الفصل التاسع

الفصل التاسع
رقصة مع غريب
لمريم عبدالرحمن

دلف حسن المكتب بعد ان اصدر عابد قرار بدخوله يستقبله استقبالا مبشراً و مبتسماً و هو يجلس على الاريكة من امامه، بدأ بالحديث عن العمل متتاليًا حول الاخرى ليتنحنح أخيراً و اخذ حيز من وقتهم لينحاز بالحديث خارج العمل قائلاً بنبرة طبيعيه:
- هو حضرتك ليه مأسستش حياتك في مصر بدل لبنان؟
صمت قليلا ليأخذ بنظراته اليه ثم الى الورق مره اخرى ليقول بعدم اهتمام:
- و انت جاي كصحفي و لا كمدير المالية في الشركة يا حسن؟
اجابه بإحراج مبتسماً:
- انا اسف لو تدخلت في اسئلة ملهاش دعوة بالشغل.
زفر عابد بضيق ليجيبه و هو يخلع نظارته بهدوء:
- انا مقصدش احرجك يا حسن، بس تقريباً ملقتش اجابه مقتضبه اقدر اقولهالك، بس انا مبسوط اني بعين في شركتي مصريين على قد ما اقدر علشان محسش بالغُربة عن بلدي.
ضحك بخفه و هو ينظر اليه بدقه:
- ما انا واخد بالي يا استاذ عابد، بتعين مصريين على قد ما تقدر.
- ايوة بدعم المصريين في بلد غريبه.
صمت قليلاً ثم اخذ حسن بأوراقه و ظل متردد على ان يطرح العديد من الاسئلة كما ان الصمت طال بينهما حتى قال عابد مقاطعاً للصمت:
- جيت لبنان نيابة عن زوجتي.
- هي لبنانيه؟
- لا لا، هي مصريه بس اصول عيلتها من هنا، بيتها و حياتها و مقرّها هنا.
ضم حاجبيه في تعجب و هو يسحب باقي الاوراق و ينتصب في وقوفه استعداداً للذهاب ليؤردف جملته الاخيرة باهتزاز:
- انا اسف تاني لتدخلي بس بجد فضولي وحش.
ضحك بهدوء ليجيبه باقتضاب:
- أحياناً الفضول بيوديك في طريق انت مختارتوش، عشان كده اتمنى انك متختارش تكون فضولي معايا.
شعر بالريبة و الغموض في طيات حديثه ليخرج و هو يتمتم بهمسات غير مفهومه حتى تلاقت معه صديقة ليلى قائلة له بغموض:
- شو عم تخربت بالكلام؟
نظر لها باستهزاء قائلاً:
- اي؟ عم اي؟
- تخربت.
- بت انتي امشي من وشي بلهجتك دي.
صرخت في وجهه بغضب:
- هلأ بتعيب بلهجة بلدي و انت فيها؟ عيب.
اشاح بيده في وجهها و اكمل طريقه ليقف مره اخرى و هو يبتسم بخبث و يلتف ليقابل ريما مرة اخرى قائلا:
- ريما كنت عاوز طلب مهم.
نظرت له بتثاقل و هي تجيبه بغرور:
- شو ؟
- هي ليلى مرتبطه او في حد في حياتها؟
فتحت فاهها بصدمه ثم قالت:
- ليلى بنت استاذ عابد؟
اجابها بغضب:
- في حد غيرها هنا اسمه ليلى؟
هزت كتفيها نافيه و هي تقترب منه اكثر لتهمس:
- بس لو بيصير الموضوع هيك، ف لاء ما في حدا بحياتا هلأ.. بس بيصير بعد شوي لو ظبطتلكم سوا.
- طب و استاذ عابد مش ممكن يزعل لو عرف ان احنا بنظبط سوا؟
- لا ما تقلق الامر بسيط، استاذ عابد فريه.
- فريه اوي؟
- لا ما لهالدرجه، فريه بيسمح اكيد ان بنته تخوض تجربة ارتباط لانها صارت كبيرة.
أجابها بخبث:
- طب ما تقوليلي حكاية السلسله اللي في رقبتها.
قطبت حاجبيها بغضب ثم قالت:
- ايش دخل هالعقد بحديثنا يا استاذ حسن؟ شو صار طمعان بعقد البت؟
عض شفتيه بغضب ثم قال:
- انا بسأل كفضول مش اكتر.
- عموما هحاول اكلمهالك و قريب برد عليك.
هز كتفيه ثم خرج من مبنى العمل لتذهب هي سريعاً و تدلف الى مكتب صديقتها متلهفه و هي تمحي من امامها الاوراق و العمل متحمسه لما ستقوله الان تحت نظرات ليلى الغاضبه و الحارقه لعلها تتحول الان:
- ما بتصدقي شو صار هلأ.
- اخلصي يا مجنونة عشان شغلي.
- حسن طلب مني اكلمك ليصير بينكم علاقة حب شريفه.
اجابتها بدهشه:
- شريفه؟
قطبت ريما حاجبيها في دهشه عارمه لتجيبها بصدمه:
- ليش قررتي تجيبي العار لاستاذ عابد؟
ضحكت و هي تجيبها:
- بتقولي اي يا حيوانه انتي انا قولتها غضب عني من الصدمه.
- طيب شو رأيك؟
- ما انتي عارفه رايي انا دايبه في دباديبه اساسا.
وضعت كفها على وجه ليلى لتؤردف بشغف:
- عندي حل تاني، بس وعد تنفذيه.
- على حسب، انا عارفه يا ريمو افكارك الشيطانيه.
ضحكوا اثنتيهم و وضعوا يديهم على ايدي بعض بخباثه...
****
في سيارة عابد بجانبه ابنته التي تنظر له بابتسامه و خباثه نوعاً ما تحاول التملص من نظراته المعارضة لحديثها:
- عبودي اي مزعلك كده بس؟ في حد يبقا رايح لمراته حبيبتة ويبقا زعلان كده.

نظر لها من طرف عيناه غرور ليقول:
- تمام مبسوط بس مش هوريها.
- و مش هتوريها ليه؟ الراجل بس لو جه على نفسه شوية و ورّا الست اللي بيحبها الحب ده كله الست هتموت في دباديبه.
صرخ بوجهها واجاب:
- ما انا ياما وريتها ايام ورد وفل و هي مبتحسش اعمل اي اكتر من كده يا ليلى؟ دي وليه كئيبة عاوزة الضرب على دماغها.
نظرت له بكل اريحيه و هي تناوب نظراتها الساخره بين نظراته الجديه لتقنعه تماما انه ليس على حق وان بمجرد ان يراها سيبتسم و يتلاشى كمّ الغضب الذي بداخله و ينشأ بينهما حب من جديد وكأنه يراها للوهلةِ الاولى، ولم تستمر لدقائق حتى وصلوا و هذا ما حدث، ابتسامتين من الطرفين جعلتهم يبثون الحب من نظراتهم المشتاقه لعبراتهم، لينتهى بليلى الجلوس على المنضده قبل ان يجلسوا تستمتع بأول قضمه بشهيه وهي تأخذ والدتها منها الملعقة متلهفه لأن تؤردف بغضب:
- طب خلي عندك دم و استنينا نقعد.
تذمره وظهر العبوس على وجهها قائلة:
- و انا هستناكي يا ست الكل اما تخلصوا ابتسامات و اشتياق؟ ده انا اموت من الجوع.
وقبل ان تكمل والدتها الحديث ضمت حاجبيها تعجباً من ارتداء ابنتها قلادة ديموزيد الذي اعطتها لها في عيدميلادها الثامن عشر، لتتلجلج في نبرتها متسائلة و هي تخفي توترها:
- ده اي ده يا ليلى، لبستي العقد ده ليه؟
تذكرت قليلاً و أجابت مهرولة:
- مفيش يا ستي حسيتها لايقه على الطقم، مالك خوفتي عليها كده ليه هي مش بقت بتاعتي؟
هدأت من روعتها وهي تجلس امامها متنهده ولم تسقط عيناها ابداً عن القلادة لتجيبها بهدوء:
- خايفه تضيع.
- ظش قولتيلي قبل كده انها فالصو ؟
قالتها بسخريه لتجيبها بتذمر واضح بعد ان رفضت وضع الطعام في فمها:
- اه يا ستي فالصو لكنها ورث عائلي.
نظرت ليلى لوالدتها من بين رأسها و طبق الطعام بحيرة محاولة ان تأخذ من فمها ما تريد انا تفيد به فضولها الدائم:
- ماما انتي متأكده انها مجرد ورث عائلي؟
ذلك الأمر الأبوي لا خلاف بعده في الحديث:
- ما تأكلي يا ليلى وانتي ساكته و تبطلي فرك و هبل، تتكلموا بعد الاكل.
صمتت بعد ان لعنت بداخلها تلك المتملصه منها دائماً ولكن بالتأكيد ستقع بيدها اليوم لتقول لها الحقيقة.
***
في منزل حسن كان يجلس بجانب رجل مسن يشرب الخمر ولولا ان الكلمتين مضادتين الا ان المستحيل ممكن، مسن قعيد يحتسي الخمر وحيداً ليقاطعه حسن بسخريته منه مؤردفاً بنبرة هادئة:
- كنت زمان بتمنعني اشرب سجاير، حالياً بتشرب انت خمره.
رمقه بضيق وازاح بوجهه عنه ليكمل حسن حديثه و هو يلتف ليجلس امامه مباشرة محط لبؤبؤتيه وكأنه يجبره على الاستماع و الاجابه:
- مش عاوزني احققلك مرادك؟
وضع الكأس على المنضده و هو يحاول ان يستجمع افكاره ليجيبه بإجابة مقتضبه:
- و اي هو مرادي؟
- مرادك هو مرادي.
- مرادنا ميقدرش يتحقق.
- لو انا حققتهولك؟
- هتبقا ملكك يا حسن.
ابتسم بسخرية و هو يجيبه بحماس:
- فهمت انا بتكلم على اي صح؟
- سلسلة ديموزيد يا حسن.
قال جملته الاخيره بحذر و خبث و صيغه من الانتظار المبالغ و الغير مجزي يدل على عدم الخير، لماذا الجميع يطمعون للسلطه! وللمال والسحر! هل الجميع سيئون ام هو نسل سئ فقط، وهنا بمقصد نسل سئ فهو نسل عطوة فقط، هل حسن من نسل عطوة! نعم نحن في النهاية ربما، لكن الافضل قادم سيتحول المجهول للمعلوم.
***
مساءًا في منزل عابد بعد أن انهوا طعامهم أجزمت ليلى ان تعرف اليوم ما هو السر الءب يمكث خلف ذلك، وكيف لها الصمود على تلك الأسرار بتلك السنوات؛ لتجلس بعد ان اكاعت امور والدتها واقامت قهوة فاخره لثلاثتهم مبتسمه، لتقول وهي تجتاح الصمت:
ها مش هتحكولي!
لو حكينالك مش هتقولي علينا مجانين وكبرنا وخرفنا!
قال والدها ذلك بسخريه و هو يرتشف من كوب القهوة بهدوء لتصمم هي بشغف:
-عيب يا بابا اقول عليكم كده، دي تربيتك!
ابتسم وهو يقول ببرود وسخريه:
-ماشي يا ستي، السلسله اللي في رقابتك دي اسمها ديموزيد ومسحورة.
انتصب حاجبيها لتستوعب ما قاله ثم تبتسم قائلة :
-تمام قولي مسحورة في ايه!
-أسئلتك كتيرة اوي.
قالتها والدتها بغضب وهي تنهض ممسكه بأكواب القهوة مستعده للرحيل واوقفتها ليلى بضيق قائلة:
-انتي ليه مصممه اني طفله صغيرة؟ بتيجي تزعلي اما بتلاقيني مش قاعدة معاكي، هي دي اخرتها! انا مكدبتكوش انا بس محتاجه اسمع.
تركت ما بيدها وهي تجلس وفي عيونها تلألأ دموعها، لتصيب السهم مجراها وتنزل اول دمعه منها:
-مش حباكي تقولي كده، انا بس مش عاوزة اغلط غلطة امي واعمل اللي عملته فيا.
-وانا من حقي اعرف حياتكم ، انا كأني غريبه في وسطكم.
اغمضت جفنيها بتثاقل، ولم تشعر بفاهها الا عندما انتهت من حديثها مع ابنتها التي قضى ما يقارب اربعة ساعات تحدثها عن اول ايامها بلبنان مع نور والدتها وكيف قتلت نفسها،وكيف جابهت ذلك بالفشل، وكيف الجميع بات عليه التجربة بالفشل، كل من يعرفوه وكل من قابلوها في رحلتها اليهم، كيف غُدرت بها الحيااة وكيف لها بالتصرف معها، ولم ينتشلها بالفعل سوا زوجها عابد، وكيف لعابد ان يصدق قصتها الخرافيه وعشقها الذي بات بقتل نفسه، قصّت عليها الالام الذي لحقت بها، ليظهر فيما بعد الصدق والحزن على كل كلمه قد قالتها والدتها، لينتهوا بهم المطاف في صدور بعضهم محتضنين، هنا تدخل عابد متنحنحاً:
-شعور البنت وامها ده عارف اني لو اتكلمت هتقولولي متدخلش، فهطلع انام.
ضحكوا اثنتيهم ليقولوا في ذات الوقت:
-نام وسيبنا احنا سوا.
رمقت والدتها بعد ان صعد والدها لغرفته ثم اردفت بيأس:
-كنتي بتحبي واحد اسمه محمد! وغدر بيكي و كمان قتل نفسه بسبب غباءه واترميتي في الشارع بسببه! انا عارفه انهاةقصة مأساويه بس يا ماما شوفي حياتك دلوقت وديتك لفين.
-عارفه ان احنا مبنتعلمش غير اما نقع.
تسائلت ليلى بحيرة :
-ليه مكملتيش لوحدك او بابا وافقك وكملتوا ونهيتوها!
-احنا مكناش نعرف حاجه عنها بقدر ما كان محمد يعرف يا ليلى، ثم اني حبيت السلام وحبيت ابوكي والامان اللي ادهولي في حضنه ، ولاول مره احس بجو عائلي كانت مع عيلته.
-وليه سلمتهالي!مش المفروض تتورث لرجاله
-مخلفناش زلاد ف اديتهالك وانتي اديها لولادك وبكدع نعيش في سلام وبس.
نهضت بغضب وهي تبتعد عنها ترمي بكلماتها السهام:
-مش هبقا جبانه زيكم واروح اسلمها لاولادي وارميهم لي الجحيم.
-اوعي تتهوري و تفكري تعملي حاجه.
***
صباح اليوم التالي، بعد ان انتهى نقاشهم بالاقتناع بأنها خطره، وندمها الشديد على معرفتها بالحقيقه فكان الكذب والمجهول ارحم من معرفتها الأن أن ما في رقبتها هي سم قاتل له قوانين هي تخشاها، كيف لوالدتها ان ترمي بها من اعلى الهاويه ولن تخشى بخروجها عن القوانين والموت حتمًا! قررت ان تسعى هي من خلفها..باتت تهمل اعمالها لتذهب وتلقي بنظره على مكتبات لبنان الشهيرة، وفي قسم الخيال والاسطورات عن القلادات التي لم تلتقِ ابدًا بإسم ديموزيد في مراتها المتعدده.
يأست من كمّ الكتب الموضوعه من امامها لتستخلص ان لا فائده من تلك الاسطورة المدفونه، ولا تعرف اين بتلك الساقطه في احدى الكتب الادبيه، لا تنكر خشيتها منها، باتت متعلقه بها في رقبتها قبل تفكيرها تخشي ان تترركها فتهلك، هكذا امانٌ وسلام.
انهت من قرأة اخر كتاب و اغلقته واستدارت لترى مالكة المكتبه تنظر لها بسخريه كما ظهر في نبراتها:
-كتب الاسطوريات خلصت كلاتها، اسبوع عامل ما بتخبريني لشو عم بتدوري ومصممه على عنادك، بوعدك ما بطلع اي سر من قرّاء مكتبتي.
صمتت قليلا وهي تهز رأسها بيأس قائلة:
-تمام هقولك… بدور عن اسطورة سلسلة ديموزيد.
-شو هالاسم! اول مره بسمع عنه..
قاطعتها رنين هاتف ليلى لتجيب على صديقتها بغضب:
-ريمو قلتلك مس فاضيه.
-وانتي بلشتي تهملي حسن من هلأ، الولد بدّه رد وانتي بتتمرقعي برا وحتى ما بتسوي تخطيطاتنا الشيطانيه.
تنهدت بتعب واجابتها بحنقه ظهرت في نبراتها وهي تعتدل من جلستها:
-قوليله اني مش عاوزاه، ورايا حاجات اهم بكتير.
اغلقت بوجهها لتنصدم من رد فعلها المسئ وتلعن بداخلها بعد ان اقتنعت بخطأ ما يحدث وليس لها به علم، لكن يجب ان تعرف لماذا الهروب منها ومن حسن ومن العمل ايضا!
***
في منزل حسن العاشرة مساءا وهو يجلس بجانب صديقه، هو صديق ولكن سنه كبيرة كسن والده، هو من انتشله من بقاع الارض ولن ينكر هو من اطلعه على النور، والسلطة الي كان يبحث عنها، هو ذلك الرجل المخيف الذي يهاب نفسه، يحتسون الخمر في جو هادئ ليؤردف الرجل الكبير بضيق:
-لسه موقعتهاش يا غبي!
-انا مش عارف بقالها اسبوع مبتجيش، انا متأكد انها بتحبني.
ارتمى بكأسه في الارض بعد ان خرج عن شعورة بالغضب المبالغ، عروقه برزت مع بروز سنه المتقدم، صارخًا:
-مش هموت يا حسن الا وهي في ايدي، مش هموت غير وهي في ايدي، دي ملك للعيله، انا محمد عطوة...عهد على نفسي مش هموت غير وديموزيد في ايدي.
لعلّ الاموات يأتون في خيالنا، ولكنهم لا يزدادون عمرًا ولا يريدوت اللنتقام بتلك الصعوبة المفرطه منهم، وليس باليد حيلة، اسيقطع حسن له وعده! ستبقى في يده ويورثها الى حسن! ام سيبقى ذليل وسيموت بغدره وتغدر به الخياه عنوةً عنه، سيستخلص من الارض مهما باتت خيانته، سيزرع من ارض فاسده ما فاسد ليفسد به الجميع ويهلك بنفسه.

يتبع...
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي