3 الفصل الثالث

خرج ربيع من القصر يتنفس الصعداء غير مصدق أنه قد نجا من بطش أبيه، غير متصور لما حدث، يلعن جبنه وتقاعسه عن الاعتراف بتلك الحقيقة التي أخفاها لسنوات طوال، يأكله ندمه على ما تسبب فيه لزوجته وأولاده، يضحك عليه شيطانه بباب "لو" فلو كان اعترف منذ زمان ما تكبد الشقاء ليغلق ذاك الباب بمشيئة الله وتوقيت القدر، فكل شيء بميعاد، استنشق نفسًا عميقًا، نفس الحرية والخلاص من قيود البعد والهجران، وزفره بقوة ليخرج معه آهات طالما سكنته، لم يكن حتى يجرؤ أن يبوح بها.
أسرع ربيع بسيارته يطوي الطريق طيًا، واتصل برجاء وما أن ردت كانت غير مصدقة أنه من تسمع صوته على الهاتف فلم يمر سوى يومان على آخر اتصال له، لم تصدقه حين أخبرها أنه اعترف لوالده بإخفائه حقيقة استمرار زواجه منها وانجابه، طالبته أن يقسم بالله، ضحك بأعلى صوت حتى انتابه السعال، أقسم لها وأخبرها أنه قادم إليهم ليأخذهم ليعيشوا معه في بيت العائلة كما كانوا يستحقون، أغلقت الهاتف معه وهي ما زالت تنظر للهاتف وتحدث نفسها:
(أحقًا ما حدث هل اتصل ربيع؟ أحقًا اعترف لوالده ونجى من العقاب، أيعقل هذا بعد كل هذه السنوات؟ هل سنرتاح أخيرًا؟ هل سينعم أولادي أخيرًا بم يستحقون من مكانة ورغد عيش؟ ثم جال خاطر برأسها، أنه ربما القادم أسوء، فنفضت هذا الخاطر عن رأسها، فما الذي سيكون أسوء من ما قاسوه وحدهم؟ المهم أنهم سيكونون مع ربيع، وستقف للقادم بكل قوتها كما وقفت بوجه الماضي).
قطع تفكيرها دخول رباب من الباب مكفهرة الوجه والضيق باد على ملامحها فبادرت لسؤالها:
- ما بك ؟ لماذا أنت متجهمة؟
جلست رباب راسمة ابتسامة مصطنعة:
- لا شيء، طُردت من العمل.
فضحكت رجاء، فنظرت لها رباب بتعجب:
- أمي هل الصدمة صعبة لهذا الحد؟ أخبرك أني طردت من العمل فتضحكين، أم تضحكين من صدمتك، لا تهتمي من الغد سأنزل للبحث عن أي عمل، اطمئني.
احتضنتها رجاء:
- انتهي عهد الشقاء والعمل يا حبة قلب أمك.
في هذه اللحظة دخل نبيل وراضي فتابعت رجاء:
- احكي لي لماذا طردوك هذه المرة؟
ردت بتفاخر:
- السبب بسيط، ابن صاحب العمل ظن أنه يستطيع شراء شرفي بأموال أبيه، وبما أن المحل به كاميرات مراقبة؛ وقفت أمام إحداها وصحت بأعلى صوتي بما أراده مني، ثم خلعت حذائي وانهلت عليه بالضرب، إلى أن خلصوه مني.
فاحتضنها أخويها قائلين:
- أخت رجال، أختنا بمائة رجل.
ابتسمت رجاء وألقت قنبلتها:
- سيسر والدك بك عندما يأتي ويعلم.
اتسعت عيني رباب:
- من الذي سيأتي ويعلم؟
قالت رجاء:
- والدك في الطريق إلى هنا، قادم ليأخذنا لقصر جدكم.
صاح الولدان فرحًا بينما تمسكت رباب بثوب والدتها:
- أقسمي أمي على ما قلته.
فأبعدتها رجاء بحب عن ثوبها ثم احتضنتها:
- وهل يحتمل هذا الخبر المزاح، ثم هيا لنجهز طعامًا لوالدك، ونجهز ملابسنا.
قالت رباب باستنكار:
-أية ملابس أمي، إن أنظف وأغلى ما في ملابسنا سيكون بالنسبة لهم كملابس الخدم.
صدقت رجاء على كلامها:
- كلامك صحيح صغيرتي، عندما يصل والدك سنرى هذا الأمر.
جلس الكل ينتظر حتى رن الجرس فهرعت رجاء لتفتح له ملقية بنفسها بين أحضانه، لكأن روحها ردت إليها، واكتملت بعد نقص.
احتضنها بقوة، همس في أذنها:
- شوقي لك كأول يوم رأيتك به، يكفي أمام الأولاد، أنا أستميت للسيطرة على شوقي.
ترقرقت دموع الفرح في عيناها وابتعدت عن حضنه، ليندفع الولدان إلى حضن والدهما يرويان شوقهما لحنانه، فأخذ يبعدهما عن حضنه ينظر لهما، ثم يضمهما مرة أخرى
والسعادة تشع من عينيه:
- يا الله ، لقد كبرتم وصرتم رجالًا، اقتربتم من أن تصبحوا بطولي، إنكما نسخة من جديكما راضي ونبيل، حقًا لم أخطئ حين أسميتكما على اسمهما.
بينما كان ربيع يحتضن رجاء والولدان كانت رباب تقف مشدوهة وكـأنما نادتها النداهة، تراه لأول مرة منذ فترة طويلة، صحيح أنها كانت تتابع أخباره على مواقع التواصل الاجتماعي وترى صوره، لكنه الآن أمامها، حلم قد تحقق، فهي تخفي خلف عدم رغبتها بالحديث معه هاتفيًا شوق كبير، لطالما كانت بحاجته، تريد أباها رجلها الأول والأخير، برغم كل غضبها منه كانت تحبه جدًا، كأنه فارسها المغوار من حديث والدتها وحكاياتها عنه وعن عائلة آل السيد، ها هو أمامها قوي، شامخ، مرتديًا حلة سوداء كالتي ترى الممثلين وذوي المقامات الرفيعة يرتدونها، وسامته الطاغية برجولة، شاربه الكثيف، إنه والدها هنا أمامها.
أبعد ربيع الولدان برفق:
- أعطياني فرصة لاحتضن زينة صبايا آل السيد وأميرتهم، (ونظر لها معاتبًا) أم أن أميرتي لا تريد السلام عليّ كما كانت ترفض الحديث معي.
ارتمت رباب في حضنه وانفجرت باكية، أخذ يربت على ظهرها وهي متمسكة برقبته تخشى أن تفلته، فلا تجده أمامها، وربيع مبتسم: اهدئي ، أميرتي لا مجال للبكاء بعد اليوم.
بصوت متهدج قالت:
- أنت لا تعلم كم كنت مشتاقة لأن تحتويني بين أحضانك أبي، أنت لا تعلم كم كنت أحتاجك ظهرًا وسندًا لي، حائطًا يصد عني الدنيا وهمومها.
ربت عليها وأفهمها أن الماضي سيدفن وننتهي منه والآن زمن الحاضر والمستقبل ثم قال: - أنا أتضور جوعًا لم أضع أي طعام في فمي طوال الطريق، لقد انتظرت أن آكل معكم، ماذا لديكم لي؟
ضحكت رجاء:
- حضرت لك صينية من الباذنجان والأرز بالشعيرية.
فضحك ربيع:
- أول طعام لي معكم بلا لحوم، لا يجوز، هيا اجهزوا وارتدوا ملابسكم سنخرج لتناول الطعام بالخارج وأحضروا معكم أوراقكم الشخصية، لأننا لن نرجع هنا.
نظرت له رجاء متسائلة:
-هل سنسافر الليلة؟
رد بحنو:
- لا لكن لن تبيتوا هنا، هيا بدلوا ثيابكم.
دخل الولدان ورباب سريعًا بينما اقتربت رجاء منه بشوق:
- تعال معي.
فأبعد يديها بشوق أكبر ونظرات عيونه تفضح شوقه:
- لو دخلت معك فلن نخرج، هيا بدلي ثيابك بسرعة.
تركته ودخلت لتبدل ثيابها، انتظرهم وجلس في الصالة إلى أن ينتهوا.
أخذ يتأمل الأثاث البالي والدهان المتقشر والشروخ التي ترسم لوحات سريالية في الجدران، ويتحسر على ما فيه أولاده، دخل المطبخ ليجد صينية الباذنجان، وإناء الأرز بالشعيرية تتربعان على عرش الموقد، فتح الثلاجة المتهالكة ولم يجد فيها إلا طبق الجبن والقليل من الطماطم ولم يجد بها أي لحوم أو دواجن.
أخذ يلعن نفسه وجُبنه فلو كان قرر إخبار والده منذ زمن ما كان أولاده عاشوا في هذا الفقر المدقع.
خرج الولدان من غرفتهما، نظر لهم ربيع نظرة مطولة وصمت واحتضنهما،
خرجت رباب ترتدي بنطلون من الجينز الأزرق الداكن و بلوزه قصيرة حمراء.
فتجهم وجهه:
- أستخرجين هكذا؟
ضحكت وهي تنظر لنفسها:
- نعم، أقسم أنه أجدد وأجمل ما أمتلكه.
هنا خرجت رجاء من غرفتها ترتدي عباءة سوداء وهي تنظر لنفسها:
- لقد ارتديت كما يقولون أغلى ملابسي، لقد اشتريتها في العيد قبل السابق ولم ارتديها، كنت أحتفظ بها لمناسبة قد تظهر لنا.
لاحظت تجهم وجهه:
- ما بك يا قلب رجاء، من أغضبك؟
أخذ نفسًا طويلًا:
- لم يغضبني أحد (ونظر لرباب ) لا خروج هكذا ارتدي عباءة من عباءات والدتك.
حاولت الاعتراض فقال:
- لا اعتراض رباب، هذه الملابس تنسينها للأبد، ارتدي عباءة والدتك وقبل أن نذهب لتناول الطعام سنعرج لشراء ملابس لكل منكم الآن وسنكمل الشراء غدًا.
صاح الكل فرحًا وسارعت رباب لترتدي عباءه والدتها.
طلب ربيع من رجاء مفتاح الشقة ليسلموها لصاحبها، أغلقوا الشقة وتوجهت رجاء للشقة المقابلة شقة صاحب المنزل.
لتفتح لها الباب روحية زوجة صاحب المنزل
ألقت رجاء التحية: السلام عليكم.
ردت روحيه بضيق:
- وعليكم، هل أتيت لدفع ما تأخر عليك من إيجار للشقة؟ أم أنك تريدين التملص من دفع إيجار هذا الشهر أيضًا؟
فلمحت ربيع يقف بجوارها فتساءلت:
- ومن هذا السيد؟ من أين تعرفين مثل هذه الوجوه السمحة ذات الاهمية؟
أمسكت رجاء بيد ربيع: إنه زوجي ربيع السيد، الذي أخبرتك عنه ولم تصدقيني، وكنتِ دائما تتهمينني بالكذب.
اتسعت عينا روحيه في دهشة وعدم تصديق، فطالبها ربيع أن تنادي زوجها، فطالبته بالدخول لكنه رفض، فنادت حسين زوجها الذي جاء يرفع بنطلون بيجامته الكستور، وما أن رأى ربيع حتى تهللت أساريره وارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة كشفت عن أسنانه التي نخرها السوس وتساقط معظمها، طالبه حسين بالدخول لتحل البركة على الشقة فرفض ربيع وأنقده ألفين من الجنيهات إيجارًا متأخرًا وأعطاه مفتاح الشقة مطالبًا إياه ببيع ما فيها والتصدق بثمنه، هز حسين رأسه موافقًا وبعد نزول ربيع أخذ يحلم فيم سيصرف نقود بيع ما بالشقة فهو أولى بالنقود.
نزل ربيع ليجد حسن الميكانيكي واقفًا أمام السيارة الفارهة من تويوتا ذات الدفع الرباعي واضعًا يده على باب السيارة ويقول بضيق:
- لا حركة من هنا قبل أن أفهم، من هذا؟ وإلى أين تذهبون معه؟ (ووجه الكلام لرجاء) ألم أطلب منك يا أم الجميلة يدها، أنت تعلمين أني أريدها في الحلال، إنها السبب الذي جعلني أوافق على عمل الصبي نبيل والصبي راضي، وظفتهما من أجل عيون ربابي فقط.
تضايقت رجاء وظهر الغضب على محياها:
- ما بك يا حسن؟ وهل وعدتك بشيء أم أخبرتك أن طوع الفتاة بيد والدها، وعندما يأتي سأحادثه.
هز رأسه:
- نعم يا سيدة الكل هذا ما قلته وأنا في انتظار والدها، الذي لا أعلم متى سيظهر؟ إذن فمن هذا الثري؟ وإلى أين تذهبون معه؟
فاض الغضب بربيع وكأنه كأس ممتلئة فاض وانسكب ما بها فأمسكه من تلابيبه:
- اسمع يا هذا، ابنتي تُدعى رباب هانم، وولداي البيه نبيل والبيه راضي، وابتعد عن طريقنا وإلا قضيت عليك.
بالطبع لم يكن حسن ليصدق أن ربيع الثري والد حبيبته رباب، ظن أنهم يلعبون عليه لعبة ما، فاستل سلاحه الأبيض في محاولة منه لضرب ربيع فما كان من ربيع إلا أن عاجله بضربة رأس اختل بسببها توازنه فسقط أرضًا، وعندما حاول القيام دفعه ربيع مرة أخرى بقدمه ودخل لعربته ورجاء تصيح بفرحة:
- ابق في الأرض يا حسن أكرم لك، لو وضعك في رأسه سينهيك أنت لا تعرف مع من تلعب.
وانطلق ربيع بسيارته الفارهة تدله رباب على الطرق المختصرة للخروج من منطقتهم،
وهم تغمرهم السعادة، وقاد بهم ربيع خارج الحارة ملقين وراء ظهورهم أيامًا لم يروا فيها إلا الشقاء والفقر المدقع، يمنون أنفسهم بالراحة القادمة.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي