نوفيلا عشق

nashwaaboalwafa`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-03-11ضع على الرف
  • 22.6K

    جارِ التحديث(كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

1 الفصل الأول

لا تدخر الحياة جهدها في الزج بنا في أحلك الصراعات، فما بين القلب والعقل صراع لا ينتهي وألم لا ينضب، وما بين المشاعر والأحاسيس النابعة من القلب بلا تفكير،
وما بين القرارات الصادرة عن العقل، تعتمل تلك الصراعات، مخلفة العديد من الضحايا.
فهل سينتصر القلب؟ معلنًا فرض سيطرته، أم سيرفع العقل رايات النصر ويُحكم قيوده حول القلب.
هذا الصراع هو ما عايشه آل السيد على مر الأجيال.
آل السيد عائلة قديمة كما الزمن، راسخة كما رسخ أبو الهول على هضبة الجيزة ولم يفارقها، جذورها ممتدة كأشجار الزيتون، كبيرها هو الحاكم، الآمر الناهي، حتى على القلوب والمشاعر.
حكايتنا تقع بالتحديد ما بين قاهرة المعز ونجع السيد الذي يحكمه بقبضة من حديد السيد الكبير المتزوج من رباب ابنة الشيخ دياب السيد فرجال آل السيد لا يتزوجون إلا من نساءها إنه حكم واجب النفاذ، فهل تترك نساء السيد لرجال غرباء؟!
ونبدأ حكايتنا
في بيت قديم نال منه الزمن بأحد الأحياء الشعبية، ترقد رباب على سريرها المتهالك، تلتمس من الحياة راحة، تغوص في سبات عميق علها تجد فيه السلوان أو تنتزع من بين براثن أحلامها السعادة والهناء اللذان طالما تُمني نفسهما بهما.
لتفتح ذللك الباب الخشبي المتشقق والدتها رجاء، سيدة خمسينية، ما زالت قسماتها تحمل لمحة من الجمال تدل على ذلك الحُسن الذي كانت تمتلكه في شبابها، هزتها والدتها
برفق:
- استيقظي، هيا لكي لا تتأخري.
تثاءبت، وأزاحت عنها الغطاء الذي كانت تتدثر به:
- استيقظت يا أمي، صباح الخير، سألحق بكِ.
غادرت والدتها الغرفة، بينما سحبت هي نفسًا طويلًا لتزفره في قوة وألم، ذلك الألم الذي يرافقها كظلها يوميًا بتلك المعاناة التي تعيشها لتكسب قوت يومها، لقد ملت من تلك الأماني التي تحيا عليها بأنه يومًا ما سينصفها القدر، وتنال ما يليق بها، إنها ابنة آل السيد، أشراف الصعيد وأكابرها، تعيش ذليلة تعاني وأخويها شظف العيش، يدفعون ثمن جريرة والدها ربيع الذي وقع عاشقًا لوالدتها، بدون أن يأخذ تصريحًا لذلك العشق من الحاج السيد مالك مقاليد العائلة والحاكم على قلوبها، والذي فور علمه بتلك الزيجة وذاك الارتباط الخاطئ أمر بإنهائه، وحكم بأن يرمي والدها يمين الطلاق على والدتها ويقطع كل صلة له بها، تلك القاهرية الفالتة على حد قول جدها، لكن القلب لم يخلق للتقييد، ورفض الانصياع لسلسلة التقاليد، ليعيد والدها والدتها لعصمته في السر، ولذلك لا يستطيع والدها رؤيتهم أو التواصل معهم إلا في أضيق الحدود.
زفرت مرة أخرى بقوة، لكم تمنت أن تمحي ذاك الماضي الذي يدنس حاضرها ومستقبلها، لكم كرهت حتى سماع اسم والدها، وما زالت تتعجب من والدتها التي تذوب عشقًا من مجرد ذكر اسم ربيع أمامها، كرهت ذاك الحب الذي في رأيها لا يستحق إلا الوأد، فذاك المسمى لها أبًا لا يرسل لهم إلا الفتات، وحتى ذلك الفتات لا يرسله بانتظام، يعيش هو في ورف القصور، بينما تعمل هي في محل بوسط البلد في الحسابات، وتعمل والدتها في مصنع للملابس، حتى أخويها فهما يعملان في ورشة للسيارات بيوم عطلتهما من المدرسة والإجازة الصيفية.
اعتدلت في سريرها، تدعو الله أن يلهمها الصبر على يوم سيكون تكرارًا لأيام قد مضت
وأيام ستمضي، متشابهة تلك الأيام.
ارتدت ملابسها البسيطة، بنطلون من الجينز الأزرق الداكن، وفوقه بلوزة زهرية اللون
ورفعت ذلك الشعر البني الناعم الطويل على هيئة ذيل حصان ثم قامت بتضفيره.
خرجت رجاء من غرفة ابنتها وقلبها محمل بالهم والتعب، لقد كبرت على هذا الشقاء،
ونالت منها الحياة ما نالت، تساؤلات تتوالد في عقلها وتتزايد كل يوم، هل سيأتي عليها اليوم الذي تنعم فيه بأحضان حبيب عمرها ربيع بعد كل ذلك البعد؟ هل سينعم أولادها بالنعيم الذي يستحقونه؟
نفضت عن رأسها كل ما يتصارع بها من أسئلة لتدخل غرفة ولديها التوأم نبيل وراضي بالصف الثالث الإعدادي، اللذان ورثا وسامة والدهما وجسده الفارع الطول.
هزت نبيل برفق:
- صغيري، هيا حان موعد المدرسة يا ولدي.
أزاح نبيل الغطاء:
- حسنًا أمي لقد استيقظت.
غادرت وهي تشير له على راضي:
- تصرف معه.
ابتسم نبيل ووكز راضي:
- هيا سنتأخر.
فشد راضي الغطاء عليه:
- اذهب أنت، أنا لا أريد الذهاب اليوم.
ليصدح صوت رجاء عاليًا من الصالة:
- ما دمت لا تريد الذهاب للمدرسة فلتنزل للورشة.
ما أن سمع راضي ذكر الورشة حتى هب واقفًا وهو متجهم:
- لا، سأذهب للمدرسة، يكفيني عمل الورشة في الإجازة الأسبوعية.
اجتمع الجميع لتناول الإفطار
على الطاولة رصت أطباق الفول بالزيت والطعمية, الجبن الأبيض والخبز،
ليبادر راضي بالتبرم من الإفطار المتكون من الفول، فلكزه نبيل طالبًا منه أن يحمد الله فغيرهم لا يجد حتى الفول.
فسألته رباب:
- وماذا تحب سيادتك أن تفطر؟
أجاب متخيلًا شكل الأطعمة:
- جبن رومي، بيض مقلي، لانشون، سجق، أشياء من هذا القبيل.
ضحكت رباب:
- أيها الجاحد، ألا أحضر لكم هذه الأطعمة لإفطار يوم الجمعة، ثم إن هذه الاطعمة لن تظل في معدتك طويلًا، ولن تعينك على العمل، لربما أكلتنا بعدها.
قاطعت رجاء حديثهم منبهة لهم بإكمال افطارهم لكي لا يتأخروا.
نزلت رباب وأخويها مارين بطريقهم على ورشة حسن الميكانيكي الذي يعشق رباب ويتمنى الزواج بها، لكن أمها تتعلل بغياب والدها وأنه فور قدومه ستزوجها له (كانت تخبره بهذا لكي يكف عن الالحاح، وليستمر في جعل نبيل وراضي يعملان عنده ليساعداها في المصاريف)
ألقى حسن التحية وعيناه موجهتان نحو رباب تكادان تخترقانها، فردت التحية في وجوم،
وأخبر نبيل وراضي ألا يتأخرا يوم الجمعة فالعمل كثير.
وصلت رباب المحل فطالعها ابن صاحب المحل بنظراته الطامعة في جمالها، وهي لا تعيره أي انتباه ولا تفكر فيه أبدًا، فكل ما يشغل بال رباب هو عملها، لكي تستطيع العيش في هذه الدنيا وهي تلعن الأيام وحظها الذي جعلها تذوق العوز والفقر مع أن والدها من أغنى الأغنياء، كانت تتعجب كيف تصمت والدتها عن والدها؟ ولم لا تطالب بحقها في معيشة هانئة بدلًا من الضيق الذي يعانونه.
وهكذا تمر أيامهم...
طوال الأسبوع تعمل رجاء في المصنع، ورباب في أحد محلات وسط البلد، وفي يوم الخميس تقبض رباب راتبها الاسبوعي وتشتري لهم البيض والجبن الرومي واللانشون لإفطار صبيحة الجمعة.
وتمضي يومها ووالدتها بتحضير وتجهيز أكل الاسبوع بينما يمضي الصبيان وقتهما في الورشة.
نزلت رباب لإحضار بعض البقول للمنزل وعندما عادت وجدت والدتها تتحدث بالهاتف
- لقد اشتقت إليك يا ربيع، والأولاد مشتاقون لك جدًا، إن نبيل وراضي دائمًا ما يمسكان صورتك ويحدثانها، ويفرحان جدًا عندما يريان صورتك منشورة بالجرائد، ويتباهيان بها أمام أصدقائهما، لكن لا أحد يصدقهما، بل وينعتونهما بالكاذبين، وإنه بالتأكيد مجرد تشابه في الأسماء.
ليأتيها رده:
- وأنا يقتلني شوقي لكم يا حبيبتي، ويؤلمني ما يقاسيه الصبيان، لكن ما باليد حيلة.
تنهدت رجاء:
- ألن نراك قريبًا؟
- أتمنى ذلك، لكن تعرفين انتقالي بدون درية صعب، إنها ملاصقة لي كظلي، أعرف أني مقصر معكم وأن ما أرسله لك من نقود لا يكفي.
قاطعته:
- إياك أن تفكر بشيء، نعيش مستورين، وكل ما نحتاج إليه هو رؤيتك.
عندما رأت رباب والدتها تتحدث وفهمت من سياق الحديث أنها تهاتف والدها، سارعت بالدخول لغرفتها.
بينما أكملت والدتها حديثها:
- حاول أن تتكلم في المساء ليكون الصبيان هنا فهما يريدان محادثتك.
- حسنًا حبيبتي، لا إله إلا الله.
قالت بتنهد:
- محمد رسول الله.
ثم دخلت غاضبة لغرفة ابنتها:
- أستظلين هكذا، في المرات القليلة التي يهاتفنا بها ترفضين الحديث معه؟
ردت بضيق:
- نعم أرفض، ولن أكلمه.
ردت رجاء بتودد:
- إنه والدكم ويحبكم وأنا أحبه كثيرًا.
قالت رباب بغضب:
- أنتِ تحبينه، أما أنا فلست مجبرة على حبه أو تقبل عجزه، وبم نفعك حبه يا أمي؟ لقد تركنا للشقاء، والعوز، نحن نغرق في الفقر المدقع، بينما هو يغرق في الثراء الفاحش، نعيش في بيت يكاد يسقط علينا، بينما هو يعيش في قصر منيف.
ثم رفعت كفيها وقالت بنفاذ صبر:
- إنه أبي بالاسم فقط، وهذا يكفي، سأخبرك ما أعلمه يقينًا وأخفيه عنكِ، ربما أفقت من ذاك الحب الأفلاطوني، وتركت أمل مجيئه لنا في يوم من الأيام وعشتِ الواقع أمي، حبيبك الذي تعشقينه كما تقولين متزوج، ورأيت صورة زوجته بجواره في المجلات في افتتاح فرع شركتهم، فرع ثالث أمي بشراكة أجنبية، أتعلمين معنى هذا، إنه يمتلك مليارات، مليارات أمي ونحن هنا لا نمتلك لقمة عيشنا، أفيقي يكفيكِ أوهمًا عن حب لا يوجد إلا برأسك
ضربت رجاء على صدرها بحرقة متحسرة على طريقة كلام ابنتها معها:
- أهكذا تحدثينني؟ يا خسارة سهري عليكِ وتربيتي لكِ، الحقيقة، تريدين الحقيقة، أنا أعلم كل ما قلته، وأزيدك من الشعر بيتًا يا ابنه بطني، والدك متزوج وليس بامرأة واحدة، بل بثلاث.
جحظت عينا رباب تعجبًا.
لتكمل والدتها:
- أولهم، ونيسة ابنة خاله حسن، وحورية ابنة عمه عمران، وحسنات ابنة عمه جمال، وبالتأكيد تلك هي التي رأيتها معه في الصورة فهي لا تفارقه، ماذا تريدين أن تعرفي أكثر؟
صرخت رباب محركة يديها أمام وجهها:
- أنا لا استوعب هذا! كيف تعرفين كل ذلك وتظلين صامتة، راضية بهذه المعيشة.
أجلستها رجاء على السرير وجلست بجوارها:
- يا ابنتي افهميني جيدًا، جدك رجل صعب جدًا، لا مثيل لغضبه وشدته، أتعرفين ما قد يفعله بوالدك إن نما لعمله أنه كذب عليه وأعادني لعصمته، قد يقتله، ليس قد بل سيقتله.
ردت بتوجع:
- يا أمي أنت لا تعلمين ما أقاسيه في العمل ومن الناس، أنا لا أحكي لك إلا جزء يسير مما أجابهه.
ربتت على كتفها:
- أعلم يا ابنتي، ولكني كذلك أعلم كيف ربيتكِ، وأنتِ على مستوى المحنة التي نحن فيها، فأنت ابنة رجل وأخت رجال.
فقبلت رباب رأسها:
- سامحيني على ما بدر مني، وإذا كنتِ تريدين مني محادثته، سأحادثه عندما يتصل، أو هيا اعطني رقمه وسأهاتفه الآن، وابثه شوق وحنين ابنة تشتاق إلى والدها الغائب.
حركت رأسها بلا:
- عندما يتصل هو، لا نريد التسبب في مشاكل له.
نظرت لها نظرة طويلة متعجبة:
- أتحبينه لهذه الدرجة أمي؟
لمعت عيناها قائلة:
- بالطبع، وهل خفق القلب إلا له، ربيع يسكنني، إنه كل ما لي في هذه الحياة، ولا تكتمل روحي إلا معه.
ضحكت رباب:
- ولكني أريد أن أعلم لماذا لم ينجب شهريار زوج الأربعة من حريم السلطان الثلاثة، وأنجب منكِ فقط.
ضربتها رجاء على رأسها ممازحة:
- تريدين معرفة كل شيء، حسنًا اسمعي، بعد حملي بك وزواجه حدثت له حادثة في تصادم كبير أثرت عليه وظل فترة طويلة يتناول الأدوية ليعالج ما أصابه وأثر ذلك عليه، بعدها حدث الحمل في أخويك، ولكن لم يكتب له الله الإنجاب من أي منهن، إنها إرادة الله ابنتي، لحكمة لا نعلمها، والآن يكفيك أيتها المزعجة، هيا حضري الطعام.
مرت الأيام على رجاء وأولادها يتلمسون فيها سبل عيشهم ويواجهون الدنيا، بينما ربيع يواصل سعيه في حياته وعمله وشركات والده ممزقًا بين والده وخوفه منه وبين رغبته في رؤيه أولاده وتوفير الحياة المناسبة لهم كما يليق بهم، خاصة أن ابنته الآن يأتيها الكثير من العرسان وأمها تتحجج في برفضهم بشتي الحجج.
إلى أن حل ذلك اليوم العصيب على ربيع، لكنه قلب كل الموازيين وبدل حياته من بعد القسوة للراحة النفسية و الظفر بما أراد فبعد كابوس مريع عاشه ربيع في ليلة حالكة السواد استيقظ فيها فزعًا يقطر العرق من جبينه، وتلهث أنفاسه ولكأنه قد أنهى سباقا ماراثوني، كان الخوف والقلق يعتصرانه، ويفتكان به على أولاده ومستقبلهم المجهول بعد أن رآهم في كابوسه وقد ألقوا في حفرة وتحيطهم الحيات والعقارب يتحين الفرصة للفتك بهم، يصرخون يستنجدون به لينقذهم بينما هو مقيد اليدين لا يستطيع إنقاذهم.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي