الفصل الثاني

في الجامعة اكتشف الشاب الآتي من رحم قريته الصغيرة عالما جديدا، لم يصعب عليه كثيرا التأقلم معه، فقد كان يحمل في داخله الشغف ورياح التغيير، ليس تغيير العادات والمبادئ ولا حتى المثل التي تربى عليها، بل الانطلاق إلى العالم الواسع من العلم والمعرفة فقد كان يتوق بالفعل إلى دراسة الحقوق، والانطلاق من عقال المعارف الأولية إلى بحور واسعة من دائرة المعارف التي ستيسّر له مهمة أن يكون محاميا ناجحا، وربما قاضيا، وهو ينطلق من قاعدة تلك الصورة التي علقت في ذهنه مذ كان في التاسعة من عمره للرجل الطاعن في السن، الذي ربطته به صداقة قطعة النقد من فئة ال25 قرشا، ومشهد تلك الغرفة البسيطة ومحتوياتها المتواضعة إلى حد لا يوصف.
مرّ الأسبوع الأول على وحيد سريعا، حتى لكأنه لم يشعر بعامل الوقت، كان منهمكا في التعرف على فصله، على الجامعة بشكل عام، على الطلبة الذين يشاركونه عامه الدراسي الأول في الفصل ذاته الذي اختار فيه مقعدا متقدما، كان يريد ألاّ يفوت كلمة أو ملاحظة أو فكرة ينطق بها الأستاذ، حيث كان جاهزا لتدوين الملاحظات التي ستسعفه من دون شك في الدراسة، وبعبارة أدق، كان نفسه الطالب في المرحلة الثانوية وما سبقها من مراحل الذي يتوق في أعماقه إلى التفوق.
في الإجازة الأولى بعد أسبوع الدراسة الأول شعر وحيد بانه انتقل من عالم إلى آخر، من ضفة إلى أخرى، أحس بجاذبية الدراسة الجامعية وشحن النفس التواقة إلى التغيير، والنبوغ في الطريق الجديد.
تحلّقت العائلة حوله وكأنه عائد من سفر طويل وليس من مجرد غياب لم يطاول الأيام السبعة.
ها يا ولدي كيف الحال مع التجربة الجديدة، لقد اشتقنا إليك كثيرا، اسأل عيني والدتك اللتين جافاهما النوم، بل اسأل قلبي الذي كان يتلوى بين أضلعي وأنا أستيقظ لأداء صلاة الفجر وحيدا للمرة الأولى من دونك، حتى ان أبا فؤاد صاحب المطعم الذي يقدم الأرز بالحليب والمهلبية فجرا كان يسألني عنك باستمرار.
إنها بداية رحلة جديدة يا والدي لم أكتشف بعد من طرقاتها الكثير، لا أزال في الخطوة الأولى، لكنني سعيد بالفعل، وإن كنت حزينا على فراقكم.
وهل يا ولدي هناك طالبات يدرسن معك في القاعة نفسها، يعني بالمختصر هل هناك اختلاط بين الشباب والفتيات في الدراسة نفسها.
نعم يا والدي هو كذلك، ولا أخفيك أن هناك الكثير من الطالبات معي في الفصل الدراسي نفسه.
ها، لماذا لا يفصلون الطلاب عن الطالبات يا ولدي، بإمكانهم ذلك.
ليس الحال على ما تعتقد يا أبي، نحن جميعنا زملاء دراسة وليس بالإمكان فصل الطلاب عن الطالبات، إن ذلك يتطلب فصولا إضافية ونفقات كثيرة من دون مبرر.
كان بإمكانهم ذلك (الكلام للوالد متبرما) وأدعوك يا ولدي أن تهتم بدروسك فقط، أنا أعرفك ولست خائفا عليك.
لا تخش عليّ يا أبي، أنا أفهم مقصدك وأتفهم ما ترمي إليه، لكنني أطمئنك أنني ذاهب إلى الجامعة للدراسة فقط ولن يشغلني عن ذلك أي أمر آخر.
ربما كان الوالد المجبول بعادات وتقاليد محقا، فالشاب المتيّم بدراسة الحقوق، الآتي بدوره من رحم قرية بسيطة محافظة، فتى طيب كريم الأخلاق، وقبل ذلك على درجة كبيرة من الوسامة قد تلفت نظر الكثيرات من الطالبات اللواتي قد يسعين إلى التقرب منه، وربما يسقط الفتى في أسر إحداهن، فينشغل عن دروسه، وربما يقع في حبائل الهوى فيسعى للزواج بمن يحب، ويخالف القاعدة التي تقول بأن الأهل هو من يختارون عروس الابن، يضاف إلى ذلك أن العروس جاهزة وقد وقع اختيار الأهل عليها منذ زمن، وهي ابنة الجيران وصديق الأب منذ الطفولة، وهي التي ستكون عروس الشاب الحقوقي الغائب كليا عن اختيار الأهل، ولا أحد سواها، هي أو لا أحد.
ومضى العام الدراسي الأول على ما يشتهي وحيد، كان متفوقا ولفت إليه نظر أساتذته، ونسج الكثير من الصداقات مع الطلاب وحتى الطالبات، لم يجد غضاضة في أن تكون (تاء التأنيث) من ضمن الأصدقاء المقربين، على أنه كتم ذلك عن الأهل وعن مسامع الوالد على وجه التحديد، الذي قد لا يتورع عن منع ابنه من استكمال دراسته وفق القاعدة التي نشأ عليها.
كانت إجازة الصيف استراحة للطالب وحيد ليعود مجددا إلى حضن القرية، لم ينقطع منذ عودته عن النهوض مع أذان الفجر لصحبة والده إلى المسجد لأداء الصلاة، كما لم ينقطع عن زيارة دكان أبي فؤاد لتناول الأرز بالحليب والمهلبية على عادة أيام زمان، كان يفعل ذلك وهو مملوء بالسعادة، وكان الوالد سعيدا بأن السنة الدراسية الأولى لم تغيّر شيئا في طباع ولده، ما زال على ما كان عليه ذلك الفتى الريفي، ولا داعي للقلق.
وتوالت الأعوام، وكطرفة عين بات وحيد على أعتاب التخرج، كان الأب الأكثر سعادة بين جميع أفراد العائلة لأسباب عدة، أولها أن وحيد نجح في التجربة، فهو لم يتعلق بأي فتاة شاطرته فصل الدراسة، وبقي قلبه نقيا من أي حب، الأمر الذي سيساعد الوالد على طرق باب المرحلة الثانية، التقدم من جاره الصديق لخطبة ابنته إلى ابنه وحيد.
الأمر الآخر أنه بات في العائلة شاب حقوقي، يفتخر به الأهل وأبناء القرية.
وكان وحيد سعيدا بالفعل، فقد تخرج بمرتبة امتياز، وكانت عيناه على المستقبل الذي قرر أن يدخله من بابه الواسع، فالحصول على الليسانس في الحقوق هو الخطوة الأولى، ستليه درجة الماجستير ومن ثم الدكتوراه، هو لا يزال صغيرا في السن، لم يتعد الثانية والعشرين، وعليه أن يستغل هذه الندية في تحقيق ما يريد قبل أن يطلب منه الوالد الزواج، ويبثه شوقه إلى الأحفاد.
لكن كان وحيد في واد، والوالد في واد آخر، فلم يدر في خلد وحيد أن يفاتحه الوالد بشأن الزواج سريعا وبعد أيام قليلة على تخرجه في كلية الحقوق.
في ليلة صيف، شعر وحيد أن الوالد والوالدة يضمران امرا، وقد بدا عليهما التردد بعض الشيء في الأيام السابقة. ظهر عليهما أنهما يريدان مفاتحته في موضوع ما لكنهما كانا يترددان أحيانا ويتراجعان.
غالب ظنونه، ولم يشأ أن يبحر أكثر في التكهنات والهواجس، أراد أن يشغل نفسه في شؤونه الدراسية، لذا كان ينوي أن يفاتح والده في أمر استكمال الدراسة ونيته خوض الاختبارات للانضمام إلى معهد الدراسات القضائية، كانت نيته أولا أن يصبح قاضيا ويمارس مهنة المحاماة مع استكمال الدراسات العليا.
كانت ليلة الصيف تلك فصلا حاسما في تقرير المصير، أو بمعنى أدق على درب تقرير المصير.
ما أحلى هذه الليلة يا وحيد، القمر بدر، وأنت بدر يا ولدي، وعروسك ستكون بدرا إلى جانبك.
هكذا مهّد الوالد للحديث والعائلة تتحلق في جلسة وسط حديقة البيت الكبير وتحديدا تحت عريشة العنب.
فوجئ وحيد بحديث الوالد المًلغم برسالة ما، استرق النظر إلى والدته وكأنه كان يستعلم عن شيء ما قبل أن يجيب على رسالة والده، غير أنه لم يقرأ في عينيها سوى مزيد من الغموض.
القمر بدر، هذه حقيقة يا أبي، أما أنا بدر فتلك بلاغة في التعبير ناجمة عن حب والد لابنه، لكن البدر المجهول هو العروس. عن أي عروس تتحدث يا أبي وليس في حياتي أي فتاة، فمن أين ستأتي العروس؟
المطلوب يا ولدي ألّا تكون في حياتك أي فتاة حتى يسهل أمر العروس التي اخترناها لك أنا وأمك.
أي عروس يا والدي، أن لست في وارد الزواج الآن، أريد استكمال دراساتي العليا ولا شيء آخر في حياتي، وبعد ذلك سيكون لكل حادث حديث.
ومن طلب منك أن تتزوج الآن، فقط نريد أن نخطب لك، وعندما تنتهي من دراستك، وأرجو ألّا تكون مدتها طويلة ستتزوج، وخلال هذه الفترة سنكون قد أعددنا لك بيت الزوجية، طبعا ستسكن معنا هنا، البيت كبير وأنت الذي سيرثه لأنه بالطبع لن يكون من نصيب إحدى أخواتك، كما أنه لا يمكننا الاستغناء عنك وعن رؤيتك بيننا يوميا، وحتى نتمكن من الاهتمام بالأحفاد.
لقد زوجتموني يا والدي وأصبح لديكم أحفاد وأنا آخر من يعلم.
اسمع مني يا ولدي، أنا أتحدث هنا حديث القلب من أب لابنه، أنت فعلا وعلى عادة أهل قريتنا وقرى الريف المجاورة لست صغيرا على الزواج، فمن هم في مثل سنك تزوجوا وأصبح لديهم أبناء وأهدوا والديهم أحفادا.
أنا أعذرك يا بني لأن وضعك مختلف، أنت لا تعمل في الحقول والمزارع كما يفعل غالبية الشباب في مثل سنك، ولا أقول جميعهم فهناك من الشباب من أكمل تعليمه وهم قلة وبعضهم تزوج بعد التخرج.
ثم يا ولدي هل تستكثر عليّ وعلى والدتك أن يكون لدينا أحفاد ونحن ما زلنا قويين وفي كامل العافية نستطيع الاهتمام بالأطفال.
يا ولدي لن أخفيك أنني في غاية الشوق إلى ذلك اليوم الذي أسمع فيه صرخة ابنك، أو ابنتك لا فرق وهو يطل على الدنيا. هذا اليوم الذي أنتظره بفارغ الصبر كما تنتظره والدتك حتى لو لم تبح لك بذلك، فسرّها سري، وأمنيتها أمنيتي، لا تصدمني يا ولدي وترفض طلبي.
أنا لا أرفض طلبك يا والدي، طبعا يوما ما سأطلب منك أن ترافقني لخطبة من أحببت، لكن الوقت ما زال مبكرا على ذلك، فقط أمهلني حتى أكمل دراستي ولا أنشغل بأمور الزواج والبيت والزوجة والأبناء، أنا ما زلت في نظري صغيرا على ذلك.
استوقفت الوالد عبارة "خطبة من أحببت" فتجهم وجهه، وربما أظلمت الدنيا في عينيه، لكنه حاول أن يحافظ على هدوء أعصابه وأن يبقى متماسكا، حاول أن يبتلع الطعم ويتجرع الكلام، وحمد الله أنه تكتم حتى اللحظة عن إعلان الخطيبة المفترضة وإلا لكانت حدثت مشكلة كبيرة، أن يرفض الابن خطبة ابنة أعز صديق للوالد، عندها ماذا كان أبو وحيد سيقول لرفيق العمر ورفيق الجيرة.
شعرت الوالدة بحراجة الأمر، فأرادت أن تبرّد الأجواء، وربتت على كتف أبي وحيد.
كل شيء سيكون وفق ما تريد يا عمود العائلة، وحيد بالطبع لن يرفض لك طلبا لكن لا بأس أن نمهله قليلا، ربما نحن فاجأناه بهذا الطلب الذي لم يكن ليخطر على باله، كما أن أيام الدراسة ستمضي بسرعة كما مضت السنون الأربع، وحينها سيكون وحيد جاهزا للزواج، أما في شأن الخطبة فقد نتحدث حولها في جلسة مقبلة، ليالي الصيف طويلة يا أبا وحيد.
وبالفعل كان تدخل الأم في وقته المناسب، فيما كان وحيد الغائب الوحيد عن كل السيناريوات المحاكة بعادات الأهل وحبهم لولدهم وليس أي شيء آخر. وحده أبو وحيد بدأت الظنون تأخذه إلى منعرجات عدة، وهو يسأل نفسه، هل وقع وحيد في الغرام دون أن يبلغنا، وأنى له أن يبلغنا وهو يعرف أننا لن نوافق إلا على الفتاة التي اخترناها نحن له، وتارة أخرى كان يحاول أن يوقف زحف هذه الصور السود، محاولا أن يقنع نفسه بأنه يكون قد ظلم ابنه وحبيب عمره بهذه الظنون، ربما وحيد بالفعل يريد أن يكمل دراسته، لا بأس ما زال فتى في مقتبل العمر، والحمد لله أنني لم أبلغ والد الفتاة بنيتي فتح الموضوع مع وحيد، وساعتها ماذا يمكنني أن أقول له لو استفسر عن الجواب، وهل كانت حجة وحيد ستقنعه.
نظر الى وحيد: حسنا يا ولدي، سنتحدث في الموضوع في جلسة مقبلة على ما قالت أم وحيد، ما زالت ليالي الصيف طويلة.
أما وحيد فقد بدأت تساوره الظنون، وهو الخريج الحقوقي الذي حفظ الكثير من مواد القانون عن ظهر قلب، واختبر بعض مجاهل الدنيا من خلال دراسته الجامعية واختلاطه بالشباب من أقرانه، وبقي وفيا للمبادئ التي تربى عليها، فلم يلتفت لفتاة ما باغتته بنظرة إعجاب أو بعبارة غزل، فقد بات متمرسا بمثل هذه الأمور ولم يعد الفتى الريفي البسيط.
أدرك أن من حق الفتاة أن تجاهر برأيها في حدود المنطق، ولا بأس من أن تجهر بحبها، فكل ما يعنيه هو نفسه، وحيد الوفي للمثل وتعليمات والده، خصوصا إن كانت العلاقة بين شاب وفتاة لن تقود إلى الزواج، إلى القفص الذي يسمونه مجازا ذهبيا، وهو لم يكن بالفعل في وارد الزواج، أمامه طموحه ومستقبله، ومن أجل ذلك أقفل القلب أمام أي نظرة إعجاب، أو رسالة حب من فتاة، أي فتاة، ورمى المفتاح في عهدة الزمن، الذي هو وحده سيشهره يوما، عندما يحين هذا اليوم، وينبض القلب بالحب الحقيقي، وساعتها سيكون مستعدا لمفاتحة الوالد الحبيب بالأمر، وسيكون قادرا على إقناعه بمهارة القاضي والمحامي والدكتور في القانون.
كان وحيد الهائم في دنيا المستقبل، وهو يحاول الفكاك من كابوس الليلة المفاجئة، يراهن في كل آماله على الحب، الحب الذي لا يعرف حدودا، حب الأب لابنه، قلب الأب الذي لن يطاوعه على كسر قلب ابنه، الأب الذي يقولون فيه أنه يعطي كل ما يملك من أجل نظرة رضا من ثمرة الفؤاد، فما بالك بأبي وحيد، الحنون والعاطفي والمحب، وإن بدت على ملامحه القسوة المصطنعة أحيانا.
كم خطر له أن يسأل الوالد إن كان قد تزوج والدته عن حب، قصة حب نمت وكبرت عند نبع العين أو في طواحين القمح أو على بيادر الحصاد، فكانت من نصيبه عندما اقترن الحب باختيار الأهل، قد تكون مصادفة لكنها جميلة.
لكن أنى لوحيد أن يطرح مثل هذا السؤال على الوالد، وحتى لو كان ابنه.
ربما فكر أن يسأل السؤال ذاته لأم وحيد، لكن هل كانت ستتجاوب مع السؤال لتجيب، ألن يردعها حياؤها وخجلها، هل يمكن أن تجيب مقدمة عطف الأم على الغضب من السؤال، ربما لن تتحدث، لكن بالطبع سيترك السؤال بصمته على وجهها، جبينها، عينيها، لا شك أن لواعج الحب الماضي والمتجدد ستظهر من دون استئذان.
هو يعلم تمام العلم أن بين الوالد والوالدة قصة حب فهما لا يزالان حتى الآن يحبان بعضهما البعض ويعلنان عن هذا الحب بشكل او بآخر، بكلمة، عبارة، تصرف، ابتسامة، همسة عين، ربما يكون حبهما ولد قبل الزواج، أو ربما بعده لكنهما يحبان بعضهما بالفعل، وعلى ذلك قرر بينه وبين نفسه أن يطرح السؤال على "ست الحبايب" عندما يحين الوقت لذلك، أما الآن فان كل الوقت للدراسة.
وطوى وحيد نهاية تلك الليلة على أمل ألّا يسأله الوالد السؤال نفسه في وقت قريب، ونوى أن يتمنى على الوالدة لو يتم تأجيل الأمر الآن وأن تتوسط له بأسلوبها عند الوالد، غير أنه كان على الرغم من مراهنته على حب الوالدين عاجزا عن أن يكتم توجسه من مفاجآت القادم من الأيام.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي