2 الفصل الثاني

ولكأنها إشارة من الله، لا يدري من أين واتته تلك الشجاعة لما هو مقدم عليه وقد أخره دهرًا طويلًا، إنها حقًا اللحظة الحاسمة، لقد قرر ولا مفر من تحمل العواقب.
بداخل ذلك القصر الضخم المحاط بسور كبير ولكأنه قلعة من قلاع العصور الوسطى، إنه دولة متكاملة بحد ذاته، يوجد السيد، كبير نجع السيد الذي سُمي على اسمه، فالسيد هو أقوى رجال آل السيد على الاطلاق، وأشدهم هيبة وبطشًا، إنه السيد عبدالسميع كبير أكابر الصعيد.
لديه من الأولاد ربيع، جابر، ووهيب، جابر متزوج من ابنه عمه عمران ورد،
أخت حورية زوجة ربيع، ولديه من الأولاد خالد، رضوان، وعادل.
أما وهيب فمتزوج من صفية بنت خاله حسن، أخت ونيسة زوجة ربيع، ولديه من الأولاد زهيرة، ورقية.
جمع أولاده في قصره، كل منهم له جناحه الخاص به للنوم، أما الدور الأرضي يقيم به هو وزوجته الحاجة رباب وبه تكون المعيشة طوال النهار.
لا يستطيع أحد معارضته ولو بكلمة واحدة؛ هو حاكم العائلة بكل فروعها، لا ترد له كلمة
هو من يأمر بالزواج ولا طلاق عنده سواء كانت الزيجة ناجحة أم لا.
استجمع ربيع شجاعته وبعد تناول العشاء طلب من والده أن يحدثه في أمر هام.
توجه ربيع خلف والده لغرفة المكتب، دخل وأغلق الباب وبداخله بركان تستعر حممه الجاهزة للانطلاق، يُرتب الكلمات في ذهنه، يكاد يموت رعبًا من هذه المواجهة
والمصارحة وما ستسفر عنه، أسيقتله والده كعقاب له؟! أم سينزل به عقابًا يكون عبرة للكل؟! هداه تفكيره لطلب الأمان، نعم يجب أن يطلب عهد الأمان أولًا.
استشعر السيد التضارب الذي يعتمل في نفس ولده وبدأ الكلام:
- هات ما عندك يا ربيع، يبدو أنه مهم، فوجهك يوحي بذلك بُني.
فرك ربيع كفيه توترًا:
- نعم إنه مهم وخطير، لذا أطلب العهد بالأمان.
رفع السيد حاجبيه اندهاشًا:
- يا الله، خطورته تصل لدرجة أن تطلب الأمان! لك الأمان هيا تكلم.
ثم أسند جسده على كرسيه.
فتابع ربيع:
- لكن أرجوك ألا تقاطعني حتى أنهي حديثي.
- حسنًا، لك ذلك، تكلم.
- أنت تذكر زواجي من القاهرية يا والدي، وإجبارك لي على تطليقها، وما فعلته بي، ووعدي لك ألا أعود لها، (أخذ نفسًا عميقًا) لكنني عدت لها وأعدتها لعصمتي.
هب السيد واقفًا ليرفع العصى الآبنوسية رفيقته القوية وكاد أن يهوي بها على رأس ربيع الذي رفع يديه يحمي رأسه صارخًا:
- الأمان يا حاج، أنت أعطيتني الأمان.
أخذ السيد نفسًا طويلًا ثم زفره وعاد لجلسته واضعًا كلتا يديه على عصاته يلتمس منها الهدوء بسبب عهد الأمان الذي أعطاه لولده:
- أكمل يا ابن رباب، أكمل.
قال ربيع وقد استشعر القوة بسبب الأمان الذي منع والده من تكسير رأسه:
- يا حاج لم استطع البعد عنها خاصة بعد علمي بحملها.
هنا دق قلب والده.
أكمل ربيع:
- وبعد الحادثة وعلاجي أنعم الله عليّ بتوأم، مع أن زياراتي لها كانت قليلة.
قال السيد بغضب:
- وما الذي يضمن لك أنهم من صلبك؟ بما أنك تقول أن زياراتك كانت قليلة.
تملك الغضب ربيع حمية عن عرض زوجته:
- لا يا حاج، إن رجاء سيدة شريفة، لا يطالها الشك أبدًا، ولو رأيت الأولاد لعلمت أنهم من صلبي، إنهم قطعة منا، والشبه كبير جدًا، لا أحد فيهم ورث شيئًا من ملامح والدته، إنهم صلب آل السيد.
صمت السيد قليلًا:
- ومن أين كنت تنفق عليهم؟ وأنا على علم بكل قرش يصرف.
قال بحسرة:
- هذا ما يقتلني، أنا لم أكن أستطيع أن أرسل لهم إلا القليل من النقود الخاصة بي، كنت أرسلها مع علي ساعي المكتب، وأفهمته أنها مساعدة لأهل زميل لي من أيام الجامعة لكنك لا تحبه، لكي لا يصل الخبر لمسمعك، وأنا هنا أرفل في النعيم، وهم هناك يقاسون شظف العيش، رجاء تعمل في مصنع ملابس والولدان في ورشة وابنتي تعمل في أحد المحلات.
بصق السيد عليه ودق الأرض بعصاه غاضبًا:
- أيها الجبان، وتترك ابنتك وزوجتك تهانان هكذا لخوفك مني، أقسم أني لولا أعطيتك الأمان لكنت أرديتك قتيلًا في الحال، وتتركني هكذا لا أعلم شيئًا عنهم، وأنت تعلم أن أمنيتي أن أرى أحفادي من نسلك، ولديك عوضًا عن الواحد ثلاثة، أنقذت نفسك بطلبك الأمان يا ربيع، هيا ورائي.
خرج السيد وورائه ربيع؛ ليقف السيد في وسط القصر ويدق الأرض ثلاثًا بالآبنوسية السوداء وهذه هي إشارة التجمع والصمت الرهيب، نفس طويل قد سحبه يملأ به رئتيه ثم زفره بقوة وقال:
- ليسمع الكل الحديث، فلن أعيده أبدًا، تتذكرون بالطبع حادثة ربيع وما جرى من خروج على تقاليد آل السيد، وزواجه من القاهرية، وعقابي له وأمري له بتطليقها، لكن ربيع لم يطلقها، ما زالت القاهرية على ذمته بل له منها ثلاثة أولاد، فتاة وصبيان.
سرت همهمات بين الكل
فغضب السيد ودق الأرض بالآبنوسية السوداء ثلاثًا فصمت الكل حتى أنك لو ألقيت الإبرة لسمعت الرنين:
- القاهرية وأولادها لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، احترامهم من احترامي، والنيل منهم نيل مني أنا (ونظر لحسنات وكررها) نيل مني أنا، وبالنسبة لربيع لولا أني أعطيته الأمان قبل علمي بفعلته لكان قُتل عقابًا له.
ونظر لزوجته:
- يا حاجة رباب تقفين على أيادي الخدم ليتم تجهيز الجناح المغلق بالأعلى لاستقبالهم.
ووجه كلامه لربيع:
- أنت ستسافر لتحضرهم.
ثم نظر لزوجات ربيع (وكانت نظراته مركزه على حسنات): القاهرية وأحفادي خط أحمر، المساس به يستوجب عقابًا لا قبل لأحد به.
وأخذ ربيع جانبًا:
- تسافر الآن لهم وتحضر لهم كل ما يلزمهم، لا أريدهم أن يكونوا أقل من أي أحد من أولاد أعمامهم، ولتجعل زوجتك وابنتك ترتديان ملابس محتشمة، لم يعد لنا دخل بلبس القاهريين المنفلت، إن الفيزا معك أحضر لهم كل ما يشتهون واذهب بهم إلى كل الأماكن التي يتمنون زيارتها، أريدهم أن ينسوا ما قاسوه.
انصرف ربيع مسرعًا ولكأنه هارب من موت يطارده؛ أطلق ساقيه للريح يسابقها مستقلًا سيارته، تكاد الدنيا على رحابتها لا تسعه، يود أن ينطلق خارج مركز الأرض حيث الفضاء اللامتناهي ليجوبه فرحًا، تسري النشوة في عروقه بدلا من الدماء، يحدث نفسه
(يا الله أخيرًا، لو كنت أعلم أن الأمان سيعفيني من العقوبة لكنت اعترفت منذ زمن، ووفرت على نفسي وعلى أولادي معاناة لم يكن من داع لها أبدًا).
بينما دخل السيد غرفته ونزع عن وجهه قناع الجدية وانفرجت أساريره وسجد شكرًا لله،
عاصفة من المشاعر كانت تجتاحه تعصف به، كمٌ من المشاعر المتناقضة الآن يتداخل في كل كيانه، إنه غاضب أشد الغضب، لقد تمرد ولده وخليفته عليه، كسر سلاسل العادات
والأعراف، تزوج القاهرية التي لا يعرفون أصلها أو فصلها، استسلم ولده لحكم القلب
وعشق الغريبة، ولكنه أيضًا تغمره السعادة، تثلجه وترفرف بقلبه، أخيرًا سيرى أحفاده من ربيع قرة عينه، لقد فعلها ولده وأنجب له فرعين من الذكور ليمتدا وينغرسا بالأرض
ويكونا امتدادًا لنسل العائلة.
جمعت الحاجة رباب الخدم وأمرتهم بتنظيف الجناح المغلق، كانت حقًا تجاهد ألا تسقط مغشيًا عليها من هول تلك الصدمة التي علمت بها منذ قليل، لكنها كانت تحاول التماسك.
ثم توجهت والخوف يغزو قلبها من رد فعل السيد إلى غرفتهما.
دخلت وقلبها يدق دقات تكاد تطغى على أصوات طبول الحرب الأمازونية من شدة خوفها، دخلت لتجده ساجدًا، انتظرته حتى اعتدل وقالت:
- أقسم بالله يا سيد، لم أكن أعلم شيئًا عن هذا الموضوع.
ابتسم واحتضنها:
- لم أنتِ خائفة؟ فرحتي بنسله تنسيني كل خطأ، لا يهم الماضي، المهم الآن أنهم سيحضرون هنا، أتدرين عن رجاء إنها حقًا سيدة أصيلة، وتحملت الكثير، قليلات هن من يتحملن مثلها، أن تتحمل ولدك وتخاذله كل هذه المدة، إنها حقًا تحبه.
ضحكت:
- يجب أن تحبه أليس ولدي، وبالتأكيد استولى على قلبها، أليس الولد سر أبيه؟
فانفجر ضاحكًا:
- بالطبع سر أبيه.
ابتعدت عن حضنه وواجهته متسائلة:
- ما أسماء أولاد ربيع؟
ابتسم:
- لقد أنستني المفاجأة أن أسأله، لا يهم، إنها أيام، أو اسبوع على أقصى تقدير وسيكونون هنا.
أما الخدم فكانوا فرحين بنسل ابن كبيرهم وكانت مليحة كذلك، فمليحة ابنة الهواري السيد أحد رجال العائلة توفي والدها بعد إنجابها بقليل في حادث مروري، وتكفل السيد بتربيتها، لكنها تحب دائمًا المساعدة في إدارة شئون المنزل.
كانت ردة فعل قاطني القصر على تلك الصدمة متفاوتة
دخل وهيب جناحه وهو يقول:
- الحمد الله على نجاة ربيع، من حسن حظه أنه طلب الأمان وإلا كان الحاج قد قتله.
ضربت صفية على صدرها قائلة:
- يقتله وهو حبة قلبه.
أجابها وهيب وهو يتذكر الماضي:
- نعم يقتله، بالماضي عندما علم بزواجه من القاهرية، قام بربطه في شجرة المانجو بالحديقة عاريًا، لا يستره سوى سرواله الداخلي، بلا زاد أو ماء، ولم يشفع له بكاء أمي أو جلوسها بجواره ليل نهار، فقط وساطة الجد نبيل والجد راضي هي ما أنقذته.
ثم نادى زهيرة ورقية واحتضنهما:
- أعلم أني أحسنت تربيتكما، حاولا الاقتراب من ابنة عمكما القادمة فستكون غريبة هنا إلى أن تألف الوضع، وعاملاها بالحسني.
أكدتا له على ما طلبه منهما وانصرفتا لغرفتهما تتساءلان عن ماهية شخصية ابنة العم القادمة وكيف ستكون معاملتها معهما وهل ستكون متعالية عليهم؟ أم ستكون فتاة طيبة
واستقرتا في نقاشهما أنها إن عاملتهما بطيبة فستكونان لها كالأخوات، وإن كانت لئيمة في المعاملة فستبتعدان عنها ولا تزيد المعاملة بينهما على إلقاء السلام.
أما جابر دخل جناحه وهو يغلي والضيق باد عليه:
- أكل هذا يصدر عنك يا ربيع؟
فردت ورد:
- الحمد لله أنه فلت من العقاب، وأرضاه الله بالنسل بنين وبنات.
نظر لها جابر بغل وحسرة:
- ستظلين هكذا دائمًا، طيبتك هذه ستقتلني يومًا ما، لقد كانت مكانتي عند والدي عظيمة، فأنا والد الذكور، أما الآن فحبيب قلبه ربيع ستعلو مكانته أكثر وأكثر، فله الآن ولدان وابنة (لمعت عيناه وكأنما عثر على كنز) وأردف قائلًا :
- الآن سأنال كل شيء ستكون فتيات العائلة كلها لأولادي فلن تخرج أموالهن للغرباء، سيتزوج خالد من القاهرية، ورضوان من رقية وعادل من زهيرة.
وابتسم جزلًا.
وانصرف عنه أولاده كُلٌ لغرفته، خالد متبرم من أنه ربما يتزوج القاهرية ورضوان لا يأبه بمن سيتزوج، لكن عادل دخل غرفته مغلقًا بابها وسجد شكرًا لله فهذه القاهرية التي أرسلها الله له ستكون سببًا في زواجه بابنة عمه التي يعشقها ويعشق تفاصيلها، فمن صغرهما
وهو يدعو الله أن تكون من نصيبه، ويبدو أن دعائه قد أوشك على الإجابة.
وفي الدور الثالث حيث تقطن زوجات ربيع، دخلت ونيسة غرفتها في الجناح وحمدت الله أنه أقر قلب ربيع وأن لديه أولاد، وشكرت حورية الله أن ربيع نجى من بطش والده.
أما حسنات فكانت النيران تأكلها، وكانت تحدث نفسها ضاربة على فخذيها:
(يا الله إنه ما زال متزوجًا من القاهرية التي عشقها، لقد فعلت المستحيل لأصل له، وضعت بيدي الدواء لونيسة ومن بعدها حورية لكي لا تنجبا، فيزوجه الكبير لي، ونلت ما أردت، ويشاء الله أن لا أنجب، وكنت له كظله، أيظهر له أولاد الآن؟ إنه يحبها
والآن ستأتي هنا هي وأولادها)
ثم هبت واقفة وكأنما استحالت نظرتها شرارًا وتوعدت للقاهرية وأولادها أن انتقامها منهم سيشفي غليلها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي