الفصل السادس

في الصباح الباكر وعندما شرعت النسمات الهادئة تداعب النفوس وأشرقت الشمس لتطل بثوبها الذهبي الوضاء، فتحت كارما عيونها تستقبل ذلك النور الذي تسلل من فتحات النافذة والذي أنقذها من ذلك الكابوس المرعب الذي مازال يحافظ على زيارته لها يوميًا.

ألقت نظرة على ساعة الحائط المعلقة بإحدى جدران غرفتها، ثم نفضت عنها فِراشها ومدت يدها تلملم خصلاتها السوداء التي تسكن بأريحية على ظهرها وسحبت نفسًا عميقًا وهي تتعمد عدم التفكير في ذلك الكابوس، ثم خرجت من غرفتها قاصدة المرحاض لكن ما إستوقفها ذلك الكلب الذي نبح بخفوت عند رؤيتها.

جثت على ركبتيها أمامه وأخذت تمسد عليه بحنو وهي تقول:
-صباح الخير يا رفيقي، أتستيقظ أنت أيضًا مبكرًا أم أنك لم تَنَم من الأساس؟

ثم أكملت وهي تمسك بيده المجبَّرة:
-دعنا نطهر الجروح الآن وبعد ذلك سأحضر لك الطعام فيبدو أنك جائع.

فكت الرباط وأخذت تتفحص الجروح التي تحسن حالها قليلًا عن ذي قبل؛ فقامت وأحضرت علبة من البلاستيك ثم جثت مرة أخرى بجواره وقالت وهي تخرج ما في العلبة:
-أرأيت لقد وضعت كل المطهرات والأدوية الخاصة بك بداخل هذه العلبة وسأجعلها مخصصة لك.

بدأت بتطهير الجروح بحرص شديد ثم وضعت الأدوية الذي وصفها لها "طبيب الصيدلية" وأعادت لفها بالشاش مرة أخرى ثم قالت وهي تنهض من مكانها:
-ها قد إنتهينا، سأحضر لك الطعام قبل أن يستقيظ أبي.

عادت بعض قليل ووضعت أمامه صحن به طعام وآخر به ماء ومسدت على رأسه قائلة:
-هيا يا صغيري كُل جيدًا لتتحسن صحتك سريعًا، فأنا أجلس هنا بجوارك ولا أذهب إلى العمل مع أبي.

ثم مالت عليه وهمست:
-أَأُطلعك سرًا هذه المرة الأولى التي لا أذهب فيها إلى العمل وأبقى وحيدة بالمنزل.

استمر الكلب في تناول طعامه بنهم؛ فرمقته بنظرة دافئة وهي تتعجب لحالها الذي تبدل منذ أن وجدته
فمنذ متى وهي تهتم لأحد؟!
فهي الوحيدة دائما لم تملك يومًا أخًا أو أختًا أو حتى صديقة مقربة منها، أو قريبة ودودة إليها، لم تهتم يوما بأمر أحد، ولا يهتم لأمرها أحد أيضًا.

هي الوحيدة دومًا وأبدًا، ولكن يبدو أن للقدر رأي آخر.

فاقت من شرودها على صوت والدها يلقي عليها تحية الصباح، فإستقامت وإقتربت منه قائلة:
-صباح الخير يا أبي، دقائق وسأعد لك الفطور.

قال ممازحًا وهو ينظر للكلب:
-يبدو أن أحدهم نال قسطي من الإهتمام، فها هو يتناول فطوره وأنا سأنتظر دقائق أخرى.

ابتسمت كارما وقالت:
-ربما لأنه مريض اهتم لأمره قليًلا، لا تقلق سأغسل يدي وأحضر لك الفطور، لكن أولًا خذ دوائك وإنتظرني بضع دقائق.

اتجه كامل إلى "الدرج" وأخرج الدواء وتناوله وهو يقول:
-وهل عليّ سوى الإنتظار لبضع دقائق أخرى.

أحضرت كارما الفطور لوالدها وجلست معه فسألها:
-هل ستذهبين معي اليوم، أم ستجالسيه اليوم أيضًا.
قالها وهو يشير بعينه على الكلب الذي يرقد بسلام، فأجابته وهي تطالعه بحنو:
-جرحه لم يلتئم بعد، أشعر أنه يحتاج إلى المزيد من العناية، سأبقى معه حتى يستطيع التحرك بمفرده وبعدها سأعود إلى العمل.

تردد كامل قليلًا وأخذ يلوك الطعام بفمه ولكنه إتخذ قراره بالنهاية فلفت إنتباهها حين أردف:
-الحقيقة أن السيد عدي قد طلب مني أن أجد له "سكرتيرة" تساعد أحلام في عملها، أنتِ تعلمين هي بشهرها الأخير ولم تعد تستطيع مواصلة العمل وحدها.

دست الطعام بفمها وكتمت غضبها قائلة:
-نعم أشعر بالشفقة عليها ولا أعلم لما تصر على الذهاب للعمل وهي بتلك الحالة، وأشعر بالغيظ من زوجها الذي يُحَمِّلها المسؤولية كاملة.

أومأ لها وأكمل:
-ماذا ستفعل؟ مصاريف الحمل والولادة كثيرة، أعانها الله.

تركت الخبز من يدها وهتفت:
-هذا ليس من شأنها يا أبي، ليس هي من عليها تحمل تلك المصاريف، ليست ملزمة بالإنفاق على البيت ومسئولياته أبي.

-الحياة صعبة يا كارما والمصاريف أصبحت مرهقة، فلا بأس أن تحمل معه بعض المسئولية.

أردفت كارما بحنق:
-إنها تحملها كاملة يا أبي، تحمل المسئولية كاملة وحدها، وهو يجلس مثل خروف العيد بالمنزل يخشى النزول حتى لا ينقص وزنه.

ابتسم كامل على تشبيهات ابنته الفجة فأردفت بغيظ:
-أتعلم أحيانا أشعر أني أريد أن أذهب إليها وأضربها على وجهها عدة مرات حتى تفيق مما هي فيه وتضع حدًا لتلك المهزلة التي ترتكبها بحق نفسها.


حاول كامل تهدئة ابنته فقال:
-يا حبيبتي الفتاة تفكر بشكل مختلف بعد الزواج، تضع في حسباتها إعتبارات أخرى.


لوت كارما فمها وأكملت بإستنكار:
-نعم نعم أعلم تلك الإعتبارات كالخوف من لقب مطلقة والبعد عن كلام الناس وخراب البيوت وكل هذه الأشياء التي تثير حنقي .


وجد كامل أن لا فائدة من الحديث معها فقرر إنهاء النقاش قائلًا:
-حسنًا، أعلم أنكِ لن تقتنعي بالأمر حتى تعايشيه بنفسك وتخوضي تجارب الحياة وحدك، والحقيقة أني لا أتمنى لكِ ذلك، لكن دعينا نعود إلى رأس الموضوع، أخبرت السيد عدي أنكِ ستذهبين لمساعدة أحلام وستكون فرصة جيدة لكِ للحصول على وظيفة أخرى تناسب مؤهلك الدراسي وتتقاضين عليها راتب.


ما يقوله والدها جعلها تعيد تفكير بالأمر، فهي فرصة مناسبة لعمل يليق بها وبمؤهلها الدراسي وسيفتح لها مجالات وآفاق كثيرة، وأيضًا ستكون بجانب والدها وتستطيع الإطمئنان عليه من حين لآخر.
لكن ماذا عن الكلب؟
لا تستطيع تركه وحيدًا والذهاب إلى العمل، تمكنت منها دائرة الحيرة مجددًا، فنفضت ذلك عن ذهنها وقالت:

-لن أستطيع تركه وهو في هذه الحالة يا أبي، أخبره بالأمر إذا وافق الإنتظار حتى تتحسن حالة الكلب ويتماثل في الشفاء سيكون فعل خيرًا، وإذا لم يفعل لن يلومه أحد، بالنهاية هذا عمل ولن يقف على شخص بعينه.

تنهد كامل ثم رد:
-حسنا كارما، سأتولى الأمر.


***

في يوم الجمعة
الجميع يعمل على قدم وساق تحضيرًا للعزيمة الذي أقامها عبدالله أسوة بأبيه رحمه الله لإحياء ذكراه والسير على خطاه.

فتوسطت راضية المطبخ الكبير بشقة العائلة تعد الطعام بمساعدة كريمة وجميلة وتساعدهم أيضًا ألما وسيليا في تجمع عائلي محبب للجميع.

فذلك اليوم كان بمثابة عيد يقيمه الجد لجمع الأحبة وللحفاظ على الترابط بين أفراد العائلة.

قالت سيليا وهي تقطع الخضروات:
-كنت أشتاق لهذا الجمع العائلي، رغم أن جدي لن يكون معنا، لكن يكفي أننا هنا ببيته ونفعل ما كان يحب فعله دومًا.

وقفت راضية أمام الوقود وأخذت تقلّب ما في الطنجرة وهي تقول:
-رحمه الله، كان يحب أن يرى عائلته جميعها أمامه، علم جيدًا كيف يزرع الود والحب بين الجميع.

أكملت جميلة التي بدأت الدموع تتجمع بمقلتيها:
-رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، رحل وترك فراغًا جسيمًا في قلوبنا جميعًا.

مسحت كريمة عينيها بيدها سريعًا قبل أن يلحظها أحد وقالت لتغير مجرى الحديث:
-نحتاج الي أواني فهذه لن تكفي، انكسر منها أيام العزاء ولم يتبقى منها الكثير.

غطت راضية الطنجرة وهمت قائلة:
-سأصعد وأحضر البعض من شقتي.

غسلت يديها أمام الحوض وتناولت المنشفة وبدأت بتجفيفها وهي تكمل:
-تعالي معي يا ألما ساعديني من فضلك.

-حاضر
تركت ألما ما بيدها وصعدت خلف زوجة عمها ثم دخلت خلفها الشقة متجاهلة ذلك التوتر الذي أصابها، فأشارت راضية إلى المطبخ قائلة:
-احضري الصحون من المطبخ يا ألما وأنا سأحضر الباقي من النيش.
أومأت لها ألما وولجت إلى حيث أشارت وأخذت تنظم أنفاسها التي تعلو تلقائيًا كلما دخلت إلى هذا المكان، وأخذت تجلب في الصحون واحدًا تلو الآخر وتضعه جانبًا.

لمحت أحدهم يختلف عن باقي الأواني الموجودة فأخذته وقصدت طريقها لتسأل زوجة عمها هل تحضره أم تتركه هنا.
-صباح الخير.
فزعت ألما حينما وجدته أمامها فسقط الصحن من يدها وتهشم في الحال.
رفع قاسم كفيه أمامها قائلًا
-اهدئي ألما.
هرعت راضية إليهم وعلامات الخوف تعلو وجهها وسألتهم وهي تنظر لحالة ألما المفزوعة والهشيم المنثور أرضًا:
-ماذا حدث؟!
رمقها بنظرة معاتبة ثم رد:
-رأت عفريت.
ثم تركهم ورحل، وضعت ألما يدها على صدرها وأغمضت عينيها بقوة في محاولة يائسة لتهدئة الصخب الذي أصاب دواخلها.

فاقت أخيرًا من صدمة اللحظة وأسرعت تنحني تلملم بقايا الصحن من الأرض، فدلفت إليها راضية وقالت:
-ابتعدي ألما حتى لا تنجرح يَدك.
إنصاعت لما قالته زوجة عمها وأخذت تتمتم بالإعتذار وهي تمنع تدفق الدموع من عينيها، فحدقتها راضية قائلة:
-كُفي عن الإعتذار ألما، لم يحدث شيء يتوجب كل هذا.
رأت الدموع تتجمع بمقلتيها فأردفت مازحة:
-كان الإناء الوحيد الذي يحمل نقوش مختلفة، لم يستطع الصمود وحيًدا.

لم تكن ألما تنتبه لما تقوله راضية بل أنها تجاهد لتبقى واعية حفاظًا على هيئتها أمام زوجة عمها.

تنهدت راضية حينما فشلت في إحتواءها فقالت وهي تتجه إلى الداخل لتحمل الأواني بعد أن نظفت الأرض جيدًا:
-سأنزل أنا بها وأنتِ أحضري المفتاح وأغلقي الباب جيدًا.

أومأت لها ألما بخفوت وهي مازالت تجاهد تلك الغيامة التي تُلح للسيطرة عليها.

أخذت تبحث عن المفتاح بعقل تائه والوخز بقلبها يزداد كلما تذكرت نظرته التي رمقها بها، نظرة معاتبة نحرت روحها، وزادتها فوق آلامها آلامَ.

وجدته أخيرًا فأخذته وخرجت وحين إستدارت كتمت شهقة كادت أن تخرج مدوية.


***

دخلت راضية مطبخ العائلة ووضعت الأواني على الطاولة فسألت كريمة:
-تحملي كل هذا وحدك؟ أين ألما ولما لم تساعدك؟!

-كانت تحملهم عني ولكني تذكرت أني نسيت الباب مفتوحًا ولم أستطع صعود الدرج مرة أخرى، فحملت عنها الأواني وصعدت هي لتغلق الباب وتجلب لي المفتاح.

أومأت لها كريمة وأخذت تكمل ما كانت تفعل، بينما إقتربت راضية من سيليا وهمست بجوارها دون أن يلتفت إليها أحد:
-إصعدي لألما يا سيليا.
نظرت لها سيليا بإستفهام فلمحتهم جميلة لتكمل راضية بصوت عالٍ:
-ألم أخبرك مرارًا أن تغطي شعرك وأنتِ تحضرين الطعام؟!

فهتفت جميلة هي الأخرى:
-أخبرتها أنا أيضًا بهذا الأمر لكنها لا تنصت لأحد.

رمقت سيليا زوجة خالها بنظرة قلقة فتمتمت قائلة:
-حسنًا، سأصعد إلى ألما وأحضر منها أحد الأوشحة التي ترتديها.


***
خرج من باب شقتهم دون وجهة محددة، وأين يذهب والألم ينخر قلبه وروحه تنزف ككل مرة تنفزع فيها لرؤيته، كان الأمر أشبه بمرض مزمن يأكله في صمت، كنوبات الصرع التي تفقد المريض السيطرة على جميع حواسه وبعدها بلحظات تنتهي ولكن أثرها يرافقه للأبد.

جلس على الدرج المجاور للباب يسند كوعيه على ركبتيه ينظر للفراغ أمامه والتفكير يأكل رأسه يحاول عصف ذهنه ربما يعلم سبب محدد لخوفها الشديد منه، لكنه لا يجد ما يستدعي ذلك، وهي مستحيل أن تخبره عن سبب هذه الحالة التي تصيبها بمجرد رؤيته.

إنتبه للباب يفتح وتخرج منه أمه دون أن تراه فحمد ربه على ذلك حتى لا تسأله عن حالته وهو ليس في أفضل حال على الإطلاق.

بعد قليل خرجت ألما وأغلقت الباب بالمفتاح وحينما إستدارت ورأته كادت أن تصرخ من الفزع ولكنها كتمتها بآخر لحظة.

لم يتحرك له ساكنَ سوى إبتسامة ساخرة شقت ثغره وتمتم بحسرة:
-مرة أخرى!

أخذت تفرك كفيها ببعضهما بتوتر شديد والغمامة السوداء لا تزال تلح عليها، لكن يكفي ما تراه بعينيه من ألم فقاومت حتى لا تزيد ألمه.


مسد على لحيته وهو يحاول تهدئة نفسه، ربما هذا الوقت المناسب للحديث معها بالأمر فقال:
-ماذا هناك يا ألما؟ أريد أن أعرف حقًا ما سبب هذا الفزع الذي يتملكك كلما رأيتني؟ وَشكت على تصديق أني أتحول لشبح عند رؤيتك لهذا تفزعين مني بهذا الشكل.

إزداد شحوب وجهها والتوتر يتصاعد داخلها، فقرر التخلي عن هدوءه وإستقام مقتربًا منها وعينيها معلقة عليه ليكمل:
-أخبريني ألما إلى متى سنظل هكذا؟ تفزعين لرؤيتي وأتألم لرؤيتك، إلى متى سأجني المرار من بستانك؟

زادت نبرته هدوءًا، كانت كأنين متألم حين أكمل:
-أما حان الوقت لإستنشاق بعض الورود، للتمتع بإبتسامة ندية ونظرة هانئة من تلك العيون العسلية، أما كفاكِ بقلبي عذابًا؟

تصاعدت ضربات قلبها فكاد يخرج من محجره، لم تستطع الصمود أمام قربه المذيب لأعصابها وحضوره المهلك لحصونها، فرحبت بالغمامة السوداء وسلمت لها روحها هربًا من زخم مشاعرها.

فكان نصيبه الآن من الفزع حين وجدها تغيب عن الوعي، فتلقفها بين ساعديه القويتين وهو في صدمة من أمره.



هرعت سيليا إليهم بعد أن تابعت الموقف من على بعد وجلست بجانبها ارضا تقول بخوف:
-ماذا حدث لها؟

-اخفضي صوتك سيليا لا نريد إثارة الرعب بقلوب من بالبيت، إهبطي وإفتحي باب شقة عمي وأنا سأدخلها غرفتها ونقيس لها السكر ربما إنخفض عن المستوى الطبيعي.

أومأت له سيليا وأسرعت إلى الأسفل وفتحت الباب بسرعة محاولة الحفاظ على ثباتها، وأفسحت له الطريق فأدخلها إلى غرفتها وقلبه كاد يتوقف من القلق عليها.

وضعها بحرص على الفراش بينما أسرعت سيليا بالبحث عن جهاز قياس السكر حتى وجدته بالدرج المجاور للفراش، فوخزتها بتوتر ثم وضعت العينة بالمكان المخصص لها وماهي سوى ثوانٍ معدودة حيث قالت:
-مستوى السكر طبيعي وليست هناك مشكلة.

أخذ قاسم يحرك ناظريه على صفحة وجهها الشاحب والألم يتزايد بداخله فقالت سيليا:
-أخرج انت يا قاسم فلو وجدك أحد هنا ستثير التساؤلات، أنا سأحاول إفاقتها وسأطمئنك حين تستعيد وعيها.

أجبر نفسه على التحرك فكلام سيليا منطقيًا وستتفاقم المشكلة إن وجده أحدًا هنا، خرج وهو يحمل المزيد من الألم بداخله.


حاولت سيليا إفاقتها حتى إستجابت لها وبدأت إستعادة وعيها شيئًا فشيئًا.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي