الفصل السادس

بكت نادين في تلك الليلة كما لم تبك من قبل، ليت أبي وأمي يعرفان ما حصل معي اليوم، ليت كل الناس يعلمون، أنا نادين، البنت البسيطة، العاملة في محل لبيع الملابس، الموسومة بتهمة فتاة ليل، الهاربة من نفسها، التي حكمت على نادين بالموت وهي حية، يتقدم لخطبتها قاض حتى بعد أن علم أنها فتاة ليل سابقة.
هل يعقل أن يوجد في هذا العالم من هو أنبل وأشجع من شاب اسمه وحيد، سمع قصة حياتي من دون انفعال مفرط، لم يستوضحني، لم يستوقفني عند نقطة أو فاصلة، تركني أروي على سجيتي سيرتي المليئة بالثقوب السوداء، ليمدّ اليد في نهاية المطاف معانقة يدي مع سؤال.. متى نحدد موعد القران.
وحيد الهارب من حزنه على الابتعاد عن الأهل بسبب قصة حب لم يُكتب لها أن تُنسج، المحروم حتى من رؤية عائلته، أمه وأخواته، المطرود حتى من قريته ولو من دون حكم قضائي، لأنه قال لوالده لا في موضوع يخصه وحده، رفض أن يُخضع القلب لمنطق الطلب، مجرد الطلب، أن تُساق حتى الفتاة التي اختارها الأهل إلى نصيب ربما لم تفكر به يوما، ربما كانت هي نفسها عالقة في شباك الهوى دون أن تستطيع الإفصاح، هل حررها وحيد من قيده وشرّع أمامها أبواب النجاة المؤدية إلى عريس حبيب؟
كان صعبا على نادين أن تعطي موافقتها مبدئيا على موافقة وحيد الزواج منها، كانت لا تزال تعاند نفسها، تأبى أن تأسره في دائرتها، أن تظلمه معها، أن تدفعه يوما للندم، ساعة لا ينفع ندم، فلماذا لا تطلقه من قيدها اليوم قبل الغد، علّه يستيقظ من نشوة الحب التي يتمسك بها، ويفكر بواقعية وعقلانية، أن من المستحيل أن تكون هي عروسه، زوجته وأم أبنائه، ثم لماذا هي وليست امرأة أخرى تناسبه، مثقفة، لا سوابق لها، صفحتها نقية بيضاء، وليست سوداء.
طلبت من وحيد الذي كان شديد التأثر من قصتها أن يتمهل، يتريّث، يعطي نفسه فرصة للتفكير، كانت خجلة من أن ترفضه بالمطلق، أن تجرح فؤاده وربما كرامته بكلمة لا، هناك دائما مخارج للهروب فلماذا لا يكون مخرجها سهلا ومن دون أذى.
لكن من يقدر على وحيد، ليس لأنه محام أو قاض، بل لأنه قبل كل شيء إنسان، فقد اختار حياته بملء إرادته ومن المستحيل أن يتراجع، هو قادر على الصبر، لا بأس بالصبر، لم يجد سببا للفرار من حبه الوحيد في حياته حتى لو كانت من يحب فتاة ليل سابقة، لم يفكر فقط بمنطق القانوني، بل بمنطق الانسان، الرحمة، الفرصة الثانية لمن يخطئ، ومن منا لا يخطئ.
ومرّت الأيام، وتقلّبت نادين على نار الاختيار، بين أن ترفض كما يقول منطقها، أو أن تقبل كما قرّر قلبها، وهو لم يدقّ من قبل لإنسان غير وحيد، ولكل من الخيارين ثمن، سيدفعه وحيد وهي، فأي الخيارين ستكون له الغلبة؟
كثيرا ما ناقشت الأمر مع الشقيقة سناء، التي كانت ميّالة لمنطق القبول، لقد اختبرتها الحياة وكانت تشعر ناحية شقيقتها الصغرى بعاطفة الأمومة، أن تنسلخ من هذه البيئة المحيطة بها التي تُشعرها في كل لحظة أنها منبوذة، أن تمحو الماضي الذي حبسها بين لياليه السود، وتنطلق مع الفجر، فللفجر سحره، الذي لا يشبه غيره، شمسه التي تضيء الدروب أمام العين والقلوب.
وانتصر الحب على ما عداه، ونقلت سناء إلى وحيد الرسالة التي انتظرها كثيرا، فقد وافق مرغما على طلب نادين أن يمنحها فرصة ويمنح نفسه أيضا فرصة، وأن يبتعدا عن بعضهما بعض الوقت، فلربما يبرد جرح القلب ويستمر ما بينهما صداقة، أخوة، وربما لا يستمر أي شيء، إذ ليس من حق نادين، كما كانت تعتقد أن يكون لها مكان في حياة وحيد، فقد كان العبور من الظلمة إلى النور طريقا مُرّا، صعبا.
وكان احتفالا بسيطا في عرس بسيط حضره أقرب المقربين، خصوصا وأن دائرة صداقات وحيد كانت ضيقة جدا، فهو ليس في قريته التي يعرف جميع أهلها، هنا في المدينة حيث يعمل نادرا ما كوّن صداقات، كما أنه أراد لحياته الخاصة أن تكون ملكه وحده، لا شأن للآخرين بها، كان يريد أن يجنّب نادين أي جرح حتى من كلمة عابرة على لسان، سؤال عابر من مستفسر.. كيف يتزوج قاض صحيفته بيضاء ناصعة من فتاة ليل بصحيفة سوداء كسواد لياليها؟
كم كان يتمنى لو شاركته العائلة الفرحة، لكنه كان في سرّه يضحك ويضحك، فقد قاطعه الوالد لمجرد رفضه طلبه الزواج من بنت الجيران، الصبية الريفية البسيطة النقية، فكيف لو علم بأن ابنه تزوج من فتاة ليل؟ هو يدرك في أعماقه أنه قطع كل الجسور بينه وبين عائلته، وحتما فإن زواجه من نادين سيكون بمثابة الضربة القاضية لأي تفكير حتى ولو بالتلميح لإمكانية عودة العلاقات إلى سابق عهدها.
أنا وحيد، بتّ في نظر أهلي اليوم ميتا لا وجود لي.
كان جريحا، يبكي كثيرا في سرّه، لم يشأ أن يضعف أمام عروسه، أراد أن يكون قويا بها كما شعرت بأنها قوية به، كانت بالنسبة له منارة انتظرها طويلا، وكثيرا ما سكب على كتفها زفراته، هي السفينة التي رفع شراعها لتبحر به إلى بر الأمان الذي افتقده عندما غادر أهله في المرة الأخيرة، وهل هناك موئل أمان أهم من الأسرة، أمان النفس والاستقرار.
وهكذا وجد وحيد الأمان عند نادين، معها لم يعد وحيدا، فاجأته بطاقتها الإيجابية، أدرك أن الحياة هي المدرسة، وفعلا كانت المدرسة التي تخرجت فيها نادين متفوقة، على الرغم من الجروح والندوب، لقد تعلمت الصبر والقدرة على الاحتمال، وفوق كل ذلك، تعلمت أن تعطي من دون حدود.
لم يترك وحيد وسيلة إلا ولجأ إليها للاطلاع على أوضاع عائلته في القرية، طبعا كان لديه بعض الأصدقاء الخلصاء، الذين كانوا يفكرون بمثل تفكيره، نسخة مكررة، يؤتمنون على الأسرار، ومن هؤلاء كان يتعرف على أحوال الأهل.
حتى الوالد المتمسك بالوعد انهار تحت وطأة غياب وحيد وانقطاعه مضطرا عن الحضور إلى القرية حتى لا يغضب والده، من قال إن قلب الأب يمكن أن يتوقف يوما عن العطاء وتحت أي حجة ومبرر؟
أما الوالدة فحدث ولا حرج، ينابيع دموعها لم تجف منذ غادر فلذة كبدها، ولم يكن الحال بأفضل مع الشقيقات الثلاث، حزن وبكاء ودموع.
لقد باتت سيرة وحيد بعد أن غادر حديث القرية، فكيف يمكن إخفاء خبر كهذا، خصوصا وأن وحيد لم يكن شخصا طارئا في حياة أهل القرية الذين افتقدوه، وهو المحبوب منهم جميعا، حتى الوالد لم يكن مقاوما لانتشار الخبر لأنه ربما قرأ في أعماق نفسه أنه كان شديد القسوة على فلذة الكبد، وأن الأمر برمته على أهميته ما كان يستحق أن يكون بهذا الثمن، فهل كان ذلك تراجعا عن الموقف؟ وحده من كان يدرك ذلك، يقرّ به ربما ولو من خلف نظارات سميكة تحجب حتى ضوء الشمس.
واللافت أن والد الفتاة سعاد رفيق عمر والد وحيد كان أول السائلين عن وحيد وسر غيابه غير المعهود، وربما كان هو أول أسباب كشف القصة، وكان موقفه في غاية النبل والكرم والمحبة والإنسانية.
أيعقل يا أبا وحيد أن تكون السبب في رحيل حبيب قلوبنا جميعا عن القرية، ولماذا، ما السبب، ما حجتك يا صديق العمر؟
أنت تعرف السبب، كلمة الأب يجب أن تُطاع.
وأي كلمة تلك التي عارضك فيها وحيد، وهو المشهود له بمحبة الوالدين واحترامهم. إنه وحيد يا أبا وحيد ألا تعرفه وأنت أبوه؟
أعرفه تمام المعرفة يا صديقي، لكن ما كان عليه أن يعارضني في الوفاء بوعدي وعهدي.
أي وعد وأي عهد؟ إياك أن تكون تقصد قصة زواجه من سعاد، ويل لي ولك إن كان هذا هو السبب.
لقد اتفقنا منذ سنوات طويلة على هذا الأمر، ألم نتعاهد على ذلك؟
لكن ليس على حساب وحيد، هو لا يستحق الحال الذي وضعته فيه يا أبا وحيد، وإن كان لا يريد أن يتزوج سعاد فإن ذلك ليس نهاية العالم، ربما لم ير في سعاد أنها زوجة المستقبل، ربما لأنهما عاشا قريبين من بعضهما وشعر ناحيتها بأنها أخت، أنسيت أن سعاد تمضي مع بناتك الثلاث أكثر مما تمضيه في بيتنا؟
أنت تقول مثل هذا الكلام يا صديقي؟
نعم أنا من يقول مثل هذا الكلام، يعجبني بالطبع وفاؤك لكلمتك والتزامك بها، لكن هذا الأمر مرّت عليه سنون طويلة، والحال تبدّل يا أبا وحيد، لا ضير في أن نواكب جيل أبنائنا وأن نتفهمهم، لقد أدميت قلبي بفعلتك، وحيد لا يستحق هذا العقاب على ذنب لم يقترفه، وإن كانت لي في قلبك محبة فإن طلبي منك هو أن ترسل لوحيد أن يأتي سريعا، أنا سأحلّه من وعدك وعهدك لي، أنسيت أنني أحب وحيد كابن لي سواء تزوج من سعاد أو لم يتزوج، ثم يسعدني أن يكون وحيد بمثابة أخ لسعاد يشد من أزرها ويقف معها في الشدائد، أكثر مما يسعدني لو كان لها زوجا.
دع الأمور تأخذ مجراها قليلا يا صديقي، لن أتسرّع في الطلب منه العودة، دع ذلك للزمن، للوقت، أخيرا سيعود.
لكن من جهتي أنا لن أترك الأمر للزمن يا أبا وحيد سأبقى ألحّ عليك في ذلك، أعرف أنك رجل عنيد متمسك بكبريائه، لكنني أعرف أيضا أنك صاحب قلب كبير، لا بأس ببعض الغضب لكن في حدود.
يوما دّق باب بيت وحيد في المدينة، كان الوقت ظهرا في يوم عطلة، فتح الباب، عقدت المفاجأة لسانه، ارتعش، صرخ، أمي، أمي، احتضنها واحتضنته، بكيا كثيرا قبل أن يعبرا إلى الداخل، أطلت نادين فوجئت بدورها مما ترى، رأت في الصورة صورة والدتها، صوتها، نبرتها، حنانها، دموعها، لم تشأ أن تقترب أكثر، أرادت للمفاجأة أن تبلغ مداها، استعذبت لحن البكاء على جرح مشترك، علّ ملح الدموع يطهّر الوجع، من منا لم يتوجع، لم يبك، أحسّت في قرارة نفسها بأن دائرة الفرج تتسع، لا شك أن وحيد سيعود إلى العائلة، ستزول هذه الغمامة العابرة من سماء المحبين، تمنت لو تكون هي أيضا داخل الصورة، المشهد، كم رغبت أن تعود أيام زمان، لتكون طفلة وسط عائلة مكونة من أب وأم وشقيقة، ساورها للحظة طعم تلك الصورة التي نسجتها في خيالها وهي تزور بيت العم للمرة الأولى لتشعر بأنها وسط عائلتها، انتفضت وكأن أحدا أيقظها من حلمها، أحسّت بشعور مغاير، ضغط على قلبها، لم تر نفسها في المشهد، لن تزور بيت وحيد، ربما ليس مكتوبا لها ذلك، شعرت بإعياء وغثيان ودوار، لم تتمالك نفسها، سقطت على الأرض، صرخ وحيد باسمها، انتبهت الأم أن هناك من يشارك وحيد وحدته، عرفت أنها زوجته، لم يقل لها من أعطاها عنوان وحيد من المخلصين أن ابنها تزوج، اعتبر أن هذا أمر عائلي، تجنّب أن يضع نفسه في دائرة السؤال، مَن العروس، من أي بلدة، ما اسمها، ماذا تعمل، كيف تعرّف عليها، والأكثر حساسية من كل ذلك كيف تزوج وحيد من دون إبلاغ الأهل، وفي ذلك ما قد يعطّل كل الوسائط لجمع الشمل مجددا، ويعود بالجميع إلى نقطة الصفر.
من المرأة يا ولدي؟
هي زوجتي يا أمي.
زوجتك، لم يقل لي أحد أنك تزوجت، ما شاء الله إنها في غاية الجمال، وفقكما الله يا ولدي دعني أساعدك في حملها الى الداخل، لم أكن أريد أن أرى هذا المنظر في أول تعارفنا.
بدأت نادين تفيق من غيبوبتها، ما طمأن وحيد بعض الشيء، هي بالنسبة إليه سرّ حياته، فتحت عينيها، حاولت أن تبتسم، رحبّت بوالدة وحيد، أهلا بك يا أمي في بيتك.
تقدمت أم وحيد من زوجة ابنها، مسّدت شعرها، مسحت بعض العرق عن جبينها، تمعنّت في وجهها، عينيها، خاطبتها، وكأنني أعرفك من قبل يا ابنتي، لست غريبة عني ولا بعيدة عن قلبي.
أسرت عبارة ابنتي نادين، كلمة لم تسمعها منذ زمن، لها رونقها الخاص بها.
أصرّ وحيد على اصطحاب نادين إلى الطبيب لمعرفة سر هذا السقوط المفاجئ على الرغم من تأكيدها أنها بخير وربما يكون الأمر ناجما عن هبوط بسيط في السكر، لكن كل محاولاتها وتبريراتها لم تنفع، خصوصا وقد رأى أن اليوم سيكون مناسبا أيضا ليصحب والدته إلى المطعم الذي يحبه في المدينة، هناك كلام كثير بينه وبين الوالدة ولا بأس أن يهيئ الأرضية المناسبة له، فهو لا يريد أن تعكر سعادته برؤية والدته هواجس قلقه على زوجته.
رحب الطبيب بالقاضي وحيد، فقد كانا متعارفين من قبل، واطلع من نادين على ظروف سقوطها المباغت.
هي المرة الأولى التي أشعر فيها بدوار وغثيان وعدم توازن يا دكتور، لا شك أن ذلك ناجم عن نوبة سكر، ولا يستدعي الهلع الذي شعر به وحيد، أليس كذلك يا دكتور؟
سنجري فحصا ونتأكد يا سيدة نادين، أنا أعلم مكانتك لدى وحيد ولا بد أن أطمئنه، هي بعض إجراءات بسيطة وسنعرف السبب فورا وسنصف روشتة العلاج إن كانت هناك حاجة إلى ذلك، تحلّ بالصبر قليلا يا وحيد.
سأصبر يا دكتور وأرجو ألا يطول أمد الفحوصات.
مرّ حوالي ربع الساعة، ربما أكثر من ذلك قليلا ووحيد ينتظر.
أطل الدكتور تعلو وجهه ابتسامة كبيرة مخاطبا وحيد.. كان عليك يا سيدي القاضي أن تأتي وفي يديك بعض الحلوى.
لماذا يا دكتور، ألا تقولون أنتم معشر الأطباء أن الحلوى تضر بالصحة وتتسبب ببعض الأمراض؟
لكنها يا سيدي القاضي حلوى من نوع خاص ومن أجل ظرف خاص جدا.
ماذا تقصد يا دكتور؟
عليك أن تفهم يا صديقي وحيد ماذا أقصد.
والتقت عيون وحيد ونادين وأم وحيد وكأنهم كشفوا السر.
لم يشأ الدكتور أن يفلت زمام الكلام من لسانه.. مبروك يا وحيد زوجتك حامل وقريبا ستكون أبا.
حامل؟
نعم وفي الشهر الثاني.. ألا يستحق الخبر طبقا من الحلوى؟
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي