7 الفصل السابع

بدأت رباب المذاكرة الجدية للامتحانات وكذلك نبيل وراضي لكن لم تخلو مذاكرتهم من قضاء الوقت برفقه جواديهما زين و الصياح، فهما الآن أصبحا كالفرسان في مهارة ركوبهما الخيل، وكان النجع بأكمله يتحاكى بمهارتهما وأصبحا محط نظر الفتيات.
حان موعد ظهور النتيجة، اتصل القائمون بالعمل في المعمل بالجد لتؤكد النتيجة ظنه
وفراسته بأن الولد ابن خالد.
بعد تناول العشاء أعلنت دقات العصا الآبنوسية اجتماعًا عائليًا وأُعلن الخبر بأن الولد ابن خالد، وعقد خالد على زبيدة رسميًا بتاريخ زواجه العرفي، وتم استخراج شهادة ميلاد للصبي الذي سماه الجد عزيز.
ومرت الأيام...
اصطحب خالد رباب لأداء الامتحانات، وبينما هما في القاهرة طلبت زبيدة الحديث مع الجد وأسرت إليه بالتلميح أن خالد لا يقربها أبدًا، وأن هذا ظلم لها، طمئنها الجد، وعند حضور خالد ورباب من القاهرة كلم الجد خالد وأعطاه محاضرة عن العدل بين زوجاته، تفهمت رباب ما طلبه الجد ولكنها طلبت ألا تبيت هذه الليلة في البيت فلن تتحمل أن يكون خالدها في حضن زبيدة، وافقها خالد على مضض وسمح لها بالمبيت عند والدها.
سمعت زبيدة صوت الباب وخرجت لتجد خالد بالصالة
فقالت:
- من القادم؟ هل أحضرت حماتي عزيز؟
قال بهدوء:
- لا يا زبيدة إنها رباب.
تعجبت:
- رباب! إلى أين تذهب في مثل هذا الوقت؟ هل حدث مكروه لأحد؟
- لا يا زبيدة إنها ستبيت الليلة عند أمها.
ردت بغضب وهي تتجه للباب:
- لماذا تغضبها إنها طيبه سأصعد لها وأحضرها.
أمسكها من ذراعها:
- أتحبينها؟
ضحكت:
- أتظن لأنها ضرتي سأكرهها، لا أنا أحبها، وأحب كل من في هذا المنزل, لقد وجدت هنا كل ما كنت أتمنى، وأعلم أن الظروف تجبرك على البقاء مرتبطًا بي، وأنك لم تعد تطيقني.
أجلسها بجواره:
- أريد أن أسمع حكايتك يا زبيدة وكيف أصبحتِ راقصة؟
ابتسمت بمرارة:
- حكايتي، آه يا خالد من حكايتي، سأرويها لك، أنا ابنة سيدة بسيطة كانت على قدر كبير من الجمال، تزوجت من ذاك المسمى والدي وهي لا تعلم بالقدر الأسود الذي يختبئ لها، رجل أصبح سكيرًا، مدمنًا، لا هم له سوى مزاجه و شهوته، كنا خمسة فتيات كالورود، تدور أمي بمشنة الخضار في الشوارع أو في السوق لتكسب ما تستطيع، أذكر جيدًا ما كان يفعله بها، كان يأخذ النقود التي كسبتها وعندما تتوسل له أن هذا للبيت كان يسبها بأقذع الشتائم ويركلها ويوسعها ضربًا قائلًا
(لا يهم أن تأكلوا أنتم، المهم مزاجي أنا أيتها العاهرة).
ويتركنا جائعات كانت أمي تتسول من الجيران الذين يعرفون بحالنا وما نقاسيه، إلى أن وصل لنا ذاك المسمى العارف، جاء لوالدي بالبشارة
(عريس ثري لابنتك سمارة وسيعطيك خمسة آلاف)
كانت فرحته هو لا توصف وهمنا وحسرتنا نحن أيضًا كان لا يوصف، أخذها عروسًا بفستان أبيض وعادت لنا بعد يومين، عادت بكفنها، لقد ماتت بين يدي ذلك الثري، بعدها بأسبوع زوج وزة لرجل خليجي وسافرت معه، كانت تتصل بنا أحيانًا عند بقال المنطقة كانت تعمل كخادمة لزوجها وأولاده، عندما مات زوجها تزوجها أخوه، بعد فترة قليلة توفيت، لم نودعها حتى ولم نحضر دفنها، دفنت هناك، جاء زوجها وتزوج حنان لترعى أولاد وزة منه، أمي لم تتحمل قهرتها علينا واحدة تلو الأخرى وماتت في الشارع وهي تدور على رزقنا، ظللنا أنا وصابرين، صابرين ماتت، أتعرف كيف؟ ذلك المأفون المسمى أب كان كعادته منتشي بسكره ولا يرى أمامه من المخدرات، اغتصبها وماتت بين يديه ولكن الجيران سمعوا صراخها، اقتحموا العشة لينقذوها، لكن الأوان قد فات كانت سلمت روحها لمن هو أحن على الكل، وقبضت الشرطة عليه، جاءني العارف، أخبرته أني لن أسافر لأموت بالخارج، زوجني لرجل كبير، كان حنونًا ولكنه مات وتركني، واتجهت للرقص، والباقي أنت تعرفه، العارف هو من أعطاني عنوانك هنا بالصعيد، كان يريد مني أن ألقي لك بالصغير وأذهب له، فهناك من يريدني بمبلغ خرافي، ولكني لا أريد تلك الحياة، لقد أحببتك، ويشهد الله أنه لم يمسني رجل بعدك، وأنني على عهدي معك.
احتضنها وكفكف دمعها:
- كفاك بكاء يا أم عزيز، لقد ولت أيام الحزن.
***
كان خالد يبيت يوم عند رباب ويوم عند زبيدة، نجحت رباب وكذلك نبيل وراضي.
وضعت زهيرة ورقية كل منهما صبيًا، فارس ابن رضوان، وشاهين ابن عادل، وبعدهما بأسبوع أعلن خبر حمل زبيدة ورباب، لتمضي الأيام وتضع زبيدة بنتًا سماها الجد بدور ووضعت رباب صبيًا اسماه الجد الباسل.
لكن زبيدة توفيت وهي تلد بدور، بسبب حساسية لنوع البنج المستخدم في تخديرها للولادة.
***
مرت ثلاثة سنوات
ما زال حب خالد ورباب ينبض متقدًا وهي تعتني بأولادها وأولاد المرحومة زبيدة، عزيز
وبدور وتوليهم عنايتها مع ولدها الباسل، ولم تفرق بينهم أبدًا كانت أمهم والكل يقول لها ماما وكانت دائمًا تجعل عزيز وبدور يريان صور زبيدة وتعرفهما أنها أمهما أيضًا،
لم يخلو الأمر من المشاكسات دائمًا بين الأطفال،
فارس، شاهين، عزيز، بدور، وباسل، كانوا يكونون أحزاب على بدور الصغيرة التي تعلمت أن تكون عنيفة معهم لتستطيع صدهم وكان كل من يكلمها تقول له:
-أنا بدر وليس بدور.
أنهى نبيل وراضي المرحلة الثانوية، تفوق نبيل بالطبع وكان مجموعه يؤهله لدخول كلية الطب، أما راضي فاكتفى بالتسجيل في معهد زراعي فهو أبدًا لم يكن يضع في رأسه مسألة الدراسة فلقد استولت الخيول على لبه وذاب في غرام الأرض الزراعية، كما ذاب في غرام مليحة، فذهب لجده الكبير بالخلوة طالبا الكلام معه، وافق الجد على زواجه منها.
تزوج راضي من مليحه ولم ينجب وبالكشف تبين أن لديه مشاكل بالإنجاب.
التحق نبيل بكلية الطب، أصبحت شئون عائلة السيد في يد ربيع؛ يباشرها أكثر من ذي قبل في حياة الحاج السيد، فلقد أحس بدنو أجله بعد أن تمكن منه المرض وأقعده في الفراش فترة.
لكنه أبي أن يموت على فراشه، طلب من الحاجه رباب أن ترسل في جمع آل السيد من كبيره لصغيرهم، وأن تجهز الضيافة، بالطبع نفذت الأمر ولكنها خائفة على رفيق عمرها يعتريها الهم والحزن لمرضه.
وفي المساء...
شد السيد قامته بكل قوة رغم معانته مع المرض واستند على الآبنوسية رفيقته وخرج بخطى بطيئة إلى الحديقة حيث الرجال المجتمعون، تناول الكل الطعام ولكنه لم يتناول شيئًا تعلل بألم في معدته واعتذر للكل.
بعد تناولهم الطعام طلب أن تخرج النساء إلى الحديقة، وصمت الجميع، لا صوت يعلو فوق صوت الحاج السيد الذي قال:
- يا آل السيد، من منكم يرى أني قد ظلمته في حكم حكمته فلينطق، (صمت تام) من منكم يري أني ظلمته فلينطق وله الأمان(صمت مطبق)، حسنًا ما دامت هذه الحال فلنتكلم في الأهم (نظر لربيع ليقترب منه أكثر وخلع خاتم العائلة الفضي المزدان بنقش أياد مجتمعه يصافح بعضها بعضًا، وقلده إياه، ثم سلم له العصى الآبنوسية رفيقته السوداء) حكم العائلة أصبح في يدك ربيع إنها أمانة في رقبتك.
ثم أسند رأسه على ظهر كرسيه ونطق الشهادتين وسلمت روحه لبارئها، انتظروه أن يقول أي شيء آخر، أن يتحرك، لم يستوعب أحد ما حدث أمامهم في تلك اللحظة، انتهى عهد السيد، حامي آل السيد وكبيرهم وملاذهم، لم يتكلم ولم يتابع الكلام لقد صمت الجبل للأبد.
لم تقو النساء حتى على الصراخ لم تطلق صرخة واحدة.
لكن الحاجة رباب هرولت نحوه، انطلقت صرخة واحدة منها باسم حبيبها، جبلها الذي دائمًا ما احتمت به: سيد.
ثم وقعت مغشيًا عليها، حملتها النسوة لغرفتها وكلهن بلا أي استثناء يبكين رجلًا كان من خيرة الرجال.
احتضن ربيع والده ثم شد قامته وقال بأعلى صوته:
- ينصب الصوان ويجهز، تُرسل المراسيل للنجوع المجاورة والقاهرة حالًا، فعزاء كبيرنا بعد صلاة الظهر غدًا.
رفض أن يحمل أحد جثمان والده، حمله هو وقلبه ينزف حزنًا، وعيونه تأبى الدموع
وأدخله القاعة الكبيرة، ومن ورائه أخويه.
أمرهما ربيع أن يتركاه مع والده ويخرجا، ما أن أغلقا الباب حتى جثى ربيع على ركبتيه بجوار والده ممسكًا بيده:
- يا الله اللهم صبرًا، تتركني يا أغلى من سكن قلبي، تتركني بعد أن أثقلت كاهلي بحمل تنوء به الجبال، من ذا الذي سيشد إزري؟ من سيوجهني؟ وداعًا أيها الغالي، وداعًا، لكني أعدك يا أبي سيظل آل السيد تحت راية واحدة، ولن أخضع لهوى النفس معهم، كما حكمت وعدلت سأسير على دربك.
ثم فتح المصحف وأخذ يقرأ القرآن بجواره وبعد فترة شد عوده ومسح دموعه وخرج ممسكًا بالآبنوسية قائلًا:
- هل ستودع الكبير يا جابر؟
- نعم بالطبع.
- هيا ادخل.
دخل جابر وجلس بجوار والده ينظر لجسده الممدد على الفراش، لم يره أبدًا هكذا، مستلقيًا، مستكينًا، يفيض الهدوء منه، بالرغم من أنه مجرد جثمان فارقته الروح إلا أن الهيبة ما زالت تغلف المكان، تزاحمت العبرات في عينيه وخر راكعًا: سأفتقدك يا أبي، أعلم أن ربيع كان الأقرب لقلبك، لكني أسامحك، وكلمة ربيع ستكون سيفًا على رقبتي وكأنها كلمتك.
وقبله ثم خرج، فنادى ربيع على وهيب الذي هرع للداخل ودموعه تسبقه فاحتضن جسد والده المسجي وأطلق العنان لدموعه.
ثم أتي الأحفاد وكل منهم يدخل تباعًا لوداع جدهم.
ثم سمح ربيع للنسوة بوداع الجد بشرط ألا تطلق أي منهم صراخًا وألا يعلو صوتها بالبكاء، أدخلهم تباعًا.
مر الوقت البيت يملأه القرآن، كل جوامع النجع كانت قد أطلقت العنان للميكروفونات في تشغيل إذاعة القرآن، لا يوجد بيت بالنجع يخلو من القرآن فالمصاب جلل والفقيد أغلى الكبار.
اقترب موعد صلاة الظهر، دخل ربيع على والدته ليجدها ما زالت غائبة عن الوعي فلقد ظلت تفيق قليلًا ثم تغيب عن وعيها لعدة مرات فجلس بجوارها وربت عليها
قائلًا بهدوء:
- أمي، هيا لتودعي أبي.
أشارت له بالموافقة، فساعدها لتقف واستندت على ذراعه، أدخلها الغرفة فاستدارت له
وأشارت له بيديها أن يتركها، توكأت على الأثاث حتى وصلت للسرير حيث يرقد حبيبها كانت الدموع تنهمر من عينيها كالشلالات جلست على السرير تنظر له ثم تمددت بجواره واحتضنته وابتسمت.
بعد قليل فتح ربيع الباب ليخرجها فلقد قدم الشيخ للإشراف على الغسل، ليجد أن والدته أسلمت روحها لبارئها، فهي لم تكن لتتحمل الدنيا بعد فراق وليفها فلكأن الله رحمها وقبض روحها.
كاد ربيع أن يسقط لكنه تحامل على نفسه، حملها وخرج وسط ظن النساء أنه قد أغشي عليها مرة أخرى، لتسقط كلمات ربيع عليهم كالصواعق:
- أمي ماتت لترافق رفيق دربها.
كدن أن يطلقن العنان لحناجرهن ويجدن بالصراخ، لكنه أوقفهن جميعًا:
- من سيخرج صوتها ستخرج جنازتها معهما.
صمتن والقلوب تحترق، أيفقدون ضلعا الزاوية التي كانت متكأ العائلة؟ أيفقدون الأب والأم سويًا هكذا؟ لكأن الدنيا ألقت بثقلها على آل السيد.
طلب من رجاء، ونيسة، حورية ورباب الصغيرة الإشراف على غسلها،
وليتم تجهيزها فستسير الجنازتان جنبًا إلى جنب، فكما كانا سويًا في الحياه شاء الله أن يكونا رفيقين في الموت أيضًا، وقف الرجال على غسل والدهم ووقفت النساء على غسل الأم.
لينتهي الغسل ويحمل الجثمانان للصلاة عليهما في مسجد آل السيد الكبير، لم يكن هناك بالمسجد من موطأ لقدم، حتى الساحة الكبيرة التي كانت مخصصة لصلاة العيد قد امتلأت عن بكرة أبيها.
كانت الجنازتان مهيبتان بحق! لا صوت يعلو فوق جملة لا إله إلا الله.
توافدت الجموع لتقديم واجب العزاء واستمر السرادق منصوبًا إلى ما بعد الأربعين،
أطعم ربيع النجع والنجوع المجاورة صدقة على روح والديه لمدة أربعين يومًا، طوال تلك المدة لم توقد نار في بيت من بيوت النجع كانوا يأكلون من خير المرحوم السيد ، وتبرع بمبلغ كبير جدًا للمستشفيات والجمعيات الخيرية صدقة على روح والديه.
كان الحزن يخيم على الكل، حتى الأطفال توقفوا عن اللعب لفترة طويلة كانوا يبكون فراق جدهم وجدتهم.
حكم ربيع النجع كما كان الكبير يفعل، كان يتخيله في كل موقف ويتخيل ماذا كان ليفعل
كان كوالده قويًا حازمًا، لكنه في حالات الزواج والطلاق لم يكن كوالده أبدًا،
ربيع كان يستمع لصوت القلب في تلك الأمور، كان على قدر من الرأفة في أحكامه.
مرت الأيام......
في يوم من الأيام بينما كانت الخادمة ذهبية في الحديقة تقطف بعضًا من البقدونس
والكرفس والشبت من الجزء المخصص للأعشاب في الحديقة، إذ برجب الغفير يتحرش بها فصفعته ذهبية وهرعت إلى ربيع في الخلوة، ولمحت له بما فعله الغفير، ثارت ثائرة ربيع، واعتمل الغضب في نفسه واستدعاه، وأمر ذهبية بلطمه، كاد ربيع أن يقتله بنفسه فلا تهاون في حق امرأه، لكنه تذكر أن ذلك الغفير كان قد أنقذ حياة والده في مرة من المرات، حين كانوا بالجبل وكادت الحية أن تلدغ والده، كان هذا السبب فقط ما منعه من قتله، فنادى ربيع على باقي الغفر وجعلهم يصطفون ويدور هو عليهم ويلطمه كل منهم لطمة بأقوى عزمه.
وبعد أن انتهى الرجال من لطمه قال له:
- انتهى عيشك بيننا، من لا يحترم حريم الدار لا مقام له معنا (نظر إلى زوجته) إن كنت تريدين المغادرة مع زوجك فغادري.
رفضت زوجة رجب أن تترك أهلها ومن ربوها وربوا أولادها قائلة:
- لن أترككم أنا تربيت هنا أبًا عن جد، لا أترك أهلي وأشترى هذا الماجن أبدًا.
فأمره ربيع بتطليقها وحذره من أن تقرب قدماه النجع مرة أخرى، وإلا كانت نهاية حياته.
خرج رجب يجر أذيال الخيبة والعار من القصر لكن شيطانه أخذ يراوده، لم لا أتكسب من أسرارهم التي أعرفها، ما دمت سأغادر النجع وسأذوب بين قاطني القاهرة أو الاسكندرية ولن يعثروا عليّ مطلقًا.
ومن فوره ذهب إلى جمال السيد، أخبره أن ابنته لم تمت ميتة ربها وأن الحاج السيد هو من دس لها سمًا ليقتلها، ولم يخبره بالطبع عن باقي الرواية ولا عن ما اقترفته يدا ابنته من شرور، وأخبره أن آل السيد طردوه، وأنه لا عمل له فأنقده الكثير من النقود، وترك رجب جمال والشرر يتطاير من عينيه، وشيطانه يصور له ما يجب أن يفعله بربيع، لم يكتف رجب بذلك بل توجه إلى دار بخاطرها وعلم أن أهلها في البندر فأخذ عنوانهم وذهب لهم من فوره، ليقابل ابنها وحيد و يخبره أن أمه ماتت بسبب الحاج السيد
ولم تمت بالسكتة القلبية كما أخبروه وأن السيد قتلها لأنها كانت تعارضه في أمر لا يعرفه هو.
لم يصدق وحيد ما قاله رجب، فهو يعلم جيدًا من هو الحاج سيد، ومن هم آل السيد، كما كان يعلم جيدًا أن والدته لم تكن ذات سلوك قويم، وطرده وحيد.
اختفى رجب وسط القاهرة الصاخبة.
..........
أما في النجع
كانت نيران الغضب تأكل جمال واستل سلاحه وخرج وبنيته الغدر وأخذ الثأر وما دام السيد قد مات فالثأر لابنته من ولده ربيع الكبير.
حاولت زوجته إثنائه عن موقفه بقولها:
- أقسم أن الحاج السيد لا يفعلها، ولو كان حقًا فعلها فستكون ابنتك كانت ارتكبت ما يستوجب عقابها، ابنتك لم تكن ملاكًا يا جمال وأنت تعلم ذلك، ابعد شياطينك وتروى، حادث ربيع أولًا، إنها ابنتي كما هي ابنتك، لكن الأمر به شيء غير مريح.
لم يستمع لها جمال وخرج، في ذلك الوقت كانت زهيرة في الحديقة مع عمها ربيع تتجاذب معه أطراف الحديث ليدخل جمال صارخًا ثائرًا:
- ثأر ابنتي، ثأر وحيدتي.
وصوب البندقية نحو ربيع فدفع أحد الغفر جمال ليسقطه أرضًا لكن الرصاصة كانت قد انطلقت من مكمنها لتصيب زهيرة في قلبها.
أمسك الغفر جمال، واحتضن ربيع زهيرة، ليجدها فارقت الحياة، أمر الجميع بالصمت،
وبحبس جمال، وبإحضار وهيب وعادل من الأرض وألا يخبرهما أحد عن ما حدث، ووجه الأمر للنساء بتجهيز زهيرة للغسل.
فور أن علمت صفية بمقتل ابنتها صمتت ولم تنطق ببنت شفة من صدمتها، وقسمت النساء أنفسهن قسم بقي يواسي صفية والقسم الآخر ذهب لغسل زهيرة.
فور وصول وهيب وعادل دخلا القصر ليجدا هدوء غير طبيعي، وأرجاء القصر يرتج صداها بصوت القرآن، وبتساؤلهما عما حدث وعن سبب الصمت والحزن المخيم على القصر، أخبرهما ربيع بم حدث.
وقع وهيب جالسًا على الأرض وهو يردد:
- لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا حول ولا قوة إلا بالله.
ودموعه تنهمر.
أما عادل فقد نظر لهم ببلاهة غير مصدق لما يقولونه وانتابته حالة هستيرية وأصابته حالة من الهياج، وظل يصرخ ويحطم في أثاث القصر، ليرسل ربيع في استدعاء الطبيب ليحقن عادل بحقنة مهدئة ويوضع في غرفه بحراسه اثنان من الغفر وأعلن خبر موت زهيرة في النجع ويذهب الكل لدفنها ولم يقم العزاء.
عاد ربيع من دفن زهيرة وهو يسند وهيب ليجلسه، وطلب إحضار جمال، الذي كان قد فارقته شياطينه، وبدأ يستوعب ما فعله، فحكى لهم جمال عن ما أخبره به رجب، فلامه ربيع لومًا شديدًا، وقال والغضب يحتله، وهو يجاهد نفسه لكي لا يفتك بجمال:
- أيها المتسرع الأهوج، أتصدق أحد الخدم، أتصدق من تحرش بحريم الدار ولذلك طرد؟ أتصدق أن أبي كبيركم وحاميكم، قد يقتل ابنتك والتي هي ابنه أخيه، هكذا بدون جريرة أو ذنب، حسنًا، لم أكن أبدًا لأفضح سرها وهي زوجتي، لكن ما باليد حيله.
وأسمعه التسجيل الذي كانت مليحة قد سجلته لحسنات وهي تتفق مع مليحة على وضع السم لأولاد ربيع من رجاء وتعترف بما فعلته مع ونيسة وحورية ومن أنها السبب في جعلهما عاقرتين لا تنجبان.
ليجلس جمال على الأرض يضرب بيديه على رأسه ويصرخ: لو كانت على قيد الحياة لكنت قتلتها بيدي ودفنتها حية، يا عارك يا جمال، أي مصيبة أوقعت نفسي فيها يا رب.
قال ربيع وهو يضرب الأرض بعصاه:
- نحن لنا دم في رقبتك يا عمي جمال، وعزاء زهرتنا لم نقمه بعد.
شد جمال قامته:
- أنا أعترف أني مخطئ والخطأ يتملكني، وجاهز لنيل عقابي، صوب سلاحك عليّ يا وهيب واقتص مني لابنتك.
نظر له وهيب في حزن:
- لا لن أفعلها، لن أدع الشياطين تتملك مني كما تملكت منك، أنا أتنازل عن حقي في دمك، والحكم الأخير لكبيرنا ربيع.
حكم عليه ربيع بملازمة داره إقامة جبريه، لا يغادرها إلا على قبره، وبعشرين فدانًا تقتطع من أجود الأراضي التي يمتلكها جمال، تسجل باسم شاهين ابن زهيرة.
ليقام عزاء زهيرة آل السيد، وسط حزن يسكن حتى الهواء الذي في النجع، والكل يتساءل هل حكم القدر على آل السيد بأن يسكنهم الحزن، ويغشي البكاء عيونهم؟
شاهين كان دائم السؤال على أمه، وأخذته خالته رقية ليجلس معها ومع فارس ابنها ومع باقي الأطفال عزيز و بدور أولاد خالد من المرحومة زبيدة، وباسل ابن خالد من رباب الصغيرة.
أفاق عادل ليعرف بما حدث ولم يتكلم، ذهب لقبر زهيرة، كان ينظر للقبر وهو غير مصدق (يا الله أحب حياتي وسبب رغبتي في الحياة هنا، أتضمها أيها التراب بدلًا منى، أتبعدينها أيتها الجدران عني)
لكم تمنى أن يحطم جدران القبر، أن يبعد رفيقته عن التراب ويجعلها تتوسد حضنه، صرخ عادل بكل ما أوتي من قوة، صرخة ربما سمعها الكثيرون، لكن ماذا يفعلون؟ فهم لا يملكون من أنفسهم شيئًا، إنه حكم الله، وتقديره الذي لا يعلم أي منهم عنه شيئًا، ظل يصرخ إلى أن لاح له طيف شاهين في خياله، فصمت، نعم صمت، فيجب عليه الآن أن يتناسى وجعه وألمه، يتناسى كسرة روحه، ويغض الطرف عن قلبه الذي أضحى كالفسيفساء، ولده بحاجة له، يجب أن يعوضه عن فقدان أمه.
وضع يده على قبر زهرته قائلًا والدموع تتقاطر من عينيه:
- أقسم لك يا حبة القلب ومهجة الروح وسلوان الحياة، لن أخيب ظنك بي أبدًا وسيكون ولدنا العوض الذي وهبه الله لي.
****
واستمر الحال هكذا، يذهب عادل كل يوم ليجلس بجوار قبر زهرته يناجيها ويطلعها على أحوال ولده وأحواله ويعود ليلاً ليحتضن شاهين وينام.
ربيع كان متعبًا جدًا من تلك الأحداث المتلاحقة والمصائب التي ألمت بهم، موت والده ووالدته ثم موت زهيرة، لم يكن يجد الراحة إلا ليلًا في حضن رجاء، فلقد كان ربيع يبيت يومًا عند كل واحده من زوجاته، ولكن بعد فترة حورية وونيسة طلبتا منه المبيت الدائم عند رجاء، فهما يعيشان في كنفه وحماه وهذا ما يهمهما فقط ويعلمان أن سعادته وراحته لا تكون إلا بجوار رجاء.
***
دخل غرفته ورجاء تخلع العباءة من على كتفه قال:
- حمل كبير ينوء به كاهلي يا رجاء، لا أدري كيف كان والدي يتحمله؟!
ابتسمت:
- أنت لها يا ربيع، فليريح الله قلبك.
- لن يرتاح قلبي إلا بعقاب ذلك المأفون رجب على فعلته.
تساءلت: وهل ستستطيع العثور عليه؟
ضحك ربيع: لو كان في بطن الحوت سيحضرونه.
أيام قليله مرت، جند فيها ربيع كل رجاله في القاهرة والاسكندرية في رحلة بحث لا تكل ولا تمل للبحث عن رجب، إلى أن أتته البشرى ووجدوه، ليلقوه تحت قدمي ربيع ذليلًا يطلب العفو، فجمع ربيع الكل في الحديقة وأصدر حكمه أولًا بقطع لسان رجب الذي وشى بسر العائلة، وجره الغفر جرًا إلى دوار جمال الذي قتله، ودُفن الواشي في قبر بلا معالم.
استدعي ربيع وحيد ابن بخاطرها وأطلعه على كل ما فعلته أمه ومساعدتها لحسنات، وإحضارها السم لها والدواء الذي أعطته لزوجاته.
كان وحيد رجلًا محترمًا وتبرأ من أفعال والدته وأقام في النجع مع ابنته الوحيدة شيماء.
ليصبح وحيد الصديق الأقرب لربيع.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي