البارت٤

أسند (ماركوس) جذعه إلى ظهر المقعد يفرك جبينه بأصابعه في تفكير وهو يقلب الأمر برأسه منقباً عمن تصلح لمهمة البديلة، وكل من تَطُل بلائحة الفتيات اللآتي تطفق اسمائهن إلى الذاكرة وبرغم حسنهن إلا أنهن لا يصلحن إطلاقاً، ف(چاكوب) على معرفة سابقة بهن وليس هو فحسب فكما قال الدون كلهن عاهرات.

وهذه المهمة تحديداً تحتاج إلى وجه جديد وفي الوقت ذاته تكن صاحبته فاتنة حد الهلاك، فلعل الدون ينشغل بها ويخرج من دائرة الوهم ويفهم أن الحديقة بها أزهار كثر، أزهار سيكن في غاية تفتحهن مع ودود گ (چاكوب).

و(ماركوس) هنا لا يبالغ فالدون وإن كان ظاهرياً قاسياً لا يعرف اللين لقلبه سبيل، إلا أن الحقيقة تتناقض تماماً مع ما يحاول (چاكوب) إقرانه به كهالة تحيطه أمام الجميع.

الدون وإن كان حازماً إلا أن بداخله قلب مراهق يسعى للاهتمام ويرغب بدفء امرأة تعطيه كما سيغدق عليها من محبة وعطف، الدون جل أحلامه الاستقرار وتكوين أسرة وإنجاب أطفال، وهذا هدف بسيط سيتولى (ماركوس) عناء إيصاله إليه.

وربما يجد في طريقه مَن تُقَوِّم اعوجاجه هو الآخر، ويقع في حبها رأساً على عقب ولكنه يشك، ف (ماركوس) ليس بوفاء وقناعة الدون (چاكوب).
                      ❈-❈-❈

مرت أكثر من نصف ساعة وهو شارد، حتى طرق جبينه براحة يده، وهو يقلب في كومة الأوراق الموضوعة أمامه على سطح المكتب، وعندما لم يجد ضالته أخذ يفتح أدراج مكتبه واحداً يلو الآخر عابثاً بمحتوياتها كمن يبحث عن إبرة بكومة قش إلى أن علت الابتسامة شفاهه وعينيه تلمع بانتصار.

ومن ثم دقق النظر فيما بحوزته باحثاً عن رقم التواصل الذي وجده مدوناً على ظهر الكارت، ليلتقط سماعة الهاتف الأرضي يضغط الرقم المطلوب.

ها قد جاءه الرد على الفور وصوت ذو بحة أنثوية مشكوك في أنوثة صاحبته يجيب قائلاً:

-معك (مارتينا سواندرسون) من مكتب عروض الحفلات، كيف لي أن أساعدك؟!

(ماركوس) بلوية ثغر:

-اسمع يا أخ (مارتين)!!

(مارتينا) أو (ماتي) كما تدعوها صديقتها الوحيدة، مجيبة بمجاراة:

-معاك يا برو!!

ارتسمت ابتسامة على شفاه هذا الذي رفع حاجبه بدهشة وتسلية في آن واحد؛ إذ ظنها ستغلق المكالمة بوجهه بعد تنمره هذا ولكنها خالفت توقعاته، ليسألها:

-هل تزودون الحفلات بالفتيات؟

تبدلت ملامح (ماتي)، وهي تُوئِد رداً لاذعاً حجزته على طرف لسانها، فمَن يظن نفسه هذا الوقح!! يتواصل مع بيت دعارة، فتلك ال(ماتي) صحيح تحمل الجنسية الأمريكية ولكنها من أصل ريفي لأبوين استراليين علماها معنى العفة، و بالوقت ذاته لديها رباطة جأش إذ علمتها المواقف ألا تبادر بسوء الظن لربما قد ترائت لها صورة مغايرة لما يقصده المتصل.

فاستبدلت استنكارها بإيضاحٍ مبطن، تقول:

-هذا يتوقف على نوع الحفلة، فإذا كانت معلنة كزفاف أو خطبة، أو كانت حفلات عروض أطفال كأعياد ميلاد أو ما شابه، فقطعًا لدينا ما تبحث عنه أما إذا......

قاطعها (ماركوس) بعد أن وصله المغزى من تعقيبها، وللحقيقة قد أعجبته ردودها؛ فها قد توفر الشق الأول من طلبه ألا وهو وجه جديد، لا علاقات عبثية مع وسطهم أي فتاة لن تكن محط استنكار من الدون وإذا رافقها لن يقلل هذا من شأنه، لذا أسرع يقول:

-أما ماذا؟! لِم كل سوء الظن هذا يا عزيزي (مارتين)، أنا أبحث عن ممثلة لا عن فتاة ليل!!

(ماتي) متنهدة بارتياح، تجيبه بمرح:

-ما بك يا شقيق؟! أنا فقط أوضح لك الصورة حتى لا تختلط عليك الأمور!!

قهقه (ماركوس) على صاحبة هذه الروح المرحة، يقول بأريحية فقد شعر بأنه يرغب في إطالة الحديث معها ولا يعرف لِمَ؟! :

-اتضحت الرؤية يا رفيق، كل ما في الأمر أنني أريد فتاة، لا بل أميرة تمثل دور بحفلة لمدة ساعتين لا أكثر ستذهب ضيفة معززة وتعود إليكم سالمة.

-وفي المقابل ستتقاضى مبلغ خمسة آلاف دولار عن الساعة الواحدة.

عاد الشك يراود (ماتي) فكيف لممثلة تقوم بدور أياً كان هو وإن كانت ستقوم بلعب أكثر الأدوار إثارة بتقاضي مبلغاً كهذا في الساعة الواحدة لابد وأن هناك سر وراء مطلبه ذاك!!

لذا أردفت تسأله بريبة:

-أي دور ستلعبه بالتحديد؟!

(ماركوس) بتلقائية:

-حبيبة، رفيقة، خطيبة شيء من هذا القبيل.

جحظت عيناها بذهول وها قد بدأ شكها يتحول إلى يقين، فما عرضه السخي هذا إلا لعلة!! يغريها بالمال لتورط إحداهن، وبالحفل الله وحده يعلم ما الذي ستلقاه تلك المسكينة.

في هذه الأثناء اقتربت زميلتها بالسكن و رفيقتها بالدرب وعشرة عمرها وصديقتها الصدوقة (سارو) التي أخذت تلوح أمام وجهها ما إن رأتها حانقة نازقة بهذا الشكل.

تهمس لها عن قرب بعد أن دنت إليها تجلس على حافة المكتب أمام (ماتي) تفرك عينيها بنعاس.

ف (سارو) تعلم كم معاناة صديقتها (ماتي) مع البعض ممن تجيب عليهم هذا المسكينة على الهاتف الأرضي المخصص لاستقبال طلبات العمل، إذ خصصا كليهما هذا الركن من غرفة المعيشة الضيقة للشقة التي يستأجرنها جاعلتين من علبة السردين هذه مقر للعمل والإقامة.

تضعان بهذا الركن المكتب الذي اشترته (ماتي) من أحد المحال التي تبيع الأثاث المستعمل وكذلك خزانة رثة تستخدمها كلتاهما في الاحتفاظ بالأزياء الخاصة بالعروض التمثيلية التي تذهبان إليها ما أن تأتيهما مكالمة من أحد الزبائن غير عابئتين بالأجر مهما كان بخس.

ولكن يجب أن يكن المكان الذي ستذهبان إليه موثوق في أصحابه وهذا هو العنصر المهم اللتان تحرصان على توافره.

أما أي شيء دون هذا فستقبل به (ماتي) حتى لو كان العرض غير مغرٍ مادياً، فهما بحاجة ماسة للمال؛ لدفع إيجار الشقة وشراء بعض من الأدوات اللازمة لعملهم وكذلك صيانة ما يتلف واقتناء بعض الأزياء اللازمة لاستعراضاتهما أيضاً.

هذا بالإضافة إلى فواتير الغاز والكهرباء والمياه واحتياجاتهما الأساسية من مأكل ومشرب وكساء، فقد أرهقت الحياة هاتين الفتاتين بما يكفي، ولِم لا؟!
ما دامتا تفتقدان إلى العائلة والسند فها (ماتي) قد توفى عنها والديها في نوبة وباء اجتاحت قريتهما بالريف الاسترالي أثناء زيارتهما إلى موطنهما منذ ثمان سنوات......

كانت (ماتي) حينها في مدرسة داخلية، وقد قرر الوالدان الذهاب في عطلة قصيرة لهدف محدد وذلك قبل عودتها بإجازة نصف العام حتى يوفرا تكلفة سفرها معهما.

وهذا بعد أن اتصل عم (ماتي) بأبيها ليبلغه أنه وأخيراً قد حُلت مشكلة منزلهما الصغير هناك العائد إلى جد سارة المتوفي، وآل الآن إلى الورثة ومن ضمنهم والد (ماتي).

وها قد اتفق الورثة المنتفعين من المنزل على بيعه بعد طول خلاف بشأن السعر.

لم يكذب والديها خبر بل عرضت والدتها على أبيها أن يتصرف في قطعة المصاغ الوحيدة لديها، تلك التي كانت تجنبها الأم لظرف طارئ أو كعون لهما في حالة تعثرهما في سداد أقساط مدرسة (ماتي) التي كان الوالدبن يوالياها أهمية عما سواها من متطلباتهم كأسرة مهاجرة عن بلدها.

حريصان على أن تتم ابنتهما الوحيدة تعليمها وتبقى نزيلة مسكن الطلبة بهذه المدرسة، فكلاهما كانا منشغلين بورديات عمل متواصلة، ومع هذا فالعائد الذي يتقاضيانه جراء جهدهما المضني هذا لم يكن يغنيهما حد الكفاف.

فآثرا بقاءها بالمدرسة حتى لا تعايش تشتتهما من مكان إلى مكان بسبب ارتفاع إيجارات الوحدات السكنية، كما أنها هناك ستكون بمأمن عن قرص الجوع الكافر الذي كان ينهش أحشائهما في ليالي الضنك، فما دامت المصروفات تؤدى في ميعادها ستظل تبيت في مكان آدمي وتأكل وتشرب ما يقدموه كوجبات للطلبة المقيمين.

ولكن عند عودتها بإجازة نصف العام وجدت أغراضهما مودعة لدى صاحب البناية وزوجته اللذان أفرغا محتويات الشقة ليأجراها لآخر.

حينها أظلمت الدنيا بوجه تلك الفتاة التي كانت بربيعها الثالث عشر، وما كان منها إلا أنها دقت باب شقةٍ مجاورة كانت تسكنها زميلة والدتها بالعمل في وردية النظافة التي كانتا تشغراها بأحد المطاعم كعاملاتي جلي أواني وأطباق، هو ذاته المطعم الذي كان والدها يعمل به كمساعد طباخ، وأخبرتها صديقة والدتها أن أبويها ذهبا إلى مسقط رأسيهما للتوقيع على عقد بيع حصتهما من الميراث.

وقد انقطعت أخبارهما منذ ما يقارب أسبوعين وفي هذا الوقت تداولت الجرائد والصحف العالمية أخبار تلك الكارثة الصحية التي حلت بهذا القطر، وراح ضحاياه آلاف من سكان هذه المنطقة، وبحسبة بسيطة علمت هذه الفتاة أن من كانا سندها في الحياة ضاعا جراء هذا الوباء.

وبالطبع حالة صديقة والدتها لا تختلف عن حالة الراحلين، لذا أودعتها دار رعاية وهناك قابلت (سارو).

(سارو) تلك الفتاة التي استغنت عنها العائلة التي تبنتها وهي طفلة صغيرة، وذلك بعد أن كانت أمها بالتبني قد يأست من رحلة علاجها الطويلة؛ كي تنجب طفلاً.

ولكن لحظ (سارو) العسر، قد حملت تلك السيدة بعد ثلاث أعوام من شرائها لطفلة من أحد الربوع العشوائية النائية، بعد أن كانت تستغلها امرأة في ممارسة التسول بالشوارع والطرقات.

وبعد أن آوتها هذه العائلة علمت السيدة أن هذه المرأة التي كانت تستخدم (سارو) لم تكن أمها التي أنجبتها ولا هذا القميء زوجها هو والدها الحقيقي.

وإنما كان لديها أسرة غير الأسرة وإناس غير هؤلاء ولكن الفتاة الصغيرة لا تعلم أين هم! ولا في أي بلد يقيمون!
ترى ما قصة الرفيقتين ماتي وسارو؟
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي