الفصل التاسع

"جئتك يا بحر تائهة، أفضي إليك شكواي
روحي بالبرية ضائعة، وقلبي يتوق إلى سكناه
يا من رُميت بك هموم الأحبة فهاجت جوارحه،
وأنا العليل جئتك سائلًا، فلا تردني خائب الرجاء"

في حضرة البحر وأمواجه الهوجاء، ضرباته العنفوانية وغمامه الأسود الذي تضامن مع قلبها الغائم فتجمعت في سماءه وتساقطت منها قطرات الشتاء الخافتة لتختلط مع دموع عينيها الحارقة وصرخات روحها العالية.
هنا جلست على رماله الندية غير عابئة بأطراف ثيابها الذي يحتضنها ماء البحر المزبد.

جلست تعاني ككل مرة تراه بها، يزورها كالفرح.. كطيف لامع في السماء، كضيف خفيف المزار، وزائر نَدّي الطلة ما تكاد عينيها تتشبع من رؤيته، حتى يسارع مغادرًا تاركًا قلبها يتألم مجددًا، تنجرح ندوب روحها مرة أخرى فتتقيح ألمًا مذريًا.

رفعت عينيها المبللة بدموع تحجب عنها الرؤية بوضوح، تنظر أمامها بتيه وشرود وهي تتذكر ما حدث معها قبيل ساعة من الآن


قبل ساعة:

أنهت محاضراتها وتلك الفكرة الجنونية تشتعل برأسها شيئًا فشيئًا، طموحة هي بأفكارها المتهافتة،
فتاة جامحة تحب الحياة، تكره ذلك الروتين الممل، مميزة لكن لا أحد يُقدر هذا، بينما هي تعلم قدر نفسها جيدًا، تحارب كي تخرج من تحت شباك عنكبوتية ضاغطة لتطلعاتها، ولن تبرح حتى تنفذ ما أرادت حتى لو حاربها العالم بأسره.

أتجهت للخروج من الجامعة فوجدته أمامها.
ثوان توقف بها الوقت ثم عاد قلبها ينبض بإسمه من جديد، وهو القاسي بعشقها، المعذب لجميع جوارحها، ذلك الغائب عن عينيها الحاضر بروحها لا يغيب.
إبتسامة تلقائية تراقصت بعينيها وإنحدرت بتمهل لتستقر على شفتيها المكتنزتين، وطيور السعادة ترفرف بفؤادها العليل.

دنى منها ووقف فاردًا جزعه أمامها وإبتسامته الودودة محفورة على ملامحه، تأملها قليلًا ثم سحب نفسًا عميقًا ملأ به صدره وتمتم قائلًا:
-كيف حالك يا أسيل، إشتقت إليكِ.

غاصت بضحكة عينيه العسليتين وتنهدت بقوة تستجمع حنقها منه فقالت بمعاتبة:
-الآن فقط تذكرتني يا أحمد؟!

أخفض رأسه وعبث بشعره بحرج ثم عاد ونظر إليها مجددا ورد:
-تعلمين أن لدي الكثير من الأعمال، فليس لدي وقت ل..

قطع حديثه عندما لمح تلك النظرة المتألمة بعينيها ففرك جبينه بتوتر ثم زفر بقوة وقال:
-توقفي عن إلقاء هذا السؤال في وجهي كلما رأيتني.

أشاحت وجهها تخفي ابتسامة شقت ثغرها على طريقته الطفولية، لكنه لمحها فمال بإتجاهها ثم أردف بمرح:
-ها قد ضحكت، وهذا يعني أن ليس هناك ضغائن داخلية ولا أي داخليات مستنزفة كما تقولي دومًا، أليس كذلك؟

جلجلت ضحكتها السعيدة عاليًا وهي تتلمس روحه المرحة حولها ودفئه الذي يخيمها بوجوده، فاحتضنت حقيبتها وقالت بحنين متألم:
-إذا لا يوجد ضغائن داخلية، فهذا لا يعني أن داخلياتي ليست مستنزفة يا أحمد، ما أعانيه بسببك يفوق الإحتمال صدقني.

تمتم بصدق:
-أعلم أن نزواتي كثيرة، وأخطائي أيضًا تتكاثر مع الوقت، لكنك وحدك تعلمين مكانتك عندي، أنتِ وحدك من تملك جزءا من قلبي أسيل.

أومأت له قائلة:
-أعلم، وأعلم أني ليس كالباقيات اللاتي تتسكع معهن كل يوم وليلة، وأني أملك ذلك المكان القاصي بقلبك، أعاني هناك وحدي، وما أدراك ان تتألم ولا يشعر بك حتى من تتألم لأجله.


مسح وجهه بكفيه ثم قال:
-لا أستطيع إدراك ما تعانيه حقًا يا أسيل، لكني الآن فقط شعرت بذلك.

صمت قليلًا لا يجد كلامًا يخفف به كل ما تحمله من الآم، فأكمل:
-أنتِ تعلمين كل شيء عني، لا أخفيت عنك ولا كذبت عليك أبدًا، ما عليك سوى تحملي.

إبتسامة متألمة إنحنت على جانب ثغرها وهي تتمتم:
-أتعلم لِما لا تستطع إدراك ما أعانيه يا أحمد؟ لأنك واثق أني مخلصة لك ولحبك الراسي بقلبي، لم تراودك مرة خاطرة أن قلبي قد يميل لشخص آخر أو ربما أوافق على أحد العرسان الذين يتقدمون لخطبتي، أنت في منطقة الراحة يا أحمد، أما أنا فأتألم وأعاني كل لحظة وأنا على يقين أنك مع فتاة جديدة كل يوم.

أنهت كلماتها بإنفعال، فصمتت قليلًا لتعيد ترتيب أفكارها حتى سمعت صوت أنثوي من خلفها يقول بميوعة:
-أحمد! أنت هنا؟! ألم تخبرني أن لديك موعد هام اليوم؟
حك شعره بارتباك وهو يشير بعينيه على أسيل ثم قال:
-نعم، هذا هو الموعد الهام.

-لا تضيع وقتك أبدًا يا أحمد.
قالتها بنبرة لئيمة وتلتها بضحكة رقيعة جعلت النار تدب في قلب الأخرى التي لملمت كبريائها وتحركت من أمامه، فأمسك بيدها حتى يوقفها، لتنفضه بعيدًا عنها وهي تقول والدموع تترقرق بعينيها:
-ما الذي أتى بك يا أحمد؟

رمقها بإستغراب فأكملت بألم:
-لماذا عدت يا أحمد؟

قال معاتبًا:
-ألم تشتاقي لي أسيل؟

أجابته بنبرة حزينة:
-بلى، إشتقت، لكن قلبي لم يعد يحتمل، استهلكت روحي كاملةً ولم تعد لدي طاقة لأي شيء آخر.

تأمل عينيها والدموع تترقرق بداخلهما بكبرياء يرفضون الخضوع، ولا يعلم لما انقبض قلبه حين قالت:
-عد كما كنت، ارحل.. واتركني أطبب نزف جُرحي بغيابك.


أفاقت على صوت الرعد القوي وهذه الأجواء التي لا تتناسب مع هذا الوقت من العام، فالشتوية لم تحل بعد، بالكاد تساقطت أوراق الأشجار، وبدأت الشمس بمواراة دفئها وصدرت لنا نسمات الرياح الباردة.
انتبهت لذلك الصوت الحانق من خلفها يقول بقوة:
-انهضي يا فتاة، فلا أحد يستحق ما تفعلينه بنفسك لأجله.

التفتت إليه لتجده أحد الصيادين الذي حفرت الحياة على وجهه خطوطهًا، وصبغته الشمس بلونها، وبرغم نبرته القوية فكان الدفء بعينيه نديًا.

مسحت عيونها بكمها المبلل بمياه الشتاء، ثم استقامت من جلستها وقالت له:
-لديك كل الحق فلا أحد يستحق.


***
بعد عدة أيام
بدلت ملابسها سريعًا لأخرى رجولية واسعة وأحكمت حجاب رأسها إلى الخلف ثم أخفته بطاقية ليكتمل مظهرها الذي يخالف طبيعتها الأنثوية.

نبح الكلب بفرح عندما وجدها تخرج من غرفتها، فاستقبلته بإبتسامة جميلة وهي تراه يستعرض حركته أمامها، يأتي ويذهب أمامها بخيلاء، فجثت على ركبتيها أمامه ليسرع إليها ودنى منها يتمسح بها.
مسدت على رأسه وهي تقول بسعادة غامرة:
-حمدًا لله على سلامتك يا صديقي، سعيدة لرؤيتك تتحرك بأريحية هكذا.

إستقامت ودخلت المطبخ فتبعها، نظرت له بحب وتمتمت ببعض المرح:
-صرنا نتحرك هنا وهناك، لم يتبعني أحد بهذا الشكل من قبل.

جلبت بعض الأواني ووضعتهم بالمكان الذي خصصته له فأسرع يأكل بنهم لتقول:
-بما أن صحتك اصبحت أفضل الآن، فسأذهب للعمل اليوم، مر وقت طويل وأنا أتركه يذهب وحده وصحته هذه الأيام لا تعجبني، أشعر أن هناك ما يؤرقه ويقلقه، ربما زاد ضغط العمل عليه.

تنهدت وأكملت تحدث الكلب الذي منهمك بالطعام:
-أشعر بضميري يؤنبني أني تركته كل هذه المدة يذهب إلى العمل وحده.

إنتبهت لشيء فأردفت:
-لما لا أطلق عليك إسمًا؟

أخذت تفكر قليلًا ثم قالت:
-اسمع أنا لا أحب تلك الأسماء المائعة مثل روي وهاسكي وغيرها، سأسميك..

قالت بحماس
-وجدتها، سأسميك شفيق.
نظر لها الكلب ببلاهة فرفعت حاجبيها قائلة بإستنكار:
-ماذا؟ ألا يعجبك شفيق؟!
إستقامت من جلستها وهي تشير له بيدها بتذمر:
-لن أغير رأيي، اسمك من اليوم شفيق ولا اريد اي إعتراض.
قالتها وربطت الكلب حتي لا يؤذي نفسه في غيابها ثم خرجت إلى العمل.


***
وقف كامل أمام المقود يصنع القهوة الذي طلبها عدي وذهنه شارد بتلك المكالمات التهديدية التي تُلح عليه منذ عدة أيام، يتكتم على الأمر خوفًا على ابنته.
أخرج الهاتف من جيب بنطاله عندما سمع صوت التنبيه عن رسالة قادمة، تسارعت ضربات قلبه واتسعت عيناه وهو يرى صورة ابنته أمام المنزل الذي يقطنونه، صدح صوت الهاتف، فارتجفت يده وهو يرى رقم مجهول آخر.

رفع الهاتف إلى أذنه ليأتيه صوتًا يقول:
-ربما حديثنا الأيام الماضية لم يكن كافيًا لتنفذ ما نريد، فأرسلنا لك تلك الصورة التي التقطناها منذ قليل، ابنتك في طريقها إليك، نتتبعها خطوة بخطوة، إذا أردت أن تظل سالمة، سلمنا ما لديك، ونصيحتي إليك لا تخبر أحدًا حتى لا يلحق بك أو بإبنتك أي أذى.

تجمعت حبيبات العرق على جبينه، وبدأ الألم يتسلل إلى صدره شيئًا فشيئًا، وضع يده عليه متحاملًا على الألم الذي ينخر به، كمن يلهث للحياة سحب نفسًا عميقًا يجاهد به ضيق التنفس الذي أصابه، تشوشت الرؤية أمامه وآخر مارآه هي القهوة التي فارت كفوران الدماء برأسه وقطرات الدماء التي تساقطت تنك من أنفه، فاستسلم للسكون حوله وارتمى بجسده ارضًا لا يشعر بأي شيء حوله سوى الألم الذي ينغز صدره.

صرخة مدوية جعلته يتشبث ببقايا وعيه، ونظرتها الهلعة وإقترابها وهزها له بقوة جعلته يطمئنها بإبتسامة خافتة.. متعبة.

جثت بجانبه ودموعها انهمرت على وجنتيها دون وعي منها، صدمة احتلتها وهي تراه ملقى أرضًا ينازع للحياة، ما تخشاه الآن هو الفراق، فراق حتميًا سيمزق قلبها وستحمل هي عواقبه وحدها.

-أبي
صرخت بمرارة وحدتها، صرخة اخترقت ذلك القلب الذي يجلس خلف مكتبه والذي انتفض وخرج مسرعًا ملبيًا نداء قلبه أنها هي.

اقترب من تجمع العمال الذي أغلق الطريق إلى غرفة "البوفيه".
أمرهم بصوته الرخيم ان يتنحوا جانبًا، فوجدها تفترش الأرض بجانب كامل والألم يضج من عينيها، تمتم بعدم تصديق:
-أنتِ؟!
انتبهت لصوته فالتفتت إليه وقالت بنبرة راجية ودموع لم تستطع وأدها:
-ساعدني، أرجوك.

نخر الألم صدره لأجلها ونبرتها تسللت لأعماق قلبه لتتسبب بضجيج غائر بداخله، لكنه استحضر الموقف أمامه فأسرع يصرخ بالموجودين:
-هيا، افسحوا الطريق.

قالت أحلام التي وقفت تكفكف دموعها:
-اتصلت بالإسعاف وهم بالطريق.

-ليس هناك وقت يا أحلام، سأنقله بسيارتي لأقرب مشفى.
قالها وهو يرفعه على كتفه ويتجه به إلى السيارة.
***
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي