4 الفصل الرابع

وصلوا أمام أحد المولات المليئة بالماركات، أدخلهم ربيع محلًا يعرف مالكه ويتعامل معه، رحب بهم صاحب المحل وطلب منه ربيع أن يساعد عائلته الصغيرة في انتقاء الملابس لكل منهم، كانت الدهشة تغمر صاحب المحل ومساعديه، كيف يكون هؤلاء هم عائلة هذا الثري؟
مظهرهم لا يوحي على الإطلاق بذلك !
حدث نفسه و ما دخلي أنا أنفذ له ما يريد.
شدد ربيع على رباب أن ترتدي العباءة وأن تكون محتشمة، اشتروا ملابس لكل منهم ووضعوا ملابسهم القديمة في كيس أعطاها ربيع للرجل العامل في جمع القمامة مع مبلغ محترم جعل فمه يلهج بالدعاء لربيع بأن يرضي عليه الله ولا يريه إلا الخير و أن يبارك له في ذريته و يرزق صغيرته بالزوج الصالح.
صحبهم إلى مطعم يقدم المشويات، وتناولوا عشاءهم في سعادة بالغة.
ثم أخذهم لفندق شيراتون الذي يرتاده دائمًا وحجز للولدان غرفة ولرباب غرفة وغرفة له
ولمحبوبته رجاء، ثلاث غرف متجاورات.
صعد كل منهم لغرفته ونبه ربيع عليهم بأن أي شيء يخطر على بالهم فليطلبوه فورًا من خدمه الغرف وألا يفكر مرتين قبل الطلب.
دخل أولاده غرفهم، انتظر إلى أن أغلقوا أبوابهم، وفتح باب غرفته، همت رجاء بالدخول فأمسك يدها:
- إلى أين مولاتي؟
ضحكت:
- إلى الغرفة، هل سنقف أمام الباب؟
ضحك ربيع ثم حملها:
- لا لن نقف سندخل.
ودخل بها غرفتها محمولة وكأنها عروس بليلة زفافها، وهي تحيط رقبته بذراعها تنظر لعينيه اللتان اشتاقت لهما كثيرًا، وما أن أغلق باب الغرفة بقدمه حتى وضعها على السرير، وسط ضحكاتها ونظراته التي تفيض رغبة وشرع في خلع ملابسه، بينما هي تتململ في السرير.
خلع ملابسه واقترب منها ممسكًا بيدها:
- هل ستنامين بالعباءة؟
تلجلجت في الكلام:
- أنا.. أقصد... لست مستعدة.
نظر لها بخيبة أمل:
- هل أنت معذورة.
فضحكت بخبث:
- لا، ولكني لست مستعدة.
فضحك وهو يقترب من شفتيها:
- لا يهم استعدي في وقت آخر.
وخلع ملابسه وانقض على السرير ليعزف على قيثارة الرغبة والشوق، ويحاول إرواء عطشه الشديد لها الذي استبد به حتى لكأن روحه أضحت صحراء جرداء، لكنه الآن يرويها بكل حب وشوق، أخيرًا حانت لحظة لقاء الأحبة، أخيرًا سيكمل نقص روحه وهي بين ذراعيه، حتى أنهكهما اللقاء وتوسدت صدره، ليغطا في نوم عميق لم ينعما به منذ مدة طويلة جدًا، أخيرًا استعادت شعورها بالأمان والسكينة، أخيرًا شعرت باستقرارها بجوار مليك فؤادها.
استيقظت رجاء فوجدت الظهر قد ولي والساعة اقتربت من الثانية ظهرًا فأيقظته
برفق:
- حبيبي، ربيع، يا عمري، استيقظ.
وبين كل كلمة وكلمة تطبع قبلة على وجنتيه ففتح عينيه مبتسمًا:
- بهذه الطريقة لن استيقظ، هكذا سأخفيك بين أحضاني ونعيد جولة البارحة.
فضحكت:
- لا هيا لقد اقتربنا من العصر، الأولاد بالتأكيد يتساءلون عنا، ماذا سيقولون؟
احتضنها:
- سيقولون أن والدنا مشتاق لوالدتنا الجميلة.
تململت بين ذراعيه:
- هيا لا تكن كسولًا.
هاتفا الأولاد وتقابلوا أمام الغرف فبادر لسؤالهم هل أفطروا؟ فكانت إجابتهم بنعم بينما قال نبيل ضاحكًا:
- راضي لم يتوقف عن الأكل منذ البارحة يا أمي.
فتحت رجاء عينيها اندهاشًا:
- البارحة! وهل كان في معدتك مكان يا ولدي، لقد أكلت البارحة أكثر من كيلو من المشويات بمفردك، بالإضافة إلى التحلية.
ففرك راضي بطنه ضاحكًا:
- لقد كانت السهرة أمام التلفاز طويلة يا أمي وكنت أتسلى.
فتدخل نبيل قائلًا:
- تتسلى!
ونظر لهم:
- هذا الذي يتسلى، طلب بيتزا، ودجاج كنتاكي، ولن آتي على ذكر ثلاجة الفندق التي كانت مليئة بكل ما لذ وطاب من أنواع الشكولاتة التي تستقر الآن في معدة هذا الذي كان يتسلى، وفوق ذلك استيقظ في الصباح وكأنه لم يتناول الطعام قط، وطلب إفطارًا من البيرجر وما يتبعه، وليس سندويتشًا واحدًا بل خمسة سندويتشات.
انفجر ربيع في الضحك وأخذت رجاء تضرب كفيها:
- أنا لا أدري أين يذهب كل ما تأكله؟
قهقهت رباب ضاحكة:
- أنا خائفة من أن تأكلني.
وقال ربيع:
- أنت مثل جدك راضي تمامًا كان لا يتوقف عن الأكل ولا يظهر عليه أبدًا، ونبيل مثل جده نبيل، قليل المأكل.
فتشبثت رباب بذراعه:
- وأنا يا أبي الحبيب، من أشبه؟
احتضنها ربيع:
- أنت يا أميرتي الصغيرة مثل جدتك رباب، تمتلكين جمالها وطيبتها، وأتمنى أن تكوني بمثل حكمتها.
وأردف والآن هيا لنتناول الغداء ثم ننطلق لشراء ما يلزمنا.
فعقب راضي:
- حقًا لقد بدأت أحس بالجوع.
فانتابت الجميع نوبة من الضحك، تناولوا الغداء واتجهوا بعد ذلك للمحلات الشهيرة
وانتقوا كل ما يلزمهم من ملابس خارجية وداخلية، واستمرت رحلتهم ثلاثة أيام للتبضع
وللنزهة، كان ربيع يصحبهم يوميًا للتنزه في أرقى و أفخم الأماكم التي لم يحلموا يومًا حتى بالمرور من أمامها، واشترى لكل منهم حقيبة كبيرة لوضع ما اشتروه بها، كانت تنبيهات ربيع على رباب واضحة وقوية بعدم ارتداء ما اشترته من بيجامات ولبس للمنزل خارج جناحهم.
هاتف ربيع والده ليعلمه أنهم في الطريق، وسامرهم ربيع بحديثه عن الجد وآل السيد ليذكرهم بم كان يكرره على مسامعهم طوال الأيام السابقة:
يا أولادي جدكم هو الكبير، ليس كبير العائلة فقط بل كبير نجع السيد وما جاوره، كلمته كحد السيف، لا ترد ولا يجادل فيها، إياكم ثم إياكم من إغضابه بمجادلته.
زوجاتي ونيسة وحورية سيدتين عاقلتين رزينتين، لن تغضباكما أبدًا أنا متأكد أنهما ستحبانكما كأولادهم الذين لم يكتب لهما الله انجابهم، أما حسنات فليس لكم شأن بها، تجنبوها، وإذا داست على طرف أي منكم أو قالت لكم ما يؤذيكم فلتخبروني وأنا سأتصرف معها.
راضي ونبيل أثق في تربيتكما بالطبع لكني أؤكد عليكما ليس لكم شأن مع حريم الدار ولا حتى بمجرد النظرة، غضا بصريكما، عميكما طيبان ربما كان جابر شديدًا قليلًا، لكنه طيب.
وصلوا نجع السيد وكل من يمر بهم يلقي عليهم التحية مُرحبًا ومهللًا فالخبر انتشر في النجع ابن الكبير وزوجته القاهرية قادمون للنجع.
وصلوا إلى قصر آل السيد، بوابات كبيره فتحت لهم وأغلقت من وراءهم، أصوات إطلاق الأعيرة النارية المتتالية ترحيبًا بهم أصابت رجاء ورباب بالفزع.
توقفت السيارة، ونزلوا منها ليقع نظرهم على الجد الكبير كما ناداه ربيع، طويل عوده، شديد، غير منحني برغم أن والدهم أخبرهم أنه تجاوز السبعين لكنه يبدو كالشباب قويًا، يرتدي جلبابه الصعيدي، ممسكًا عصا سوداء تبدو قوية مثله، ملامحه تجذبك لها على الرغم من الجدية الواضحة على قسمات وجهه، ممسكًا بيده سيجارًا كوبيًا.
اقتربت منه رجاء أولًا، انحنت على يده لتقبلها، فربت على رأسها:
- هذا جيد، تعرفين عاداتنا.
فابتسمت:
- بالطبع يا عمي.
- من اليوم تناديني بوالدي أو بالحاج، أنت ابنتي الآن.
اقتربت رباب منه ولكنها لم تكن تشعر برهبة منه وقبلت يده:
- أنا رباب يا جدي.
- ما شاء الله، رباب، وأنتِ حقًا مثلها.
ثم اندفع يحضن الصبيان:
- يا مرحبًا بنسل آل السيد.
- أنا نبيل يا جد.
- وأنا راضي.
أخذ يُملي عينيه منهما:
- لم يخطئ والدكما حين أسماكما على اسم جديكما فأنتما تشبهانهما كثيرًا.
بدأ الكل يظهر من داخل القصر ليسلموا عليهم، ويرحبوا بهم.
فقال الجد:
- هيا للداخل.
رحبت بهم الجدة رباب على الباب بالأحضان والقبلات ودخلوا القصر مخفين انبهارهم، فهم لم يشاهدوا مثله أبدًا سوى في المسلسلات والأفلام، وجدوا الجميع في انتظارهم وسلموا على الكل، أخذت القبلات والأحضان تنهال على رجاء ورباب من النساء، وابنتي عمها وزوجتي والدها، ماعدا حسنات التي كان سلامها باردًا وحضنها لهما أبرد من الثلوج القطبية وكانت نظرات الحقد والكره تشع من عينيها.
ضرب الجد بعصاه على الأرض ثلاثًا، فانتبه الجميع وساد الصمت، ليقول بهدوء وسعادة واضحة على وجهه:
- الآن اكتملت العائلة، الجديد فيها كما القديم عندي يتساويان في الثواب والعقاب، ربما أسامح الجديد مرة على خطأ غير مقصود، لكنني بالتأكيد لن أسامح بالثانية، وهذا دورك يا ربيع، أعلم زوجتك وأولادك بعاداتنا، وإلا ستكون مسؤولًا أمامي وستعاقب مثلهم.
ثم دق الأرض بالآبنوسية السوداء ثلاثًا فصمت الكل حتى أنك لو ألقيت الإبرة لسمعت الرنين ليتابع القول:
- قلتها سابقًا وها أنا ذا أعيدها عليكم، القاهرية وأولادها لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، احترامهم من احترامي، والنيل منهم نيل مني أنا (ونظر لحسنات وكررها) نيل مني أنا، والآن اصعدوا جناكم لتنالوا قسطًا من الراحة، فالعائلة وأهل النجع سيجتمعون بالمساء للتعارف عليكم.
صعدوا لجناحهم وما أن أغلق الباب حتى أخذوا يتأملون الجناح منبهرين به، غير مصدقين أنفسهم أن هذا مكانهم، جمعهم ربيع حوله:
- أنا أعلم أني كنت مخطئًا بإخفاء أمركم عن الجد، وترككم تعيشون الفقر وتقاسون التعب والحرمان، أعلم أنني كنت جبانًا، لكن الخوف الذي زرعه فينا جدكم من عقابه كان كبيرًا.
ثم نظر بحب لرجاء ممسكًا يدها وجلسوا كلهم متجمعين حول والدهم: أذكر تفاصيل لقائي بوالدتكم، وكأنها البارحة، كنت في الكلية ورأيتها تقف وسط الفتيات تتحدث معهم، ولكأنها سحرتني بجمالها، ظللت واقفًا أتأملها وعندما ابتعدت عنهم سرت ورائها، وعندما ضايقها أحد الشباب، دافعت عنها وصممت أن أوصلها لمنزلها، دخلت المنزل، ولم أدر إلا وأنا أطلب يدها من زوج خالتها، الذي ما أن علم من أنا ومن هم أهلي، حتى أصر أن يتم الزواج في التو، ما زلت أذكر كلمته "إما أن تعقد عليها الآن أو تذهب ولا تعود"
كان يحسها حملًا على كتفيه، لكنها كانت نعمتي، عقدت عليها وذهبت بها لشقتي، عشنا أيامًا من أروع الايام كنت كالطائر الذي خرج من محبسه، كانت الأيام ورديه، وغُرس حب والدتكم في قلبي، وأطلق جذوره، إلى أن زارني عمكم جابر، وأُعلنت الحرب عليّ، وشى بي إلى جدكم، فأجبرني جدكم أن أطلقها وأن يسمع كلمة الطلاق في الهاتف، طلقتها، وعدت للنجع، أذكر كلمات جدكم لي وهو يضربني
"تخرج عن طوعي، تكسر كلمتي، تتزوج قاهرية لا نعلم عنها شيئا، لا ينقص إلا أن تسير في طريق الشيطان، لقد دللتك كثيرًا، وحان وقت العقاب "
ربطني عاريًا في شجرة المانجو، لا زاد ولا ماء لأكون عبرة لكل من تحدثه نفسه أن يخرج عن كلمته، لم يشفع لي بكاء جدتكم ولا حسرتها عليّ، فقط وساطة الجد نبيل
والجد راضي، أعلنت التوبة، لكني كنت مقيدًا في الحركة، لكن قلبي لم يستطع أن ينسى رجاء أبدًا، جازفت بالسؤال عنها، لأجد منزلهم قد تهاوي، انتابني الجنون تقصيت عن أخبارها، علمت أنها نجت، وجدتها، وكانت المفاجأة إنها حامل، أجرت لها شقة وجبنت عن إعلام جدكم، خشيت أن يقتلني فتصبح وحيدة في الدنيا لا سند لها، والباقي أنتم تعلمونه.
احتضنوه جميعهم وأخرجهم راضي من هذه الحالة بقوله:
- ألا يوجد طعام بهذه الثلاجة الضخمة.
ضحك الكل وقال نبيل:
- يا الله، أنا أخشى من أن تأكلنا بعد ذلك.
اختار كل منهم غرفته وسعد نبيل بالخلاص من رفقة راضي أخيرًا في النوم فلقد كان نومه مريعًا.
دخل ربيع ورجاء غرفتهما ليحتضنها ربيع فرحًا:
- وأخيرًا أصبحنا في بيتنا.
تدللت عليه:
- يشاركني فيك ثلاثة.
تبسم:
- هذا الاسبوع كله لك يا مليكتي.
وانقض عليها يطفئ شوقًا لا ينطفئ؛ كلما استقى منه زاد الشوق وتأجج.
بعد فترة رن جرس الجناح ليفتح راضي الباب ويجد أمامه مليحة فوقف متسمرًا أمامها، تاه في ذلك الجمال المشبع بالخجل المتجسد أمامه، أخفضت بصرها وتورد خداها, وأخبرتهم أن الجد يطلبهم فالضيوف قد وصلوا.
وكز نبيل راضي:
- تأدب يا راضي لو رأوك تنظر لها لقتلوك.
نزلوا لمكان التجمع، تعرف الرجال على أولاد ربيع وتعرفت النساء على رباب ورجاء، ثم أرسل الجد في طلبهما فارتديتا الملس وخرجتا للجد الذي عرفهما على كبار البلد وعلى أقاربهم وطلب من نبيل وراضي الدخول للتعرف على كبيرات العائلة من النساء.
بعد التعارف أعلن الجد أن لديه نبأ هام ويجب أن يسمعه الجميع فصمت الكل، ليقول:
- الآن التم شمل المتفرقين، واكتمل نسل العائلة، وآن الاوان لأن تُرسي العائلة جذورها
وتمتد في الأجيال الجديدة، لذا أُعلن أيها الجمع الكريم أن هذا الاجتماع سيتكرر غدًا لعقد قرآن أولادنا خالد، رضوان، وعادل على بناتنا رباب، رقية، وزهيرة، كما سيتكرر هذا الاجتماع بعد ستة بدور لإتمام الزفاف، والعُقبى لكم.
انطلقت الزغاريد والأعيرة النارية.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي