5 الفصل الخامس

وقفت رباب تلجمها صدمتها لما سمعت، غير مصدقة، أمن أول يوم ينالها الجد بأمره
وتحكمه ويريد تزويجها! ومن هذا الذي ستتزوجه؟ إنها لم تره جيدًا للآن.
أحس والدها بما ألم بها من صدمة، فسارع لاحتضانها وقال هامسًا:
- إياك أن تعترضي إن كنت تخافين على أمك وأخويك، تعقلي.
نظرت له رباب والدموع في عينيها، وأقبل الجميع عليها يهنئونها واحتضنتها حماتها وهي تدعو لها، نظرت رباب بطرف عينيها لترى خالد والرجال يهنئونه، إنه وسيم، يأسر القلب، طويل، يبدو قاسيًا، لم تستطع النظر أكثر، انتهت الليلة وصعد كل منهم لجناح نومه.
ظلت رباب صامته لم تنطق، حاولت والدتها أن تجعلها تنطق بأي حرف لكنها ظلت صامته، طالبها ربيع أن تتركها بحالها فهي كجدتها رباب تصمت عندما تفكر.
ظلت رباب تفكر وتحدث نفسها
(ربما كان هذا في صالحي، فأين سأجد زوجًا مثله؟ وسامة، أصل، حسب ونسب، ثم إنه لا يستطيع أن يمسني بكلمه أو يهينني، فلو فعل سيقتله جدي، وحماتي تبدو طيبة، نامي يا رباب، وتوكلي على الله، ما فُرض بالغصب فلتتقبليه بالرضا)
مرت الليلة وانبلج الصباح ملقيًا خيوط ضوئه على القصر ومعلنًا بِدأ يوم من النشاط، فكان القصر كخلية النحل.
نزل الجميع لتناول الإفطار، طالبهم الجد أن يجلس كل رجل أمام عروسه على الطاولة
وسيكون هذا مكانهم من اليوم وصاعدًا.
ذبحت الذبائح وجُهز الطعام وجاء المنشدون، عُقدت حلقات التحطيب ورقص الخيل حتى وصل الشيخ عصرًا لعقد القران واستمرت الاحتفالات والموائد للمساء.
في موعد تناول العشاء أمر الجد أن يجلس كل واحد منهم مع عروسته في غرفة منفصلة ليتناول معها أول عشاء وهي في عصمته.
ما أن دخل عادل ووجد زهيرة جالسة حتى نزل على ركبتيه أمامها والسعادة مرتسمة على محياه، وقال:
- والله يا زهرتي، إن انتهى عمري الآن فسأموت سعيدًا، فأنت قد أصبحت حلالي.
وضعت يدها على شفتيه:
- أبعد الله عنك الشر.
أمسك يدها التي ترتجف بين يديه:
- أخائفة عليّ يا زهرتي؟
ردت والخجل بادٍ عليها:
- ومن لي لأخاف عليه يا زوجي وابن عمي؟
لثم يدها:
- فقط يا زهيرة، زوجك وابن عمك فقط! أنت تعرفين أنني أحبك منذ أن وعينا على الدنيا، لا تنكري، أنا متأكد أنك كنت تحسين بمشاعري (ثم غمز لها) كما أحسست أنا بمشاعرك، لم ينطقها أي منا لكن عيناكِ كانت تبوح بها يا زهرتي.
واستجمع شتات نفسه:
والآن هيا لنتناول قليلًا من الطعام قبل أن يأتي الجد معلنًا انتهاء الوقت المخصص لنا.
وأخذا يضحكان.
أما في غرفة رضوان ورقية...
دخل رضوان الغرفة ملقيًا السلام على رقية و قبل رأسها وقال: مبارك علينا يا ابنة العم، أنا لا أستطيع أن أقول الكلام المزين يا رقية، لكن كل ما أستطيع أن افعله لأسعدك سأفعله، ولا أطلب سوى أن تضعي أمي وأبي في عينيك لتكوني تاجًا على رأسي.
- كلامك لا غبار عليه يا ابن عمي، فليقدرني الله لأسعدك.
- إذن هيا بسم الله يا أحلى الصبايا.
في غرفة خالد ورباب...
دخل خالد وتعالى صوته بلا أية مقدمات:
- حياتك السابقة يا ابنة عمي تلقينها ورائك، أنا لا أعلم ما حدث في ماضيك، لكنني الآن الحاضر، ما فات تنسينه، أنا أدرى جيدًا ببنات القاهرة وألاعيبهم، وربما كنت تعرفين أحدًا أو تحبينه في السابق.
هبت رباب واقفة وعلا صوتها هي الأخرى:
- لا هذا كثير، انتبه لكلامك، وتأدب معي أنا ليس لي في اللف والدوران.
استشاط خالد غيظًا وغضبًا من أسلوبها، فكيف يعلو صوتها عليه هكذا ورفع يده ليضربها بينما حمت وجهها بيديها.
وافقت تلك اللحظة دخول الجد الذي هاله ما رأى فقال:
- يدك المرفوعة يا خالد مرفوعة على من؟
أنزل خالد يده:
- لقد قللت من أدبها يا جدي، وكنت سأربيها.
غضب الجد واحتضنها:
-كنت ستربيها، وهل ابنة آل السيد ناقصة تربية، تحشم، أتريد ضربها وهي لم تكمل الساعة على ذمتك، هل جننت؟ ألا كبير لها ليرد عليك.
ونظر لرباب:
- ماذا فعلتِ ليضربك؟
قالت بصوت متهدج:
- والله يا جد، لم أفعل شيئًا، لقد دخل وصوته عالٍ، لم يلق حتى السلام، وكال لي الاتهامات يمنة ويسرة وطعن في أدبي، فعلى صوتي أنا الأخرى دفاعًا عن نفسي.
صمت الجد ثم قال:
- أنتما تختلفان كثيرا عن بعضكما، يجب عليكما الهدوء في التعامل، وطول البال إلى أن تفهما طباع بعضكما، كل منكما هو قدر الآخر ونصيبه، فتعايشا مع ذلك، إما أن ترسما طريقكما للسعادة، أو تغوصا في مستنقع الشقاء، إنه اختياركما، لكن تذكرا في آل السيد لا طلاق يقع.
وتركهما وانصرف.
عم الصمت قليلًا ثم قالت رباب:
- أنا آسفه على علو صوتي يا ابن عمي يا خالد (وقع اسمه من بين شفتيها كان له رنين ساحر في أذنيه) لكن يجب أن تعلم عني كل شيء، أنا لم أولد مرفهة كما تظن، لا يغرنك ملابسي وهيئتي، لقد اشترى أبي كل ما يلزمنا ونحن قادمون، لقد عانيت الأمرين، لم أكن لأفكر أبدًا في حب أو غيره، أنا لم أكن أفكر سوى في لقمة العيش وعملي، لأنني إن تفرغت للحب لم أكن لأجد ما نقتات به، حياتي لم تكن أبدًا سهلة يا ابن العم.
رق قلبه لحالها فاقترب منها مقبلًا رأسها:
- حسنًا ما فات قد مات، وأنا لن أغضبك مرة ثانيه، هيا لنتناول الطعام.
كل من بالقصر كان سعيدًا فرحًا ما عدا حسنات حية القصر الرقطاء؛ التي كانت تتوعد لرجاء وأولادها لتنتقم منهم لكي لا يجد ربيع ملاذًا له سواها.
في صبيحه اليوم التالي بعد تناول الإفطار وإعلان إذن الانصراف من الجد، استعد خالد للانصراف لمباشرة الأرض.
نادت عليه رباب وطالبته أن تنزل للقاهرة لتكمل ما ينقصها من كتب وتُحضر جدول الامتحانات، فحين طلبت من والدها ذلك طالبها باستئذان خالد، أعلمها خالد بأنه موافق
وسيخبر الجد أولًا.
بينما نقل ربيع أوراق راضي ونبيل للمدرسة القريبة منهم وغضب من راضي حين صارحه بأنه لا يريد إكمال تعليمه وقال له:
- لا يا راضي، يجب أن تتعلم، لا يهمني أن تتفوق، يكفيك أن تتعلم وتنال شهادتك.
وطالبهما بأن يعاملا أقرانهما في المدرسة بحب واحترام، وألا يتكبرا عليهم أبدًا، فالسيرة العطرة هي ما يبقي للإنسان وليس المال.
طالباه بأنهما يريدان ركوب الخيل ففرح جدًا وصحبهما للإسطبل وطلب من كل منهما أن يختار حصانًا ليكون ملكًا له، قفزا من فرحتهما، اختار نبيل حصانًا أبيض، بينما اختار راضي حصانًا أسود.
ابتسم ربيع قائلًا:
- كان لدي احساس أنكما ستختاران هذين الجوادين، جوادك يا نبيل اسمه الزين وهو مثلك هادئ، أما اختيارك يا راضي فهو الصياح، جواد شرس وصعب، ولا يسمح لأي من كان بالاقتراب منه، لا يتعامل معه سواي، فهيا اقترب منه لنرى، هل سيقبلك أم يرفضك؟ لكن احترس.
ابتسم راضي ونظر لصياح محدثًا إياه:
- حقًا صياحي، أنا أحبك، وأنت ستحبني، أليس كذلك؟
ونظر في عيني الصياح وكأنهما يتحدثان بلغة العيون، واقترب من رأسه وربت عليه ثم قبله، ليصهل الصياح صهيلًا هادئًا وكأنما يُحيي راضي ثم قرب رأسه منه، و استمرا يفركان رأسيهما سويًا في سيمفونية عشق تغزل.
ضحك ربيع:
- سبحان من يؤلف القلوب.
أما حسنات فقد نادت على الخادمة، وطالبتها بإرسال من يحضر لها الدلالة بخاطرهم.
جاءت بخاطرهم تتحسر على حال حسنات، وما جري لها، وكيف أن ربيع فلت منها ويقبع في حضن القاهرية، طالبتها حسنات بإحضار سم قوي المفعول لا يظهر له أثر واتفقت معها على ما ستعطيه لها، وطالبتها حسنات بالإسراع قدر ما استطاعت.
فاتح خالد الجد في مسألة سفر رباب، فطالبه أن تسافر معها ابنتا عمه رقية وزهيرة ووالدتهما صفية ووالدة رباب لتنهي رباب ما تريده ولتتسوق الفتيات ما يلزمهن من أجل زفافهم.
تجهز الكل للسفر وسافروا بسيارة خالد، سافر الجميع في السيارة ذات الدفع الرباعي يقودها خالد فهو يحب قيادة السيارة بنفسه، كان طوال الطريق يمازح بنات عمه وأمهم
وزوجة عمه رجاء، أما حديثه مع رباب كان قليلًا لكنه طوال الطريق كان يشغل سي دي السيارة بأغاني الغرام لأم كلثوم ونجاة.
نزلوا في الفندق الذي اعتاد خالد النزول فيه، واختاروا الإقامة سويًا في جناح مشترك ما بين رباب وأمها وصفية وابنتيها فقد أصبحت علاقتهم وطيدة ومتينه.
أمضى خالد ليلته في حديث مع نفسه
(حقًا إن أمك راضيه عليك، عروس كالبدر في تمامه، لا أدري سرها لكنها تجذبني لها كالمغناطيس، بداخلي إحساس بأني أريدها بقربي طوال الوقت، يبدو أنها سحرتني، أتراك يا جبل النجع وقعت في براثن الهوى والغرام، وهل هذا عيب؟ إنها زوجتي، حلالي).
وهاتفها: مساءًا سعيدًا على قمر آل السيد.
- قمر آل السيد! يبدو أنك تجيد الكلام المعسول.
- من يرى عيناكِ يتعلم كل الكلام المعسول.
ضحكت لتأسر قلبه أكثر فقال متنهدًا:
- يا الله، إن لك ضحكة تفقد الصواب، إياك أن تضحكي هكذا إلا لي، ماذا تفعلين؟
- لا شيء، جالسة على السرير أحدثك، وأمي وابنتي عمي العزيزتين، وحبيبتي الخالة صفية، كلهن يسترقن السمع.
فضحك:
- مراقبة أنتِ.
- نعم مراقبة، وهيا لتنال قسطًا من النوم.
- سأنام لأحلم بك يا قمر ليالي خالد القادمة.
- حسنًا تصبح على خير.
- تصبح على خير هكذا، بدون إضافات.
ضحكت فأشعلت النيران في قلبه أكثر:
- تحشم خالد.
- سأتحشم يا قلب خالد، تصبحين على خير حبيبتي.
- ماذا قلت؟
- قلت حبيبتي، وأنتِ ألن تقولي حبيبي؟
ضحكت:
- لا، لن أقولها، تصبح على خير يا زوجي العزيز.
فضحك:
- حسنًا سأسامحك لأنك مراقبة، تصبحين على ورد جوري كلون وجنتيك.
مر الليل على كل منهما محملًا بأحلام وردية.
***
استيقظ خالد وهاتف رباب لتقابله في بهو الفندق.
نزلت رباب تبحث يمنة ويسرة عن خالد، فجاءها من يضع يده على كتفها متسائلًا بصوت غاضب:
- أذاهبة للكلية هكذا؟!
فاستدارت لتجد نفسها أمام شاب يرتدي الملابس الكاجوال، فهي لم تره سوى بالجلباب
والعباءة، أما اليوم فهو يرتدي بنطلون أسود من الجينز وقميصا أسودًا وزاده الأسود وسامة فوق وسامته، وقفت رباب تناظره؛ شارده في وسامته وطلته المهيبة، حتى أفاقت على هزه من ذراعه:
- أذاهبة هكذا للكلية؟
نظرت لنفسها:
- نعم.
قال بغضب:
-لا بالطبع، هذه البلوزة قصيره، وضيقة ، كما أن شعرك المسترسل هذا لا يصلح للكلية، هل ستبدلين هذه الملابس أم ترتدين عباءة.
- لا، لن ألبس عباءة، سأرتدي ملابس أطول، عشرة دقائق وأكون أمامك، انتظرني هنا،
وإياك أن تنظر لهذه أو لتلك بوسامتك هذه.
وهرولت من أمامه قبل أن يرد عليها.
نزلت بعد قليل مرتديه جيب بنطلون أسود بورود صغيرة خضراء متناثرة هنا وهناك،
وبالأعلى بلوزه سوداء تصل لكمر البنطلون وعليها جاكيت قصير أخضر مربوط من الأمام ورفعت شعرها في ذيل حصان:
- هل هذا جيد؟
نظر يتأمل جمالها وهي تشع كالقمر أمامه:
- نعم هذا جيد، وإن كنت أود أن أخفيكِ عن الدنيا بأسرها، هيا لتناول الافطار.
وثنى ذراعه لتضع يدها فيها، وتوجها للمطعم وتناولا افطارهما وانطلقا لكليتها.
صورت الجدول بهاتفها المحمول، وتركها قليلًا ليحضر لها أحد الكتب التي تباع في الكلية.
كانت تقف وحدها فأتى شاب متغزلًا في جمالها:
- ما أحلي الصباح، لقد ارتفع مقياس الجمال في كليتنا جدًا، هل الحلوة في السنة الأولى؟ أخبريني، سأقدم لك كل المساعدة يا قمر.
وحاول إمساك يدها.
كان خالد قادمًا رأى الشاب يقترب منها فسارع خطاه ليضربه، لكنه توقف مكانه
عندما سمع رباب تقول له بأعلى صوت:
- القمر هذا سأجعلك تراه يدور حول رأسك.
وضربته بحقيبتها على وجهه:
- ويدك هذه أقطعها قبل أن تلمسني أيها الوغد.
سقط الشاب أرضًا من مفاجئته بالضربة فهو لم يتصور أن وديعة مثلها قد تضربه بهذه القوة، حاول استجماع قوته ليقوم ويضربها فوجد قدم خالد على صدره قائلًا:
- فكر في النهوض إن كنت مستغنيًا عن حياتك، أمثالك من الحثالة مكانهم الأرض.
اجتمع الطلبة حولهم وعند معرفتهم بمحاولته التحرش بها أكملوا ضربه وسلموه لحرس الجامعة.
سألها خالد:
- ألم تكوني خائفة منه؟
ردت:
- خائفة، أنا! مِمن يا حبيبي؟ قابلت الكثيرون ممن هم على شاكلته، وكلهم نالوا شرف اللقاء مع حذائي.
سألها بود:
- ماذا قلتِ؟
- كلهم نالوا شرف اللقاء مع حذائي.
- لا قبلها.
ففطنت لمناداته بحبيبي واحمر وجهها، فضحك خالد وقاد سيارته متوجههًا للفندق
وأمضى اليوم برفقتهم يتبضعون ما يحتاجونه، أمضوا أسبوعًا حتى أنهوا شراء ملابس الفرح ومستلزمات العرائس.
اصطحب خالد رجاء للتنزه وحدهما أكثر من مرة على النيل وأراها كل الأماكن التي لم تذهب لها، وهي متشبثة بذراعه وفي قمة سعادتها.
في إحدى النزهات بعد أن عادا بينما هما في المصعد وحدهما اقترب منها خالد وفاجأها بقبلة على حين غرة، فانتفضت وصفعته بدون أن تشعر، ثم أغمضت عينيها ورفعت كفيها وهي تقبضهما قائلة:
- آسفه، أقسم بالله لم أقصد، لقد باغتني و...
فأسكتها بقبلة أخرى لتفقد وعيها بين يديه، ليقول فزعًا:
- يا الله، أفيقي رباب أفيقي، أكل هذا من قبلة؟ متى يغلق علينا باب واحد؟
قام برش قليل من العطر الذي أخرجه من حقيبتها على وجهها لتعود إلى وعيها وتستعيد رباطة جأشها:
- أتوسل إليك ألا تفعلها مرة أخرى.
قطب جبينه:
- ألهذه الدرجة قبلتي سيئة.
توردت وجنتيها:
- يا ليتها كانت سيئة.
انفتح باب المصعد فسارعت بالهروب من أمامه وهو يشتعل بنيران الشوق للقاء.
كانا يمضيان الليل يتحدثان في الهاتف ويتناجيان الهوى حتى تصرخ رجاء:
- يكفيكما حبًا، اخلدا للنوم.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي