الفصل العاشر

عادت إلى بيتها ترتجف من صقيع قلبها، فاستقبلتها ألما بقلق ارتسم على ملامحها بعد أن رأت هيئتها المزرية، أسرعت إليها تمسك يدها وقالت:
-مرة أخرى يا أسيل؟! لليوم الرابع على التوالي تعودي إلى المنزل بهذه الهيئة؟!


ابتسامة واهنة رُسمت على ثغرها وعينيها تناظرها بحزن ثم قالت:
-أحب السير تحت المطر.
شعرت ألما أن هناك ما تخفيه أختها ويؤلم روحها لكنها تجنبت الحديث معها وأجلته لوقت آخر.

سحبتها إلى غرفتهم وأجلستها على مقعد صغير بجانب الباب ثم أسرعت إلى الخزانة وأخرجت منها الثياب.

وضعت الثياب على الفراش وأخذت تخلع عن أختها ملابسها التي تجلس في عالم آخر، تسبح بالآمها ببحر ذكرياتها معه، تعرفت عليه منذ سنة ونصف، لم تشعر فيهم بطعم السعادة الحقيقي، سوى لحظات تشبعت بها من الفرحة اللحظية التي تنتهي تأثيرها عندما تتذكر أنه كطير جامح لا يستطيع أن يستكين على عُش واحد، بل يتنقل من عش إلى آخر تاركًا من يتألم خلفه في صمت.

تحسست ألما جبينها فوجدت حرارتها عالية، حضنت وجهها بكفيها وهي تقول بقلق:
-ارتفعت حرارتك يا أسيل.
دمعة خائنة هربت من مقلتيها وهي تنظر لأختها، كم ودت أن تبوح لها بكل ما تعانيه، لكن شيء بداخلها يمنعها من إخبار أحد وكأنها خطيئة تخشى أن تنقشر أمامهم.

زاد القلق بداخل ألما فمسدت على رأس أختها بحنو بالغ وسألتها بقلق ممزوج برقتها المعهودة:
-ما بكِ يا أسيل؟ إخبريني حبيبتي.

تمتمت أسيل وهي تنظر لها بدموع:
-أنا أتألم ألما.
ألقت نفسها على صدر أختها تئن بخفوت وكلماتها تخرج من بئر أجوف بداخلها قائلة:
-أنا أعاني يا ألما، قلبي يؤلمني بشدة.
ضمتها ألما بفزع من ضعفها الغير معتاد، شاركتها بكاءها الذي مزق قلبها وأخذت تمسد على رأسها وهي تقول:
-سلامًا على قلبك يا حبيبة ألما، اهدئى واخبريني ما بك حبيبتي.
عودة إلى نقطة البداية، لن تستطيع البوح بأكثر من أنها تتألم، اعتراف كهذا استغرق أربعة أيام لتتفوه به.
فمنذ ذلك اليوم الذي لاقته به، وهي تخرج كل يوم من البيت رغم سوء الأحوال الجوية ونوة شتوية ضربت تلك المدينة الساحلة كحدث طاريء، تظل تحت الأمطار وكأنها تغسل روحها من ذلك المس الجنوني الذي يتملك منها.

واليوم، انتهكت طاقتها كاملة، وأفاض ألم روحها فأصابها بحمى ضربت جسدها بأكمله، تضامنًا منه على ما تعانيه من ألم.

برودة تخللت جسدها، ارتعشت بشدة بين يدي أختها، فضمتها ألما بقوة واهية ودموعها تهبط بقوة تتمتم بالبسملة وقراءة بعض السور القرآنية لعلها تهدأ قليلًا.
-أريد ان أرتاح ألما.
قالتها وهي تخرج من حضن أختها، فساعدتها ألما على الوقوف وقالت:
-حسنًا حبيبتي، استريحي على فراشك الآن، وأنا سأحضر لكِ دواء ليخفض حرارتك قليلًا حتى يأتي عدي أو أبي ويجلب إليكِ الطبيب.

غمغمت أسيل، وأسنانها تصك ببعضهما بارتجاف واضح:
-لا، لا تخبري أحد بشيء، أتركيني فقط أنام وسأبكون بخير.
طاوعتها أختها وخرجت مسرعة تبحث في المبرد حتى وجدت دواء خافض للحرارة، التقطته ثم أحضرت زجاجة مياه وعادت سريعًا إليها.

مدت يدها تحت رأسها وساعدتها حتى أخذت الدواء، ثم أسندتها مرة أخرى وأحكمت عليها الغطاء.

مالت بجزعها ووضعت قبلة حانية على جبهتها وقالت بخفوت:
-شفاكِ الله حبيبتي، ورزقك راحة البال والقلب.


سحبت مقعد وجلست بجوارها تتحسس جبينها من حين لآخر، وعندما انخفضت حرارتها تركتها وخرجت تصنع لها حساء الدجاج مع الخضروات.

***

أصرت على الوقوف بجوار الباب الذي يخفي خلفه والدها، بعد أن استطاع عدي والممرضات إقناعها والسيطرة على نوبة الغضب التي انتابتها عندما منعوها من الدخول إلى غرفة العناية المركزة.

وقفت تهز ساقيها بعنف وتغلق عينيها بقوة تروض نفسها حتى لا تقتحم عليهم الغرفة.


ظل يراقبها وهو يستند على الحائط المقابل لها، يتابع خوفها الجلي بعينيها، أشفق عليها وعلى وقوفها كل هذه المدة.

اقترب منها ووقف أمامها ويديه بجيبي بنطاله وجزعه مفرود بشموخ وقال بصوت خفيض يناسب هدوء المكان حوله:
-من الأفضل أن تعودي إلى البيت، فليس هناك داعي من وقوفك هكذا.

زادت هزات ساقيها مع زيادة توترها ولم ترد عليه، فأردف:
-لن يسمحوا لأحد بالدخول.

رفعت عينيها له وقالت بشراسة:
-سأدخل له، ولن يستطع أحد منعي، أتفهم؟

غابتيها السوداويتين أشعلت النيران بذلك الهاديء الكامن بمحجره، حتى أنه شعر بارتجاف مقلتيها رغم ما تدعيه من قوة.

ذلك الشعور بالمشاكسة الذي ينمو بداخله كلما رآها جعل الإبتسامة تستكين بعينيه وهو يسألها:
-كيف ستدخلين "ميسيز هالك"؟

لمحت المكر يطل من مقلتيه، فقضمت شفتيها بغيظ ثم أكملت وهي تجز على أسنانها:
-ليس من شأنك، لن أعود إلى المنزل ولن أبرح مكاني حتى يستعيد أبي وعيه ويعود معي إلى المنزل.

وضع يده على صدره بطريقة استعراضية قائلًا:
-حمدًا لله، خفت أن يمر هذا اللقاء دون أن أسمعها.
ثم أردف مقلدًا إياها:
-ليس من شأنك.

حك أنفه يخفي ابتسامة كادت تخترق ملامحه وهو يراها تشيح بوجهها عنه، تضغط على عينيها بقوة حتى لا تنفجر به، لكن هناك بسمة سكنت قلبها لم تستطع وأدها.

لم تعجبها تلك اللافتة وذلك الشعور الخاص الذي يمتلكها بوجوده فلملمت نفسها واستجمعت شجاعتها ثم قالت بقوة:
-عد أنت إلى منزلك، فكما أخبرتك لن أبرح مكاني حتى يفيق أبي ويعود معي إلى المنزل.

أومأ لها عدي وقال:
-فلتتحمليني إذًا، أولًا لأني لا استطيع ترك العم كامل دون الاطمئنان عليه،
ثانيًا أني أيضًا لن أبرح مكاني حتى أعيدكما بنفسي إلى البيت.
ثم شدد على كلماته قائلًا:
-لن أتركك وحدك هنا.

ارتبكت دواخلها، وكأنه يلقي عليها تعويذاته فيرتجف فؤادها بكلمة عفوية منه.

تمسكت بجلافتها المعهودة معه
-ولما إن شاء الله؟!

أجابها متمسكًا بهدوءه:
-أولًا أنتِ لا تعلمين قدر العم كامل عندي، فهو له مكانة خاصة بقلبي وأكن له كل تقدير واحترام، وعند جدي أيضًا رحمه الله.

عقدت ذراعيها أمام صدرها ونظرت له باستنكار قائلة:
-وماذا عن ثانيًا؟
رفع حاجبه وغمغم:
-لا أفهم؟!
أشارت له بيدها تقول بسكون طاقتها المستنزفة:
-قلت أولا، ماذا عن ثانيًا؟

حك لحيته بتفكير ثم أكمل:
-لا أتذكرها الآن، المهم أني لن أترككما وارحل، فعليكِ تحملي حتى يفيق العم كامل وأعيدكما إلى البيت، اتفقنا؟

فكت عقدة يديها وأشارت إلى المكان الذي كان يقف به ثم أردفت:
-ولما عليّ تحملك؟ عد إلى مكانك واتركني أفكر كيف سأدخل لأبي دون ان يراني أحد.

-وربما أنا من سيساعدك.

قالها بثقة وهدوء لتسأله بتوجس:
-حقًا؟
غمز لها بعينه اليسرى قائلًا بثبات:
-ثقي بي.
بارعة هي بإخفاء انفعالاتها، فتلبست ذلك القناع الصلد الذي تواري خلفه ابتسامة هادئة سعيدة لا تتناسب مع ما يحدث حولها.

***

جلست على فراشها تتقوقع على نفسها كحالها منذ أن عاد رأفت.
هل عاد رأفت حقًا؟!
خاطرة تضائلت بذاكرتها كلما مرت السنين حتى تلاشت نهائيًا.
فعاد فجأة ليعيد فتح جرحها العميق مجددًا، بدم بارد عاد بهيئته الأولى التي لم تتغير كثيرًا، بل أن السنين لم ترسم آلامها على وجهه، لم تحفر حزنها على قسماته، لم تهد تلك العجرفة الكامنة بداخله.


تحركت ببطء حتى وقفت أمام مرآتها تتطلع بها وتدقق في تفاصيل صورتها المنعكسة بها.
ماذا عنها؟
رفعت يدها تتلمس وجهها الذي زارته التجاعيد المبكرة واستوطن الحزن بملامحه، فتكونت خطوط آلامها على جبهتها لتجعل العبوس متملك منها دون أن تدري.


دومًا كانت ترى تغيرات وجهها تطور طبيعي لمرور الدهر عليها، لكن بعد ما رأته سقطت حجتها.

ألم يمر عليه الزمن كما مر عليها؟!
أم لم ينل منه الحزن ما نال منه قلبها.
الآن فقط وبعد كل هذه السنين استطاعت أن ترى على وجهه الراحة والأمان.
هل هي من منحته ذلك الشعور الذي لم يستشعره معها؟!
كم ودت رؤيتها، تلك التي استطاعت أن تسلبها حياتها وزوجها.
هل هي أجمل منها؟
شعور بغض انتابها، غيرة أنثوية على رجل شاركته عمرها الذي توقف برحيله عنها.

مدت يدها وفكت غطاء رأسها التي لا تبرحه أبدًا، ليكشف عن خصلاتها الكستنائية المهملة، فكت عقدته العشوائية لينسدل على ظهرها حتى وصل لآخره.
رفعت يدها تممرها بين خصلاتها وهي تستحضر نفحات من الماضي، عندما كان لها بيتًا وأسرة، حينما كان لها وطنها الخاص.

انتبهت على صوت جرس الباب، فأسرعت تلملم خصلاتها بإهمال مرة أخرى وأحبكت حجابها سريعًا ثم خرجت تفتح الباب.

لتجد زوجتا أخويها اللتان قررا الذهاب إليها بعد أن شعرا بأنها ليست على ما يرام، فمنذ عدة أيام وهي تمكث بشقتها وترفض النزول إليهم، فقررت كلٍ منهما الصعود إليها للإطمئنان عليها.

استقبلتهما جميلة بترحاب كعادتها لكن روحها الباهتة أشعرتهم أن هناك شيئًا.

دخلتا وكلًا منهما بيدها إناء مغطى، وضعت راضية الصحن على الطاولة وهي تقول:
-صنعت لكِ البسبوسة التي تحبيها من صنع يدي.

تبعتها كريمة هي الأخرى قائلة:
-وهذه بعض المخبوزات التب تصنعها ألما.

شكرتهم جميلة بوجل وتمتمت:
-شكرًا لكما، تعبتما أنفسكما، لم يكن هناك داعٍ لكل هذا.
مسدت راضية على كتفها وأردفت:
-لا تقولي هذا يا جميلة، بصراحة عندما أخبرتني كريمة ان سيليا تجلس مع ألما، وجدتها فرصة مناسبة لنجتمع ثلاثتنا كما كنا نفعل دومًا.

ابتسمت لهم جميلة بوهن ثم أشارت لهم للجلوس وذهبت إلى المطبخ وأحضرت لهما ضيافتهما.

عادت بعد قليل تحمل صينية وضعتها أمامهم، ثم جلست بجانبهم بشرود، بادرت راضية تسألها:
-ما بك يا جميلة؟

تريد الحديث مع أحد لتخرج ذلك الكبت الكامن بداخلها، لا تهوى الكتمان لكن حالتها بالأيام الماضية كانت في أسوأ حال.

فركت يديها بتوتر وابتلعت ريقها ثم ألقت بكلماتها بخفوت:
-عاد رأفت.
نظرت كريمة إلى راضية بعدم تصديق ثم التفتت إلى جميلة وسألتها:
-متى عاد؟ ومن أخبرك بعودته؟

كانت على يقين أن محمود لم يخبر زوجته بالأمر، لكن تلك النظرة المواسية بعيون راضية جعلتها تتيقن أنها على علم بما حدث، لكنها لم تخبر كريمة.

-جاء إلى هنا الجمعة الماضية.

شهقت كريمة وهتفت:
-هل له عين يأتي إلى هنا بعد ما فعل؟!

ابتسمت بمرارة قائلة:
-بل جاء وله عين وقحة وسيارة فارهة وأسرة هانئة، وصوت جهوري يطالب به حقه في رؤية ابنته.
كادت أن تندفع كريمة بالحديث لكن راضية أوقفتها حين قالت:
-هذا حقه يا جميلة، ولا أحد يستطيع منعه من رؤية ابنته.

ضربت كريمة على صدرها تقول:
-حق ماذا يا أم قاسم! بعد كل هذه السنين تذكر أن له حق في رؤية ابنته، إذا كان يتذمر أن له ابنة من الأساس.
أكملت راضية:
-هو مخطيء وكلنا نعلم ذلك، لكن بالنهاية هي ابنته، ليس هناك من ينسى أولاده ربما ألهته الحياة، لكن بالنهاية عاد لرؤيتها.

هتفت كريمة بغيظ:
-عاد لرؤيتها بعدما تنصل من مسؤوليته تجاهها، بعدما تركها تكبر بعيدًا عنه، إنه لو رآها بالطريق لن يتعرف عليها، اعتادت غيابه ولم يكن له دور بحياتها، والآن يعود بكل بساطة ليراها؟!
الأمر ليس بهذه السهولة يا أم قاسم.

أردفت راضية بهدوء مدركة اندفاع كريمة بالحديث تحت أثر المفاجأة:
-وماذا عنها هي يا كريمة؟ ألم تفكري أنها قد تحتاج والدها؟ تحتاج وجوده بجانبها، علينا أن ننحي تلك الأمور العاطفية جانبًا، ما دام الأمر يتعلق بسيليا.

نقلت أنظارها إلى جميلة التي تتابعهم بتوهان ثم أكملت:
-أرى أن تعيدي التفكير في الأمر بتعقل أكثر، خذي رأيها، أخبريها بالحقيقة فهي لم تعد صغيرة الآن.

تمتمت بتخبط:
-أخشى أن يتمكن من خداعها كما كان يفعل دومًا معي وتتركني وتذهب معه.

أجابتها راضية:
-لا أظن ذلك، كلنا نعلم مدى إرتباطها وتعلقها بكِ.

رمقتها كريمة بحنق وأشاحت بيدها قائلة:
-اسمعي يا جميلة، استخيري الله وبعدها فكري بالأمر جيدًا، فهو لم يكن ملاكًا بجناحين، انظري إلى نفسك وإلى شبابك الذي دفنتيه خلفه، وإلى عمرك الضائع على ابنته وانتِ تعيشي على ذكراه، كل هذا عليه أن يدفع ثمنه ولا يمر بسهولة هكذا.

أنبتها راضية قائلة:
- قولي كلمة طيبة يا أم عدي هداكِ الله.

تحفزت كريمة بمجلسها وأردفت:
-أنا لا أفهم تلك الأمور العاطفية، لكن ما فعله بها لابد ألا يمر مرور الكرام هكذا، يأتي بكل وقاحة ويطالب حقه برؤية ابنته؟!
أين حقها هي الذي أهدره عندما تزوج عليها دون علمها؟!
اين حق ابنته عليه عما مرت به بحياتها؟!
أنت من عليك قول الحق يا أم قاسم، فما مرت به جميلة لم يكن هينًا أبدًا.

ردت راضية بطريقتها الهادئة:
-أعلم أنه لم يكن سهلًا عليها، لكن ماذا بعد؟
ما حدث قد حدث وانتهى الأمر، مر عليها ما مر وكبرت ابنتها وفي عامها الأخير من إحدى جامعات القمة، أريدها ألا تحصر نفسها بين الإنتقام من أجل الماضي أو الخوف من المستقبل.

التفتت إلى الأخرى التائهة بينهم وأردفت:
-الله وحده يعلم، أني لم أقل ما أقول سوى لتنفضي عنكِ الماضي بذكرياته التي تحمل من الألم ما ينغص عليكِ حياتك، يكفي ما مر من عمرك حبيبتي.

أومأت لها بإبتسامة خافتة ثم تمتمت:
-أعلم يا راضية، وكريمة ايضًا تقول ما تقول لأنها حزينة على ما مررت به، سأستخير الله وبعدها أتحدث مع أبا قاسم وأبا عدي، ويفعل الله ما يريد.

***

عاد من الخارج فلمحها تخرج من شقة عمها، ورغم يقينه أن عدي ليس بالداخل، لأنه لن يرى سيارته بالأسفل، لكن هناك شيء أشعل الغيظ بداخله، كلما تذكر كلمات عدي ومحاولاته لإستفزازه يزداد الحنق بداخله.
ابتسمت له بتلقائية وبريق لامع يطل من غابات الزيتون خاصتها.
نظر في ساعة معصمه ثم رفع عينه إليها قائلًا بحدة مصطنعة:
-ما الذي تفعليه عندك لهذا الوقت؟

رمقته بإستغراب وأجابت:
-كنت أجلس مع ألما، الجميع يجتمعون مع أمي بالأعلى، فانتهزت الفرصة.

مسح على شعره الكثيف وسألها بنبرة أقل حدة:
-آخر يوم في إمتحاناتك الغد أليس كذلك؟

انتابها التوتر بمجرد ان ذكرها بالإمتحان، فأومأت له ليكمل:
-ذاكرتيها جيدًا؟!
رفعت يدها تعيد خصلة من شعرها القصير احتضنت وجنتها عندما أومأت له قائلة:
-نعم، ولكني سأصعد الآن وأراجعها حتى لا أنسى شيئًا، رغم أني أشعر أني نسيت بالفعل.

ازدرد ريقه وهو يتابع حركاتها التلقائية بلهفة اجتاحت قلبه:
-لا سيليا، أنتِ ستصعدي الآن وتنامي مبكرًا حتى لا تصابي بحالة التوتر التي تصيبك قبيل الإمتحانات.

-لكن.
قاطعها قائلًا:
-بدون لكن، إهدئي، فما هو سوى إختبار، فعلتي ما يجب عليكِ فعله وانتهى الأمر.
ابتسمت له ونبرته تدغدغ أعصابها، أعادت خصلاتها الكستنائية المتمردة للخلف مرة أخرى ثم قالت:
-هل ترى ذلك.
سحب نفسًا عميقًا يخفي مشاعره ثم تمتم هامسًا
-ولا أرى سواه.
ثم أجبر نفسه على التحرك وصعد لأعلى وهو يقول بحنق مصطنع:
-هيا اصعدي ونامي.

تابعت صعوده بإبتسامة لامعة، ثم تبعته وصعدت هي الأخرى إلى شقتهم.

***

جلس على السلم العلوي المؤدي إلى سطح البيت يدخن سيجارته ويخفض رأسه إلى أسفل، لمح أحد يقف أمامه، فرفع أنظاره إليه ليجده أخيه الأكبر يقول مناكفًا:
-لا زلت تختبئ وأنت تدخن سجائرك، كما كنت تفعل بالماضي.

ابتسم عمار وقد لاح طيف من الماضي أمام عينيه فرد مجاريًا أخيه:
-إلى الآن أشعر بحرج أن أفعلها أمام أبي أو عمي.

صعد قاسم عدة درجات وجلس بجانب اخيه ثم لكزه قائلًا:
-أتتذكر حين كنت تدخن على السطح مع عدي ورآكم عمي.
أومأ له عمار وبدأت الضحكة تلمع بعينيه ثم أكمل سرد القصة:
-نعم، حينها رميتها على عدي وأنا أقسم لعمي أنها لا تخصني، وعدي يسبني بغضب لأني رميتها على قميصه فاحترق، عندما انتبهت ورأيت الغضب بعينه قفزت على السطح المجاور لنا.

-وعمك يصرخ من الأعلى تخشاه ولا تخشاني.

قالها قاسم ثم انفجرا من الضحك وهم يتذكران طفولتهم المرحة.
عدي، قاسم، عمار
ثلاثة أسماء لم يفترقا مطلقًا بل كانوا مقترنين ببعضهم، إذا أرادوا أحدهم يجدوه إذا وجدوا الباقيين، هم عصبة لا تنفرط، هكذا رباهم الجد الأكبر عزالدين الخيام.
باغته قاسم حين قال:
-هل تصدق أن عدي سيتزوج سيليا حقًا؟!

سحب عمار نفسًا عميقًا من سيجارته ثم ماجها في الهواء ببطء وحرك رأسه يمينًا ويسارًا برفض قائلًا:
-لا لن يفعلها، هو فقط يتعمد إغاظتي لسبب لا أعلمه.

نظر له قاسم بمكر وسأله:
-وما الذي يغيظك في ذلك؟!
يريد منه اعترافًا وهو غير مستعد له الآن، حتى لو انفجر قلبه بداخله، وفاضت مشاعره وتبعثرت حوله كالمجذوب، لن يعترف بما لا يريد الإعتراف به.

تنصل منه حين سأله مغيرًا الموضوع:
-هل حدثك عدي اليوم؟

فهم قاسم أن أخيه يهرب من الإجابة فنفى قائلًا:
-لا، وأظن أنه لم يعد بعد.

دث يده بجيب بنطاله وأخرج هاتفه واتصل به.

انتظر قليلًا حتى جاءه صوت عدي:
-نعم عمار.

-هل لازلت إلى الآن بالمصنع؟

-لا أنا بالمشفى، أصيب العم كامل بوعكة صحية.

تلعثم عمار وهو يسأله:
-بأي مشفى أنت.

أملاه عدي اسم المشفى وأخبره أن يطمئن الجميع ثم أنهى المكالمة.
سمع قاسم الحديث الذي دار بينهم فقال وهو يهم بالنهوض:
-سأذهب إليه لن أتركه بمفرده هناك، ألن تأتي معي؟

حك عمار أسفل رأسه ثم قال:
-لا، اذهب إليه أنت، وإن احتجتما شيء أخبراني.

رمقه قاسم باستنكار، ثم هبط إلى الأسفل.

راقبه عمار حتى تأكد أنه غادر المكان، ثم أمسك هاتفه مرة أخرى وأجرى اتصالًا آخر وحين جاءه الرد، قال بصوت قوي رغم خفوته:
-فلننهي أمره الآن.

***
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي