البارت ١٣

المواصفات المطلوبة على رفيقتها وليس قبل هذا، فقد كانت شديدة الحرص في تحري جدية العرض كون (سارو) شخصية رقيقة وهشة.

ولكن إذا كانت هي المقصودة بالوصف ما شغلت بالاً للأمر، بل ستتألق في ثوب ملكي وتضع تبرجها وتكمل حلتها ولن تنسَ ربط جعبة خنجرها على فخذها أسفل رداءها كما تفعل دوماً، ولم تكن أول مرة تستخدمه فقد فعلتها مسبقاً، فقط طعنة واحدة تشل بها حركة من أمامها وأراد الغدر بها.

كصاحب إحدى المحال التي كانت تعمل بها قبل خروج (سارو) من الدار ولسوء حظه لم يكن يضع كاميرات بالمخزن الخاص بالألبسة التي يتاجر بها.

ولحسن حظ (ماتي) إنها عندما سألته عن عمل وافق على الفور طمعًا بها ولم تكن تحمل وقتها بطاقة هوية وهو كان متسهل لأبعد حد ولم يسأل حتى عن اسمها الحقيقي كاملاً، فقط (ماتي).

لم تمر ساعتان على وردية عملها وأشار لها هذا البغيض على باب في نهاية المحل الكبير، وذلك في فترة الراحة التي خرجت فيها بقية الفتيات لتناول الطعام، ولكن (ماتي) لم تغادر بصحبتهن بل فضلت البقاء بالمكان كونها لا تمتلك ما يكفي من المال لشراء وجبة جاهزة.

وقد طلب منها أن تقم بحصر مجموعة من الصناديق المرتصصة في أحد أركان المخزن ولم تكذب (ماتي) خبر بل توجهت على الفور حيث أشار.

كان المكان مظلماً فأخذت (ماتي) تتحسس موضع قابس الكهرباء على الجدار وما إن عثرت عليه وصدح الضوء أحست به خلفها واستمعت إلى صوت غلق باب المخزن.

وقبل أن تلتفت انقض عليها هذا العجوز المتصابي يحتضنها من الخلف فرمقته من أعلى كتفها بنظرة تهكمية ظنها هذا الأبله رضا، بينما كانت يدها تعبث بطرف تنورتها ترفعها لأعلى تمسك مقبض الخنجر بقبضة مستميتة وما إن أفرج عن حصار خصرها ليقابل فريسته وجهاً لوجه.

وعندما علت يده القذرة ليتحسس جسدها قُبِل بجسد آخر أكثر صلابة وحدة إذ رفعت (ماتي) قبضتها غارزة نصل سكينها بكف يده ولم تكتفي بل أدارته بشراسة رافعةً ساقها تحط بباطن قدمها أسفل قفصه الصدري ليتراجع عنها بألم وصدمة، وعندما رأى الدماء تتفجر كشلال من راحة يده، اختل توازنه وسقط أرضاً على ظهره ولكنه لم يفقد الوعي.

استدارت سريعاً تلتقط أحد الأكياس بها قطعة ثياب تخرجها على الفور تمسح بها على كل ما طالته يداها طامسة أي بصمة لها بالمكان سواء داخل المخزن أو بالخارج وغادرت المكان بلا رجعة، وتلك كانت أول مرة تتعرض فيها لموقف كهذا ولم تكن الأخيرة.
هذه هي (ماتي) لا تترك حقها، قوية ولكن هذا في الظاهر فقط، أما بداخلها فهي طفلة تحتاج إلى الرعاية والاهتمام.

أغلقت (ماتي) المكالمة مع محدثها السيد المتعجرف (ماركوس ألبرتينو)، وهي تصيح بانتصار:

-فعلتها، حصلت عليها.

ثم شردت للحظة تفكر بالمال الكثير الذي ستحظى به كليهما بعد هذه الحفلة وربما لن يتوقف العائد على المال فحسب، حسناً فلتأمل أن تجنيا ما هو أكثر قيمة من المال.

سألتها (سارو) بدهشة:

-ما الذي حصلت عليه؟!

(ماتي) بإجابة غير مترابطة بما ألقته عليها (سارو) من تساؤل:

-هذا المتسلط ذو اللسان الطويل لم يتردد للحظة عندما ورطته بكل هذا المبلغ، هذا يعني أنه لا يبالي بالمال، أتعلمين؟

-رغم غيظي الشديد منه، ولكن يعجبني كثيراً هذا النوع من الرجال.

ابتسمت إليها (سارو) تقول بتهكمٍ:

-آمل ألا يكون عجوزًا قذرًا!!

وكزتها (ماتي) بمرفقها في خفة، تقول:

-لا أعتقد هذا، على أية حال قد يكون شاباً وقذراً أيضاً، ولكن إذا صدق القول وكان هو بالفعل (ماركوس ألبرتينو)، فلقد رأيت صوراً له على مواقع التواصل الاجتماعي إنه شاب ويبدو في الثلاثين من عمره لا أكثر، وما تتداوله عنه الأخبار أنه أعزب وشريك بالنصف مع أخيه في ثروة عائلة (ألبرتينو).

أطرقت (ماتي) رأسها وكأنها تفكر بشيء ما، ومن ثم رفعت بصرها إلى (سارو) تقول بتمني:

-لو تحسنت الأمور بالحفل، ربما سأطلب منه أن يوفر لنا عملاً أو يساعدنا في عمل دعاية على نطاق أوسع، وبهذه الطريقة سيكون لنا زبائن كُثر داخل المقاطعة وخارجها.

أجابتها (سارو) بخشونة:

-افيقي (ماتي) لا شيء  يأتي من إناس كهؤلاء دون مقابل.
        ❈-❈-❈

  ❈-❈-❈

ضاعت (ماتي) في بحور أحلام اليقظة، وعندما تنتابها نوبة كتلك يصبح من المستحيل إخراجها منها متى تراودها، لم تشغل (ماتي) بالاً لما قالته صديقتها.

بل ظلت تتراقص بحركات خرقاء أعلى تلك الأريكة المتواجدة بغرفة المعيشة الصغيرة وهي تقص على (سارو) تخيلاتها عن الحفل، وأمنياتها للبقاء هناك أكبر وقت ممكن و أحلامها في الاختلاط بهذا النوع من الناس ومعايشة ما تتمتع به هذه الطبقة المخملية من زبدة المجتمع ولو لليلة واحدة.

في الحقيقة لم تستطع (سارو) لومها ولم تنكر بأنه حدث مثير للاهتمام بالنسبة إلى كليهما، فأمر كهذا لن يتكرر في حياة أشخاص مثلهما، وقليلاً منهم مَن سيحظون بفرصة كهذه، ذلك إلى جانب الحياة الاجتماعية الرتيبة التي تعيشانها كلها أمور جعلت من عرض كهذا حدث تاريخي له بهجة ولابد وأن تصحبه كل هذه الحفاوة.

بينما غامت أعين (سارو) بالدموع إثر حدث مشابه وحفلة مماثلة ولكنها لم تذهب حينها بفستان أميرة الأحلام بل ذهبت برداءها الرث القديم، وذلك عندما نسجت لنفسها عالم من الأحلام الوردية، وأعطت لنفسها الحق لتشعر بالحب، فتلك الرفاهية ليست متاحة لأمثالها.

الحديث بشأن هذه الحفلة أجج بداخلها جراح ماضٍ تود لو تمحه من ذاكرتها و للأبد.

هدرت (سارو) بحدة، تنهى رفيقتها عن كل تلك الجلبة التي تحدثها، تقول بصياح:

-(مااااتي)!! كفى!

تلفظت (سارو) بهذا الأمر وهي تحط بقدميها أرضاً عن سطح المكتب ومن ثم وقفت وقد سيطر عليها الاضطراب والذعر جراء فتح جرحها العميق بسبب هذه المكالمة.

أجفلت (ماتي) جراء حدة صوت رفيقتها، وأخذت تحدق بها في ارتياب إذ تحولت ملامحها كلياً إلى البغض والعدائية، فسألتها (ماتي) قائلة:

-ماذا هناك؟! ما الأمر (سارو)؟!

علت الحمرة وجه (سارو) وظهر عليها الضجر والحنق وهي تقول بنبرة صوت لائمة:

-ألا تتذكرين؟!

زوت (ماتي) ما بين حاجبيها تحاول التركيز لتستشف المغزى وراء حديث صديقتها ولكن لا جدوى فتساءلت:

-أنا لا أفهم! ماذا تقصدين؟!

أطرقت (سارو) رأسها بحزن، تخفي عينيها الرماديتين اللتين احتلت الحمرة بياضهما وهي تحاول كبت دموعها الحارة من أن تنسدل على وجنتيها بشكلٍ مخزٍ، وهي تتذكر ذلك الوغد الذي حطم نابضها إلى أشلاء لا يمكن جمعها، تتمتم قائلة:

-منذ أربع سنوات، غنيت في حفلة مماثلة لوغد شبيه لهؤلاء الذين لا ينظرون إلينا إلا بدونية وكأننا عبيد لديهم.

حتى بعد هذا التنويه الذي استمتعت اليه (ماتي) بتلك الكلمات التي اختنقت بها مخارج صوت صديقتها، إلا أنها لم تفهم شيئاً مما تقوله (سارو)، فأردفت تسألها في المطلق:

-حقاً؟!

زجرتها بنظرات تنضح حزناً واتهاماً وكأنها أرادت من صديقتها الوحيدة أن تخلد الذكرى بداخلها كما حُفِرت بقلبها وعقلها بنقوشٍ قاسية لا تمحى، ومن ثم أردفت تقول:

-أجل، وصارحتكِ يومها وأخبرتكِ كم كان هذا ال (چاك) سمج ووقح.

صمتت تتذكر هذا الشاب الثري الذي كان يزور أطفال الدار وذلك منذ أن كانت بعامها الحادي عشر وكان هو بأول عقده الثاني كما أخبرها حينها عندما سألته، كانت تنتظر زيارته الشهرية إلى الدار لتراه.

حينها كانت طفلة لا تعرف معنى الحب، نمى إحساسها به داخلها كنبتة صغيرة زرعتها تخفيها عن العيون وتسقيها من ماء دمعها عندما يغيب عن الزيارة.

كتمت (سارو) الذكرى المؤلمة بداخلها، وهي تزيح بحدة عن وجنتيها تلك العبرات التي خانتها وسالت ترسم خطوطها على وجهها بظهر راحتها، وهي تواجه رفيقتها (ماتي) بقرار حازم لا يقبل الجدال:

-أنا لن أذهب إلى هذا الحفل، فربما أجده هناك.

(ماتي) بخيبة، تقول باعتراض:

-كيف؟! لقد..

بترت (ماتي) عبارتها، وقد حضرتها الذكرى أخيراً، وهي تقول بامتعاض:

-أوه... تذكرت، أتقصدين ذلك الشاب الثري الذي تعلقت به حين كنا ندرس في المعهد ونحن في الدار؟!
أومأت (سارو) بتأكيد تقول:

-أجل.

(ماتي) بلوية ثغرا، معقبة:

-وما علاقة هذا بذاك؟!

-كما أن هذا الأمر مر عليه أعوام، على ما أذكر كنتِ حينها في السابعة عشر!!

أجابتها (سارو) بأسى، تقول باختناق:

-لا (ماتي) لقد أحببته منذ طفولتي صحيح أنني لم أكن أقول لكِ شيء مما كنت أشعر به تجاهه، لكن الله زرع محبته في قلبي منذ أن رأيته أول مرة.

(ماتي) بحزن على حال رفيقتها:

-أتذكر حالتكِ عندما عدتِ تلك الليلة بعدما ساعدتكِ على مغافلة الحارسة.

-وتسللنا ليلًا إلى غرفة البواب واختلسنا السلم الخشبي لتتمكني من الصعود إلى السور العالي وتسلقتي الشجرة الملاصقة له، لحضور عيد ميلاد هذا الوغد.

-لكن الغريب أنه بالرغم من تكتمكِ على حبه إلا أنكِ حتى بعد أن أفصحتِ لي عن قصتكِ معه لم تخبرني للآن مَن هو!!

-لقد كان هناك العديد من الذكور والإناث يزورون الدار منهم من يفي نزوراً تعهدوا بها في الكنيسة أمام ياسوع والعذراء، ومنهم من جاء ليتبنى طفلاً، وآخرون يأتون كل فترة لتقديم المساعدات.

- وبالرغم من أننا كنا مقربين من بعضنا إلا أنني كلما سألتك عما حدث في تلك الليلة المشئومة كنتِ تتهربين!!

- وحتى يومنا هذا لم تذكري لي عنه شيئاً ولا حتى اسمه.

ألقت (سارو) بحمل جسدها على الأريكة بإهمال ترفع ساقيها عن الأرض تحتضنهما إلى صدرها مطوقتان إياهما بكلا ذراعيها، تسند ذقنها إلى ركبتيها شاخصة، ترتكز بنظراتها إلى نقطة ما في اللاشيء، تقول بصوتٍ خالٍ من أي مشاعر وكأن ذكراه أماتت كل حاسة لديها:

-لم أخبركِ شيئاً لأنني لم أكن أعلم عنه شيئاً، جل ما كنت أعرفه عنه هو اسمه الحركي (چاك) فقط (چاك)!!

- حتى المكان الذي أقيم فيه حفل عيد ميلاده وموعده، لم يخبرني به.

- فقد استمعت إليه يخبر أحد أصدقائه ممن أتوا معه إلى الدار لزيارة (دايسون)، ذلك الطفل من ذو الاحتياجات الخاصة الذي توفت عائلته بأكملها في حريق شب بقصرهم.

-وأشيع وقتها أن عائلته كانت على خلاف مع أحد زعماء المافيا وهم من كانوا وراء هذا الحادث.

- لقد أحببت (چاك) هذا من كل قلبي، لكنه استخف بي وبقلبي.

قالت الأخيرة بألم وهي تطبق جفنيها بقوة، فجلست (ماتي) إلى جوارها تربت على ظهرها بحنوٍ وإشفاق، تقول بمواساة.........

هل ستستطيع (ماتي) إقناع رفيقتها؟!
وهل (سام) هذا من ضمن المدعويين على نفس الحفل؟!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي