًّه وليد الفراق يجلس بجانبه ليواسيه فقدها، نعم حُبّه، ذلك الحُبّ الذي كفر به طويلًا اصبح اليوم ناسِكًا بمحرابه واقصى رغباته ان تسمح لقلبه المُتعب ان يستريح بداخلها من اوجاعه.

اصبح الليلُ عدوهُ الأكبر الذي يجلدهُ بسياط الذكريات المُرّة في كُلّ ليلةٍ يضعُ فيها رأسهُ على وسادتها الخالية، ينهشُ بقايا عطرها بأنفاسٍ لاهِثة ويقضي ساعات الظلام بين اشيائها، ثوبها البيتيّ المُفضّل الذي يترهّل على جسدها النحيل، طلاء اظافرها الورديّ الذي لم تستخدمه من قبل، زيت شعرها ذو الرائحة العطريّة النفّاذة وقلادتها التي تحوي حُبيبات الكمّون الأسود الواقية من الحسد.

كُلّ شيء بمكانه كما تركتهُ قبل اشهُرٍ طويلة؛ فلم تعُد الى البيت عقب تلك الليلة التي لم تُفارق مخيلتهُ وقد فقد طعم الحياة بعدها، كان يومها قد ذهب والد نهال الذي يعتبرهُ كأبيه تمامًا فزواجه لم يكُن سوى ردًّا لجميل هذا الرجُل الذي دعمهُ منذُ بدء عمله والذي تربطهُ به علاقة اقوى من ايّ تضحية.

لقد علم الرجل عن طريق الصُدفة بأنّ ابنته -التي طلّق والدتها من سنواتٍ طويلة واكتفى بالإعتناء بها مادّيًا-  على علاقة غير شرعيّة مع شاب اخذ منها ما يريد واعِدًا إياها بالزواج لتكتشِف بعدها مُغادرته للبلاد، جائت يومها الى ابيها باكيةً واخبرتهُ بوقاحة فعلتها وبصعوبةٍ بالغة استطاع تخليصها من بين يدي ابيها الذي كاد ان يُمزقها.

وبعد ايام من التفكير قرر ان يجد احد ليزوّجها اياه درءً للفضيحة ولم يكُن ليثِق بأحد اكثر منه خاصّة وان الأمر يمسُّ شرف ابنته الوحيدة، وافق طارق دون تردُد الى ان يجِد ابيها حلّا لموضوع الطفل الذي لن يُنسب لطارق وهو لم يكُن يدري انّ بيداء ونهال صديقتين بل تفاجأ بالأمر بتلك الليلة التي اخذ فيها نهال لتبقى امام عينيه الى ان يهدأ والدها، شهِد يومها جنون بيداء وصفعها لأوّل مرّة بحياتهما.

عاد لواقعه مُتنهّدًا بيأس يكرهُ لحظات جنونه التي لا يُفرّقُ فيها بين افعاله، تحرّكت قدماهُ دون استئذانه ليطُرق على بابها
- لم تكُن يومًا جبانًا يا طارق! يجب ان تراها وتُنهي الأمر.
همس لنفسه بيأس وتراجع في آخر لحظة ليقول:
- ليس اليوم، لا تفسد اول لياليها.
وتراجع ليبقى امام المنزل الى ان حل الصباح وغادر لعمله.

.
.

مرّت بضعة ايام على حياتها الجديدة، تعلّمت فيها ان تستمتِع بكُلّ لحظة وتصفع قلبها بقسوة عندما يُذكر اسمه على مسامعها، تخنق بيداء القديمة التي تظهرُ في كُلّ مساء عندما تضعُ رأسها على الوسادة، تقتُلها بوحشيّة وتكبحُ كُلّ نبضةٍ تثور حُزنًا عليها وعندما يأتي الصباح ترتدي ثوب القوّة وتستقبل الحياة ببسمة تحدّي.

استقبلت زيارة عائلتها بسعادة لتُطمئنهُم على حالها وقضت بقيّة الأيام تُجهز لعملها الجديد بمُساعدة وليد؛ الذي زارها اكثر من مرّة بالمشفى وارسل لها رسائل مفادها انّهُ لا يُريد شيء سوى مُساعدتها وانها ستجِدهُ بقُربها ما ان تحتاجه وكان هو افضل شخص ليُساعدها في فكرة العمل لذا استعانت به ووجدتهُ كما كان في الماضي طيّب القلب ومُحب لمُساعدة الغير.

كانت تستعِد للخروج لجلب بعض المُستلزمات من المتجر المجاور قبل عودة سراج من الروضة لتسمع فجأة طرقات على بابها تزامنت مع انقباض شديد بقلبها وكأنها عرِفت من بالخارج، فتحت الباب بهدوء لتجدهُ امامها بعد قرابة التسعة اشهُر فقد رفضت ان تراهُ منذُ تلك الليلة التي صرخ فيها بوجهها، ارادت ان تحتفِظ بما تبقّى ذكريات حسنة بينهما ولكنها قطعًا لم تتوقّع ان تراهُ بهذه الحالة، يبدوا كجذع شجرةٍ مُتآكِل، كورقةٍ صفراء باهتة خدشتها الرياح.

لم تستطِع ان تطالعهُ لأكثر من لحظة كانت كافية لخرق مشاعرها البالية، اهتزّت حدقتيها بتأثُر وانعقد لسانها بجُبن ليأتيها صوتهُ مُغرقًا بالألم والدهشة والسعادة:
- بيداء!
للتوّ فقط ادرك معنى تلك المُعضلة الكبيرة، انّهُ غارقٌ بالحُبّ إلى أُذُنيه ورؤيتها اليوم بثّت فيه الحياة بعد ان اوشك على الموت، نظرة صغيرة خبت بها كُلّ احزانه.

دلف بضعة خطوات واغلق الباب خلفه دون إذنٍ منها؛ فمن هي لتمنعه؟! من هي لتُقاوم شوق اشهُرٍ من الفراق؟! من هي؟...
ابتعدت على الفور وتبعها ليجلس بجانبها بأحد الأرائك لتقول بعد صمتٍ قصير:
- سراج ليس بالمنزل يمكنك زيارته بوقت لاحق.
رمقها بنظرة طويلة دون ليّ كلمة، نظرة غسلت زينة وجهها الزائفة واعادتها بيداء القديمة تلك العاشقة الحمقاء، نظرة التهمت انفاسها وخفقات قلبها وحشرتها عنوةً بداخله.

امسك بيدها بحرص ونثر عليها قُبُلات الشوق المخللة بهمسٍ دامع:
- اشتقتُ اليكِ.
يكررها والألم يتضاعف بداخله، يخفِقُ قلبها بتواتُرٍ شديد، يتعرُقُ جبينها بانفِعال، تتحكّمُ بارتعاشها بصعوبة، تحاول الإفلات من قبضته دون فائدة.
اللعنة على الشوق! وألف لعنةٍ على الحُبّ!
قبّل جبينها بحرارة واجبرها على مواجهة عينيه هامِسًا كمن صاحبهُ الخمر:
- بيداء، بي داء! اتعلمين كيف أُشفى منه؟ كيف أُشفى منكِ؟! انا اكادُ أجنّ.

- ابتعد عنّي.
هذا كُلّ ما استطاعت البوح به وهي تُغمِضُ عيناها لتنسلّ الدموع من بينها، تشعُرُ بأنّ الصمود الذي ادعتهُ طويلًا ينهار بلحظةٍ واحدة بينما يرغبُ هو بأن يقتُلها ويدفن رفاتها بداخله لشدّة الحنين، مرّ وقتٌ طويل على آخر مرّة يراها بهذا القُرب، الآن هو لا يحلُم، يراها بحق ولن يصحوا ليجد انّهُ غفى بجانب ثوبها، اتسعت عيناهُ بشدّة واستوعب اخيرًا انّها هنا!

ولن تشفيه رؤيتها فقط؛ بل إن قُبلات المُحبّين منذُ بدء الخليقة لن تصِف لحظةً واحدة من لياليه من دونها، اخذ يتلمّس وجهها كضريرٍ يكتشِفُ خبايا الطريق، بشرود وحُزن وعيون مُثقلة بالدموع يضعُ اناملهُ على عيناها التي لم تُبارح احلامه بنظراتها الحزينة الآسِرة.

اعتذر مرارًا وهو الذي لا يأسفُ على شيء، ترجاها بقلبٍ يحتضِر ولكنّها رفضت ايّ بادرة صُلح؛ فحتّى إن لم تستطِع كُرهه لن تغفِر تركه لها وحيدةً بين جُدران المشفى المُغلقة، قسوة حديثه واتهامه لها بتشويه حياته لا زالت باقية بداخلها كأثر جُرحٍ لن يزول.

وحياتها معهُ باتت مُستحيلًا؛ لأنها إذا عادت اليه لن يتغيّر شيء، سيبقى قلبها مُتعلّقًا به كما كانت ولن يهتم، سيلازمها الشعور بالنقص ولن ترى يومًا انّها تستحِقُّ البقاء معه، ستنامُ كُلّ ليلة خائفةً بأن يأتي الصباح بإمرأة أُخرى كنهال تشاركها فيه وهي لم تعُد قادِرة على تحمُّل هذا العذاب.

- لقد خُلِق بداخلي هذا أولًا
اشارت الى قلبها واضافت:
- عاش هذا القلب طفولته بامتياز، تخبّط كثيرًا دون ان يدري ما الصواب وما الخطأ، بكى، غفى، وبرزت اسنانه لينهش روحي دون رحمة، واخيرًا استفاق هذا من نومه الطويل.
اشارت الى عقلها وعيناها تلتمِعُ بما يشبه الدمع:
- استفاق قبل موتي بقليل ليُهذّب قلبي ويمنحني فُرصة للنجاة، من المُستحيل ان اضيعها.

- ولكنني أُحبُّك.
قالها ببساطة، بعنفوانه المُعتاد واقتران حاجبيه بضيق، ابتسمت حينها بالرغم من نيران قلبها المُشتعِلة وقالت:
- وانا ايضًا أفعل.
ارتسمت الحيرةُ على ملامحه عندما اضافت:
- ولأعترف اكثر، حُبّك لن يُغادرني ابدًا مهما حاولت، سأظلُّ دائمًا مُعلّقةً بك كخيط طائرة ورقيّة وسأعيشُ تعيسةً للغاية بغيابك ولكنّهُ خياري، انا ارغبُ بأن اتحرر منك بإرادتي، سأسيرُ نحو النهاية وانا ابتسم لأنني اخيرًا وجدتُ نفسي حتى لو كان الثمنُ خسارتك.

- لن اترُككِ.
افلتت يده، تشبّث بقلبها، عانقها بوجع الشوق، خوفًا من لحظة الفراق هاتفًا بأنّهُ لن يترُكها بعد ان وجدها، لن يجعل حُبّهُما يتلاشى وهدهدته هي بحنان وروحها تذوب:
- اعتذر عن حُبّ جعلكَ بهذا الحُزن، اعتذِرُ عن كُلّ جُرح يسكن فؤادك، عن تعب قلبك، انهيار راحتك، نحول جسدك.
مسحت على ظهره واضافت بعذاب:
- ارجوك لا تؤلمني اكثر.

- انا غبّي ولا استحقُّكِ ولكنني احتاجُكِ بقُربي، لقد تعلمت الدرس ولن اسمح لكِ بأن تهجُريني، يكفينا عذاب الفترة الماضية.
اراحت صوته الحزين بقُبلةٍ هادئة علّها تُلهي قلبها الذي بدأ بالاستسلام قبل ان يسقُط تحت قدميه عائدًا لحلقةِ العذاب اللامُنتهي ولسان حالها يقول:
- أُحبُّك ولن أُنكِر ولكن قلبك لا يخفق، وجهك لا يبتسم، عيناك لا تلمع وانا لن استطيع البقاء بقُربِك اكثر.

- هل ستُحقق أُمنيتي الأخيرة؟
اومأ بصمت لتهمِس بجانب أُذُنيه بنبرةٍ مُهلكة بالحُب:
- اريدُ ان امضي معكَ هذا اليوم، دون عِتاب او ألم، ارغبُ بأن يحتفِظ سراج بآخر ذكرى قد تجمعنا سويّا وعندما يكبُر يفهم اننا لسنا اعداء، نحنُ فقط احببنا بعضنا بالوقت الضائع.
كاد ان يصُرخ ويهتِفُ رافِضًا ان يُحررها من سجنه ولكن يبدوا انّها غدت اقوى منه، لقد انتزعتهُ من حياتها بالفعل وستجِدُ الأفضل بعيدًا عنه.

خسارتهُ مُخزية والحُبُّ يقرصُ أُذُنه مُعاقِبا، يختلِطُ القهر بالندم والانهزام في مزيجٍ بمرارة الحنظل يتجرّعهُ كصغيرٍ مُجبرٍ على الدواء، ينهارُ الوجه الصارم الذي يرتديه وابتسامتها الرقيقة تذبحُ آخر آماله، تمُرُّ الدقائق سريعًا بلحظاتٍ لم يتخيل ان يعيشها برفقتها، يتبعها كتائهٍ لا يعرِفُ بالدُنيا سواها اثناء ذهابهما للسوق ويعودان ليُساعدها بتزيين الصالة الصغيرة قبل مجيئ سراج؛ فهي ستُعدُّ له حفلًا صغيرًا لعيد مولده الذي لم تحضره.

يُشاهدها ويمسحُ دموعهُ سِرًّا، يسمعُ احاديثها المُبهِجة المُشبعة بالحنان وهي تصنع كعكة الميلاد، تبدوا رقيقة للغاية كغُصنٍ اخضر، جميلة بإسمرار بشرتها ووزنها الضئيل وعيناها المُجهدة، جميلة لأنها مرآةً لروحها النقيّة التي لا تعرفُ الكراهية، جميلة لأنها حبيبته وأُم ابنه.

- أُحبُّكِ.
انّها المرّة الثانية والعشرون منذُ ان جلس بجانبها بالمطبخ، تلتقطها من شفتيه وتُخبأها اسفل خُصلات شعرها الكثيفة لتنثُرها مساءً على وسادتها ما ان يغيب، تُربّيها كقِطّ مُشاكس يُسلّي وحدة ايامها، تستقبلها بلهفةٍ وابتسامة وترُدّها اليه بقطعة حلوى، كوب شاي او فوح بخور.

يعود الصغير بوجهٍ عابس وحقيبتهُ الصغيرة على ظهره، يتذمّرُ بانزعاج من حرارة الشمس قبل ان يفتح والده الباب لاستقباله، يقولون دائمًا ان الأبن مرآة أُمّه والبنتُ وجه أبيها ولكن سراج حمل كُلّ صفات والده واهدته أُمّهُ عيناها السوداء الواسِعة رُبما لذلك كلاهُما مُغرمٌ بهذا الصبيّ وبعد الفراق لن تنسى بيداء طارق ولديها منهُ نُسخة صغيرة.

تلك الفرحة التي غمرتهُ ما ان وجدهما معًا أحدثت شرخًا عظيمًا بداخلها ولكن وقت التراجُع قد انتهى، حرصت ان تكون تلك الليلة اجمل ما حدث بحياة سراج، ضحِكا معهُ ولعِبا واطعماه حُبّ الوالدين الى ان غفى مُبتسِمًا وبدأ الوقتُ بالنفاذ.

ليلة بطعم الحُبّ الخالص واحاديثٌ طويلة، عيونٌ تتهرّبُ من توثيق الذكريات وايادٍ ترفضُ الابتعاد، راودتهُ عن احزانه وسرقتها بعيدًا ورسمت البسمة على وجهه رغم بكاء القلب، سألها بتردُد:
- هل ستتزوّجين وليد؟
- لازال حُبُّكَ صغيرًا على فهمي، لن تعلم معنى ان يُحبُّك احدهُم الى الموت.
لم يفهمها او ادّعى ذلك وهو يلّحُ عليها بإجابة صريحة لتهتِف متذمّرة:
- لن اتزوّج ايّ احد يا طارق.
واسرّت بقيّة الإجابة بداخلها:
- انتَ تكفيني ولو لم يربطنا شيء.

تثائبت وهي تلتقِطُ دفترها واشارت اليه لينام ولكنّهُ بقي مُستلقيًا بجانبها يُطالع بطنها بشرود، يتمنّى ان تُثمِر هذه الليلة عن طفلٍ آخرٍ منها وحينها ستُعيد التفكير في طلب الطلاق، بينما سقطت دمعتان على كلماتها واغلقت الدفتر لتندسّ بين ذراعيه وتشاركهُ دموع الفراق الى ان استغرقا في النوم وبأولى لحظات الصباح استيقظ طارق ليجد انها مُمسكة بكفّه ويبدوا جسدها بارِدًا.

ابتسم بسعادة وقال بصوتٍ عالٍ:
- بيداء! انا آسف ولكنني لن افي بوعدي، لن أُطلّقكِ الليلة دعينا نبقى لبضعة ايام رُبما يتغيّرُ رأيكِ؛ فيدك ترفض البعد.
لم يجِد منها ردًّا وكيف سترُدُّ وروحها قد عانقت السماء قبل بضعة ساعات! لم تنتحِر ولم تكُن مريضة ولكن تخثّر الحُبُّ على قلبها فأوقفه، لقد ماتت وعلى شفتيها ابتسامة وعينيها مُخضّبة بالدموع، ماتت وهي زوجتهُ كما تمنّت بآخر لحظاتٍ بحياتها.

حملها مازِحًا وشعر بثِقل جسدٍ بلا روح، حاول كثيرًا ان يُنهي ذلك المقلب السخيف ولكنها لم تستجِب اليه، ركض بها الى المشفى واخبر اخيه قاسم لأنهُ اوشك على الانهيار؛ وصل الجميع الى المشفى ليجدوه يصرُخ بجنون غير مُصدّقٍ انّها توفيت.

.
.
احتفظت منال بالحقيقة لنفسها دون ان تزيد اوجاع طارق وكانت ردّة فعل نهال غريبةً للغاية فقد بكت كمن فقد عزيزًا؛ قد صفعها موت بيداء لتستفيق من تأثير الحقد وتجد آثار ما فعلتهُ بحياة الآخرين، لقد كانت السبب بموت اوّل صديقة تتعرّف عليها، تلك الصديقة التي كادت ان تجعلها فتاةً صالحة ولكنها ابتعدت بآخر لحظة وبعد سنواتٍ طويلة وضعهما القدرُ باختبارٍ صعب ليكون طارق مُنقذها وزوج بيداء التي تكرهها لنيلها كُلّ ما تعتبرهُ هي حُلُمًا بعيدا، العائلة، النجاح، الزوج والابناء كُلّ شيء نالتهُ وهي الى الآن تقِفُ بذات المكان، فتاة وحيدة بائسة غارِقة بالخطايا.

- ها قد تحقق حُلمكِ وماتت، ماذا حدث لكِ؟ هل تشعُرين بالسعادة؟ هل فتحت لكِ الحياةُ ابوابها وستعيشين براحة؟
تسائلت وهي تتأمّل جُدران غُرفتها المُغلقة كسجنٍ وبابها موصدٌ من الخارج محبوسةً كبهيمة الى ان يأتي من يشتريها بعقد زواج ويُخلّص والدها من همّها.
قهقهت بأسف الى ان تساقطت دموعها لترثي نفسها قبل بيداء وتؤمن بأنّها ماتت منذُ وقتٍ طويل دون ان يُقام لها مأتما.

.
.

الفتاة الصغيرة ذات العيون الحزينة التي تزوجها صُدفةً لم تعُد هُنا، المرأة التي عوّضتهُ فقد والديه راحت دون ان يودعها، وضعها بنفسه على قبرها والقى قلبه مع التُراب الذي انهال على جسدها النحيل.
بكى طويلًا وهو يهتِفُ بهم:
- رويدًا رويدا! لا تكتموا قبرها، لا تظلموه عليها.
دفنوها، صلّى عليها وبقي هناك يُربّتُ على شاهد قبرها وكأنها يلمِسُ خُصلات شعرها الحبيبة، يشِمُّ بقايا عطرها بثيابه ليبقى وحيدًا كشطر قصيدةٍ قديمة.
نظر الى دفترها، قرأ آخر ما خطّت وبكى.

- حُبُّك لي كربيع البلاد الذي لا يأتي سوى ليلةً واحدة، وعشقي كشمسٍ لا تعرِفُ الغروب، فمك مشغولٌ بالصمت وشفاهي مطليّةٌ بالكلام، سأظلُّ دائمًا أُغنيةً تُحبُّ سماعها بينما انتَ قلمي الذي اكتُب به وانا امرأةٌ من ورق، عيناكَ إحدى آيات الله ووجهي عُملةً حديدةً رخيصة، انتَ طارق بينما انا بيداء وبالبيداءُ دومًا الموت.
أُحبُّك
قليلة الحظ، بيداء.

تمّت بحمد الله.


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

شكرا من اعماق القلب لكُلّ من قرأ حرفًا من "بيداء"، اقرأُ تعليقاتكم بكُلّ حُب واتمنّى ان تكون كلماتي قد وصلت اليكم كما استشعرتها اثناء الكتابة، أشكُر اصدقائي القُدامى على تواجدهم الدائم الذي يفرحني للغاية وأُرحبُّ بالقُراء الجُدد الذي انضموا لقائمة اصدقائي المُفضلين بهذا التطبيق.
لقد كتبت بيداء ب 35 يوما دون ايّ تعديلات لذا التمِسُ العُذر إن وجدت اخطاء نحوية او املائية واتمنّى ان اجد رأيكم بصدق حولها سواءً ايجابيًّا او سلبيًُا وسأعمل بجدّ على ان اتفادى الأخطاء بالاعمال القادمة.
بالنسبة للنهاية الحزينة فأجد انها الأنسب لواقعية العمل واتمنى ان تكون قد مسّت قلوبكم كما فعلت معي.

نلتقي قريبا ما ان تلمعُ فكرةً جديدة برأسي

مع حُبّي❤❤❤

فايا
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي