5 ظُلمت دون ذنب

صياح غاضب اهتزت بسببه أرجاء المنزل وأوقظ الجميع فانتفضت فايزة فزعًا من نومها، وغادرت غرفتها ووقفت تحدق بوجه طاهر برعب بعدما قال بصوت مرتفع:
- أجُننت يا فضل حقًا أنت جُننت لتقول عن شقيقتك همس هذا الحديث، أتعلم لولا أنك شقيقي لكنت قتلتك على وصمك لهمس بجلب العار.

اغمض فضل عيناه يشعر بصدمه شقيقه الذي لم يأت إلى تفكيره أبدا أن تفعل همسة تلك الفعلة التي وحسب قوانين البلد تستوجب قتلها ليقول:
- اقتلني يا طاهر واضربني بحذائك على ما حدث، فأنا لا أستطيع مواجهتك ولا النظر إليك، حقًا أنا أشعر بالخزي لفِرار همس من منزلي.

تهدجت أنفاس طاهر حينما حدثه شقيقه بلهجته ليدرك من كلماته أن ما قاله حقيقه، وأحس بأنه يقف فوق نيران ملتهبة تلتهم جسده حيا، فهز رأسه برفض ليأتيه صوت فضل يقول بخزي:
- أنا أعلم بأن الخبر صادم يا طاهر وأنه كالجبل الذي يجثم فوق الصدور، ولكنه حدث وهربت همس دون أن ترأف بنا نحن أسرتها فرت لتصنع منا مُضغة وتضعنا بأفواه الجميع دون رحمة أو شفقة.

تجمدت ملامح طاهر وتحجرت عيناه لتصبح للناظر إليها كحلقتين من الزجاج المخضب بالدم، بعدما انتفخت أوردة عنقه وأحتقن وجه بغضب أعمى، ليقول بصوت كفحيح الأفعى خرج من بين أسنانه كأنه يستدعي ملك الموت:
- ولِما لم تبحث عنها وتأتي بها وتقتلها يا فضل؟ لِما تركتها تجلب العار؟ حقًا أنا أعجب لأمرك تبكي كالنساء وتشكو بدلًا من أن تتصرف كالرجال.

هب فضل ليقف بعدما أهانته كلمات طاهر والتفت ليرمي هنا بنظرات الاتهام والغضب وقال:
- طاهر أنا لم أقف ساكنًا ولم أقبع بمكاني أبكي كالنساء، أنا أبحث عنها بكل مكان منذ ثلاث أيام ولم يُغمض لي جَفْن وكنت أتمنى أن أبلغك بأني قتلتها ومحيت العار عنا، ولكني لم أجدها حتى الآن يا طاهر.

أنفرط عقال غضب طاهر، لتنتفض فايزة برعب أكثر وهي تراه يطيح المَقْعَد من أمامه، لتشتد نبرات صوت طاهر حدة ويقول:
- ماذا تقول ثلاث أيام كاملة يا فضل وكيف استطعت التكتم على الأمر؟ كيف قبِلت علينا أن نحيا بغفلة لثلاث أيام يا رجل؟ ألا تعي حديثك هذا بأنه يُحملك عبأ الخطأ ووزر ما حدث فعقاب فعلتك يا فضل تطير فيها الرقاب، ولكن أتعلم شيء أنا لا ألوم عليك برودك ذاك فيبدو أن حياتك بالمدينة جعلتك تنسى أصولك وجذورك يا فضل ولم تعد تعرف الأصول والأعراف وجعلت ما بأوردتك مياه بدلًا من الدَّم، لذا سآتيك أنا ووالدك لنُعيد تربيتك من جديد ونُعلمك كيف تكون الرجال وأعدك يا فضل أن أعيد همس جثة، فأنت السبب الأول بدلالها المفرط ذاك أنت السبب يا فضل.

والتقت عينا طاهر بعين فايزة التي لوت شفتيها بسخرية وشماته، ليشيح ببصره عنها ويقول:
- والآن دعني وأنهي تلك المحادثة التي لا طائل منها غير أحتراقي بسبب فعلتك وانتظرني فأنا بطريقي إليك.

تابعت هنا بعينين مذعورة وجه زوجها الذي ترك هاتفه ليحدق بها بغضب وقف أمامها، فانكمشت هنا في مقعدها خوفا منه فهي تواجه غضبه لأول مرة لتسمعه يقول من بين أسنانه لتعلم أنه بذل جهدا كبيرا ليتحكم في غضبه:
- بعد فعلتك المشينة بحقي وحق والدي وبعد مساعدتك لهمس بالهرب لم تعد لي حاجة بكِ، وأعلمي أنك لم تعودي زوجتي منذ اللحظة وما أن يصل والدي سأتمم طلاقي منكِ، وسأعيدك إلى البلدة برفقته فالمرأة التي تغدر بزوجها توضع بنفس الميزان مع الفتاة التي هربت، فأنتِ وهمس جلبتم العار وجزائكم واحد وهو الموت.

شحب وجه هنا واتسعت عيناها بصدمة لتنهار باكية لا تصدق ما رماها به فضل، وحين هم فضل بالابتعاد عنها، ركعت مسرعة وتمسكت بساقه وقالت بتوسل وخوف:
- أتوسل إليك يا فضل لا بل دعني أقبل قدميكِ وأفعل بي ما تشاء ولكن لا تظلمني، فأنا بريئة مما تتهمني فيه صدقني يا فضل أنا لم أراها وهي تفر، كنت أعمل بالمنزل وأرتب المكان ولم أعي لها لم أدرك غيابها إلا حين عُدت أنت من عملك، صدقني فضل لا دخل لي مُطلقًا بفرار همس والله شاهد على صدق حديثي.

دفعها بساقه ليبعدها عنه بقسوة ومال عليها قابضا على خصلات شعرها بقوة وقال:
- كيف تُريدين مني تصديقك وأنتِ وهي بمفردكما بالمنزل، أخبريني كيف غادرت غرفتها التي أغلقتها بنفسي عليها وكيف غادرت المنزل دون أن تنتبهي؟ أرجوكِ يكفي لا تقولي المزيد من الكذب والهراء.

ليتركها وكأنها كم مهمل وينظر لها من أعلاه ويردف قوله:
- حسنًا لقد أخبرتك بما لدي من حديث وأنا لن أتراجع أبدًا عن قراري، ومن الآن بات عليكِ الالتزام أمامي وإياك ومجالستي ووجهك أو شعرك مكشوف فأنت بِتِ مُحرمة عليا.

لطمت هنا وجهها وصدرها وأخذت تبكي وتقول:
- أهان عليك قولها لي يا فضل أهكذا ترميني خارج حياتك تطلقني وأنا المظلومة، سامحك الله يا ابن عمي سامحك الله على ظلمك البين لي.



وقع الخبر على رأس أشرف كالصاعقة، ليحدق بصدمة في وجه يحيى لا يصدق أن يصل الأمر إلى هذا الحد ليتباهوا بما فعلوه في ضحيتهم ينشرون أحد المقاطع، ليأتيه صوت خاطر يقول ليعيده إلى أرض الواقع:
- أعلم أن الموقف صعبًا بل أصبح مستحيلًا بعد أن سربوا المشهد عبر مواقع التواصل الاجتماعي منذ بعض الوقت، ورُغم ما حدث إلا أني كنت أتمنى أن يحدث أمرًا مشابهًا.

رماه أشرف بنظره ناريه، وقف خاطر وتابع حديثه وأردف:
- حين تعلم لماذا تمنيت أن يحدث ذاك التسريب ستعلم ما أني لم أقصد أبدًا أن تحدث فضيحة أو كارثة، لأني منذ تحدث معي سيادة المقدم يحيى وأخبرني بأن الفيديو الذي بُث لخمس دقائق سابقًا ثم حُذف تمامًا من مواقع الأنترنت جميعها وأن الموقع الذي بثه تم تخريبه ومحو أثره، تمنيت حينها أن أشهد هذا الفعل لذا ومنذ اتخذت أولى الخطوات وشاركت بالتطبيق وسددت مبلغ التأمين وحرصت على وضع بيانات صحيحة كاملة، حتى لا تصبح العضوية مصدر شك وريبة وقمت بزرع أحد المجسات التجريبية وهو يشابه البرنامَج المصغر، لذا ما أن قاموا ببث المقطع بدأ المجس بالعمل.

تابعت العيون وجه خاطر بأهتمام بعدما أسرهم إليه، ليردف وهو يرى عيونهم المتسائلة:
- وذاك المجس وضعني على أول الطريق فبدأت بجمع بعض المعلومات التي لم تتوفر سابقًا، منها أن المقطع تم نشره من التطبيق ذاته ومنها تتبعت مصدر البث بروتوكول الإرسال، تتبعتها عبر عدة بلدان منها لاهور وطرابلس وطوكيو وصولًا إلى هاواي إلا أنني في نهاية المطاف كشفت الخدعة، وأدركت أن قاعدة البث هنا في القاهرة، لذا أنا على يقين بأن الخطوة التالية قادمة لا محالة وسنقوم بالكشف عن هويتهم جميعًا.

جحظت عيون أشرف وأنقض على خاطر وقال بلهفة:
- أحقًا ما تقول يا رجل أتعني أن تلك الذمره الفاسدة متواجدة بالقاهرة، أتدرك أن تلك الخطوة التي أنجزتها أنت وباسم يا خاطر وفرت علينا الكثير من عناء البحث بلا طائل وطلب المساعدات من الآخرين.

تبادل خاطر وباسم النظرات ليقول باسم:
- سيدي أنا وخاطر ما أن وافقنا على العمل معكم عدّ الأمر تحديًا جديًا بيننا وبين مبرمج ذاك التطبيق، فهو قام بتأمين كافة خطواته صمم جدار ناري صعب أختراقه صمم العديد من المسارات الإلكترونية ليتخبط المتتبع بينها وتتوه خطواته، لذا رُغم حيطته وحذره أدرك بيقين أن الله عز وجل سيُمكننا من الوصول إليه ووضع نهاية تُلائمه هو ومن هم على شاكلته، وذاك ليس لأننا نبحث عن شهرة ونُريد أن نكون في الصدارة، لا سيدي بل من أجل أن يأخذ جزاءه العادل الذي يستحقه فالنصر لنا لا يشعرنا بالسعادة فكل خطوة تقربنا منه هي خطوة مُغمسة بدم فتاة بريئة لا ذنب لها، ونحن جميعنا لا نريد وقوع المزيد من الضحايا خاصة بعد ذاك المشهد القاسي الدام الذي شاهده الجميع.

وما أنه أنهى باسم حديثه حتى صدح المكان برنين هاتفي يحيى وأشرف، ليتبادلا النظرات ويغمضا أعينهما فحدق بهما خاطر وباسم بقلق، ليجيبا عن الاتصال في آنٍ واحد، لتكتسي وجوههم بالألم وأغلق يحيى هاتفه ووقف بجسد يرتجف ينتظر أنتهاء حديث أشرف الذي أشار له ليتجها صوب باب الشِّقَّة، فتبعهما خاطر وباسم وأنهى أشرف حديثه ليستدير إليهما و يقول بحزن:
- جثة الفتاة الأخيرة عُثر عليها تطفو على صفحة النيل بنفس توقيت البث، وللأسف قام الرجل الذي عثر عليها بأخذ العديد من الصور لها بهدف بيعها والحصول على الشهرة، وهو لا يدر أنها شهرة ملوثة بدم فتاة طاهرة أبت على نفسها المهانة وفضلت الموت دفاعًا عن شرفها بدلًا من الحياة مدمغه بالعار.



وانجلى الليل وأتى نهار حزين بكت فيه السماء كأنها تشارك القلوب مصابها، وها هو فضل الذي لم يستطع البقاء في مسكنه غادر فجرا يقف حائرا أيعود إلى بيته ينتظر اخيه أم يعاود بحثه عن شقيقته، ليصدح فجأة صوت أحد الصبية يقول بصوت عال:
- اقرأ الحادث، اقرأ حادث الضحية الجديدة.

لم يدر لما شحذت حواسه حين سمع النداء، ولما شعر بعرق غزير ينضح بجسده، وتسارعت أنفاسه فأسرع مستجيبا لنداء ذلك الصبي ينتابه خوف غريب ما أن أعلن عن وقوع حادث جديد، لم يدر لما قبض قلبه هكذا ولما هو متلهف للحصول على تلك الصحيفة وهو ليس من محبي قراءة الصحف، هرول خلف الصبي وأخرج من جيب بنطاله بعض قطع النقود لم يعي عددها دفعها في يده وابتعد عنه وأخذت يداه تعبث بالصحيفة حتى وصل إلى ذلك الخبر، وما أن وقعت عيناه عليه حتى اختلج قلبه بين جنبات صدره يصرخ كطائر ذبيح جحظت عيناه وتجمد جسده ووقف مكانه لا يقوى على الحراك، ارتطم به بعض المارة ولم يلتفت لهم لا يشعر بأحد ولا بنفسه لا يشعر إلا بلسانه يحاول فك ألغاز الحروف التي أصبحت فجأة مبهمة أمامه، أصبحت رؤيته ضبابية وأرتجف جسده بقوة جعل المارة بالطريق يخشوه فابتعدوا عنه خوفا من ملامح القهر والغضب التي أصبح عليها، ولم يعي يداه التي مزقت الصحيفة ولا صوت صرخته الجريحة قبل أن ينهار أرضًا وَسْط دهشة المارين بالطريق.



تقف تراقب من مكمنها تنظر بإمعان تتابع حركاتها لتلتقط لها بعض الصور دون أن يلحظها أحد وانتحت جانبا ترسل تلك الصور إليه، ليستجيب حسن لنداء هاتفه وأخذ يضرب أزاره بنفاذ صبر، ليقف وعيناه تلمع بعد مشاهدته لتلك الصور ليصيح صحية النصر ويقفز فدلف وليد إلى غرفته، وحدق به في حدة وغموض ليقول حسن الذي لم يعي نظرات وليد إليه:
- أخيرًا سوزي أرسلت لنا شيئًا ذا قيمة أنا حقًا لا أصدق أنها فعلت بعدما يأست منها فهي لم تتفهم وجهة نظرنا بطلبنا ولم تستطع تحقيق شيء.

ومد حسن يده بالهاتف إلى وليد ليحدق بيده الممدودة بلا اهتمام، ليلحظ حسن حالة وليد ليقطب جبينه ويقول:
- أسيستمر خصامك لي طويلًا يا وليد أرجوك دع عنك الأمر فأنا لم أتعمد أبدًا أن أفعل ما يضايقك هكذا، وكنت أظن أن فعلتي تلك ستأتي بالكثير من المتابعين والمشاركين، لذا أنسى ما حدث فأنا لم أقم إلا ببث مقطع صغير لم يف ما حدث حقه، وهو لا يستحق أن تفتعل كل تلك الجلبة عليه.

رمقه وليد بغضب وقال بحدة:
- ذاك المقطع الصغير الذي تستهزيء به الذي تظنه لا يستحق جلبة، يمكن أن يكلفنا الكثر والأخطر أنه قد يكلفنا حريتنا يا أحمق، ثم أجبني يا حسن منذ متى وأنت تتدخل بعملي وتعبث به وأنت لا تفهم ولا تفقه به شيء ودون إذن خاص مني، ثم من أخبرك أننا نريد المزيد من المشاهدين أو المتابعين ألا تعلم أن لدينا فائض ونملك الكثير، أخبرني لما الطمع بشيء يمكن أن يدمرنا ويدمر كل شيء سعينا إليه.

أحتد حسن وقال بضيق:
- حسنًا يكفي يا وليد أرجوك لا تعط الأمر أكبر من حجمه ولا تنصب لي المشنقة لفعلتي.

حاول وليد كتم غيظه ونظر له بسخط وقال:
- أنا لن أنصب لك المشانق ولن أفعل شيء، ولكن أعلم أن تصرفاتك الغير واعية والمتهورة هي من سيعلق أعناقنا جميعًا على حبال تلك المشانق.

تدارك حسن الموقف واعتذر وقال:
- حسنًا أخبرتك أن لك كامل الحق وأنا اعتذرت لك وأعدك ألا أمسِ أجهزتك مرة أخرة، والآن دعنا نرى هدفنا التالي خذ تلك الصور وأخبرني رأيك.

مَدّ وليد يده وأخذ هاتف حسن يطالع الصور وعيناه تمعن النظر بالفتاة، ليهز رأسه باستحسان ويقول:
- أنها لفتاة جميلة حقًا، ولكن ألا تبدو صغيرة السن بالنسبة إلى محفوظ.

أسترجع حسن هاتفه وقال وهو يحدق بالصور:
- صغيرة لا فهي بالسن المطلوب وحداثتها هي المكسب الحقيقي لنا، فأنت لا تعلم أن كبار السن يعشقون الصغيرات وقد يدفوا ثروة كبيرة نظير قضاء ليلة واحدة مع إحداهن، والآن عليك أن تفكر لنا بطريقة لنأتي بتلك الصغيرة إلى هنا فهي ضالتنا المنشودة التي ستدخل المصيدة بقدمها.

ابتسم وليد وعيناه تلمع بنظرات شيطانية ليقول:
- نحن لن نبذل أي مجهود لنأتي بها فهناك طريقة واحدة ستجعلنا نجلس كالملوك وتركع لنا هي دون أن يرتاب بنا أحد أو يعارضنا.

تهللت ملامح حسن بغبطة وأخذ يصفق ويقول:
- أرى لمعة الظفر بعينيك يا وليد لذا أدرك أنك وجدت الحل حتمًا.

أومأ وليد برأسه وقال :
- أجل وجدته يا حسن لذا أنصت لي جيدًا وتعلم مني فأنا هنا الأستاذ.



جالسه بجواره تتشح بالسواد تبكي في صمت على حاله، فالطبيب أعلمها أن عقله قرر الهروب من الواقع وأختار الدخول بتلك الغيبوبة بعدما أصابة ارتفاع ضغط الدَّم المفاجئ بتلك الجلطة، وما أن غادرها الطبيب وأصبحت بمفردها معه حتى مدت كفها المرتعش تتلمس يده على استحياء لا تدر أوقع طلاقه لها بكلماته التي أخبرها إياها أم هي زوجته للآن، ازداد انهمار دموعها ومالت بوجهها وقبلت يده وهمست بانكسار:..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي