الفصل العاشر

وكانت صرخة في إحدى ليالي شهر أبريل. لقد فاجأ المخاض نادين. أزهر الحلم وحانت لحظة رؤية الورود، البساط الأخضر، مروج من الجمال من كل لون.
ما بك يا حبيبتي تصرخين، هل..؟
نعم أشعر بأنني سألد، كنت أتمنى لو تأخر الموعد أياما، حتى تكون الوالدة أم وحيد حاضرة لحظة صرخة الحفيدين يشرقان على دنيانا، ليتها قدّمت موعد زيارتنا أسبوعا، أياما، أريدها أن تكون شاهدة على بصمة ولادتي، أن أفتح عينيها على وجه أم.
وبسرعة جهّز وحيد نفسه، حمل حقيبة الطفلين القادمين، اتكأت نادين على كتفه، في رحلة كانت تحسّ في أعماقها أنها قد تكون الأخيرة، كانت تتلفت إلى كل ما حولها، تعدّ درجات السلم، تحصيها، وكأنها نسيت ما بها من أوجاع.
هيّا اصمدي يا حبيبتي، كدنا أن نصل إلى السيارة، خطوات فقط، وبعدها ساعة أو ساعتان وسيخف حملك، ستصبحين أما.
رافقها وهي على السرير في الطريق إلى غرفة الولادة، كانت تمسك بيده وكأنها لا تريد إفلاتها، تضغط على أصابعه، عيناها معلقتان في عينيه، شفتاها ترتجفان وكأنها تريد أن تقول شيئا وتتردد، فيما كان هو يمسّد شعرها، يرمقها بكل حب الدنيا، يبتسم، يدلّلها بكلمات غزل، وفي النقطة الفاصلة عند مدخل الباب حيث لا يمكن له أن يدخل، نطقت.. أحبك، أرجو أن تبقى على حبي، لم أحب في الدنيا سواك، سامحني إن كنت يوما قد أخطأت في حقك، لا تنس أن تذكرني في كل صباح ومساء، قبّل ولديّ نيابة عني إن أنا لم أخرج من غرفة الولادة على قيد الحياة و..
تسلّلت يدها من يده، ابتسمت الممرضة في وجهها ووجهه، ربما سمعت تلك الكلمات، أبدت ردة فعل متعاطفة، نظرت إليه.. هي كذلك الولادة الأولى تأخذ الأم إلى بقعة خوف من المجهول.. ستخرج معافاة بعد ساعة أو ساعتين لا أكثر.. جرّت السرير وأقفلت الباب.
وعلى أحد المقاعد جلس وحيد ساهما، شارد الذهن، لماذا نطقت بهذه الكلمات وهي على أبواب الفرحة بولادة طفلينا، هل هي مريضة وأخفت الأمر عني، إن قلبي يحدثني، لا بدّ من أن أطرد هذه الهواجس عن ذهني، أنا اليوم سأكون أبا حقيقيا. والدي ووالدتي سيصبحان جدين، سأحقق حلمهما.
مرّت نصف ساعة، شعر بضيق، سأل نفسه لماذا لا أتصل بوالدتي كي تأتي، تردد بداية غير أنه قرر أخيرا أن يتصل، هي مجرد مكالمة، سيردّ على اتصاله عامل السنترال وسيطلب منه إبلاغ والدته بضرورة الحضور، وحتما سيكون عامل البدالة سعيدا باتصاله، فهو يحبه كثيرا وسيلبي طلبه بسرعة، وبالطبع فإن الوالدة ستدرك مغزى الرسالة، لا بد أن نادين على وشك الولادة.
مرّت الدقائق بطيئة، ووحيد يذرع أرجاء صالة الانتظار مترقبا بين لحظة وأخرى أن يُفتح باب غرفة الولادة، ليظهر الطبيب باسما تسبقه كلمة مبروك، الوالدة والمولودان بخير.
كان يفرك يديه، متوترا أحيانا، وأحيانا أخرى فرحا، كان بين صراعين، أيهما ستكون له الغلبة، إن الكلمات الأخيرة لنادين تقتله، تثير هواجسه، هي لم تكن خصوصا في الأيام الأخيرة بخير، كثيرا ما لمحها وهي تغالب دمعة، تقف على الشرفة وعيناها سارحتان، وذهنها شارد، وعندما يفاجئها بالسؤال كانت تردّ إنها بخير ولكنها دلالات التوتر لقرب الولادة، اختبار جديد في حياتها لا يشبه غيره.
مرّت ساعتان، لا بد أن في الأمر سرا، هل ولادتها متعسّرة؟ إن كانت كذلك فلماذا لم تخرج الممرضة أو الطبيب لطمأنته بدلا من تركه فريسة الظنون.
آه، ليت والدتي هنا الآن لكانت خففت عني وطأة التفكير.
إنها الساعة الثالثة، بدأ العرق يتصبب من جبينه على الرغم من أن الطقس يحمل نسمات شهر أبريل المنعشة.
ليتني أقدر أن أجول قليلا في حديقة المستشفى، لكن قلبي معلّق هنا، في هذه المساحة حيث يقبع حب عمري، ربما خرج الطبيب ليبارك لي فلا يجدني.
وأخيرا فُتح الباب، على وجه الطبيب الحزين، والممرضة التي كانت آخر من رآها من الطاقم الطبي.
أسرع وحيد نحوه.. أراد أن يسأله، قرأ الإجابة في عينيه دون أن يكون مضطرا للسؤال، وضع الطبيب يده على كتفه، ماذا يريد أن يقول لي؟
حاولنا كثيرا إنقاذها، لكننا لم نقدر، كانت ولادتها صعبة، تمكنّا من إنقاذ الطفلين، لكننا عجزنا عن ..
ماذا تقول يا دكتور، هل تقصد..
نعم، العوض بسلامتك، ماذا يمكنني أن أقول في هذا الموقف، رحلت وهي تقاوم من أجل أن تعيش، لكنها لم تقدر، إن قلبي معك، لقد فطرت قلبي، ما كان ينبغي لها أن تحمل، لقد كان حملها معجزة، من المؤكد أنها شعرت بكثير من الأوجاع خلال مرحلة الحمل، ربما كانت خائفة من مراجعة الأطباء، ليتها فعلت، لأن قرارهم كان أن عليها أن تجهض حملها حرصا على حياتها.
وانفجر وحيد في البكاء.. لقد رحلت حب عمري.. الآن أصبحت يتيما.
هل لي برؤيتها يا دكتور؟
ليس الآن يا أستاذ وحيد، ليست في الغرفة..
هل لي برؤية الطفلين يا دكتور؟
بالطبع.
وقف وحيد من وراء جدار زجاجي عازل، يرمق طفليه اليتيمين، كانا مستيقظين، يلوكان لسانيهما، يبحثان ربما عن قطرة حليب، عيونهما تتأرجح في أرجاء الغرفة، ربما كانا يبحثان عن أمهما التي فارقتهما للتو، سيشتاقان إليها كثيرا.
أتى الطبيب، كان قلبه مع وحيد، أحب أن يشاركه فرحته الصغيرة، لا يدري لماذا أمسك بيده، ضغط عليها.. الصبر طيب.
أرجوك يا دكتور أريد أن أراها..
فقط نظرة واحدة.. هل صرخت يا دكتور، هل تعذّبت، هل تألمت، هل قالت شيئا، من مسح حبات العرق عن جبينها في رحلتها الأخيرة، من مسّد شعرها، من غطى جسدها النحيل قبل وضعها في براد المستشفى؟
وبكى الطبيب على وضع وحيد.
وماذا سترى غير جسد بارد، لا أريد لك هذا الموقف، إن من حقك أن تراها ولكنني خائف عليك، وإن كنت تصرّ فلا بأس.
سحب العاملون في براد المستشفى الصندوق الذي تنام فيه نادين. صندوق من حديد وأعينهم على وحيد، هم مشفقون عليه من ردة الفعل.
وقف أمام الجثمان، لم يصدّق أن نهاية المطاف في هذا اليوم الذي حلم به كثيرا أن تكون شريكة عمره هنا، في ثلاجة.
سحب الغطاء عن وجهها، انحنى على جبينها يقبّله، مرّر يديه على كامل وجهها، عينيها، أنفها، شفتيها، شعرها، تعطّلت لغة الكلام، الحديث هنا للعينين والقلب.
بالكاد تمكن العاملون إقناعه بضرورة مغادرة المكان، لقد أبكاهم، فطر قلوبهم.
خرج إلى الصالة وحيدا يائسا.. ماذا يفعل الآن، وإذ بوجه أمه يشرق من باب المستشفى، تتبعها شقيقاته الثلاث.
رآهن يبحثن عنه، وجدنه، اقتربن، كان الموقف صادما.
لماذا تبكي يا جنى عمري؟
لم يجب، استمر في البكاء وهو يحتضن أمه، وشقيقاته الثلاث، اللواتي أدركن أن هناك أمرا جللا، فانخرطن في البكاء.
لقد رحلت نادين يا أمي، لم تشأ أن تكمل المشوار، قالت لي أنها ماتت مرة عندما مرض والدها ولم تجد نفقات العلاج، لكنها لم تقل لي أنها ستموت مرة ثانية من أجل أن تهديني طفلين، كانت تدرك أن مضيّها في حملها سيكلفها حياتها، الآن بتّ أعرف لماذا كانت ترفض توسلاتي لمراجعة الطبيب خلال أشهر الحمل، كان سيقول لها إما حياتها وإما حياة الطفلين، فضّلت أن تكون حياتها هي الثمن، كي تكمل رسالتها، لم تشأ أن تذهب دون أن تمنحني هدية تذكّرني بها طيلة سنوات العمر، سلّمتني الأمانة ورحلت.
بقي لي طلب وحيد، هل سيرفض والدي أن أدفن نادين في مقبرة القرية؟ أن تأتي شقيقتها لزيارتنا بين الحين والآخر ليعرف ابناي أن لهما خالة؟
كان موكب حزن مبكيا.
هناك في المقبرة كان أهل القرية جميعا من دون استثناء يقفون، ينتظرون الموكب الحزين.
لم يعرفوا نادين شخصيا، عرفوها من حكايتين والحكاية الثالثة على الطريق.
في الأولى علموا أنها فتاة ليل، وفي الثانية أنها ضحّت بنفسها من أجل أن يعيش والدها، أما الثالثة فكانت أنها أرادت أن تبقى ذكرى جميلة في أذهان أناس لم تعرفهم، لم ترهم، أن تكون أغنية من أغنيات أيامهم، مع إشراقة الصباح وغروب الشمس، أن تكون عطر وردة في وجدان من يعرف قيمة التضحية، لذا فضلت أن ترحل بعد أن تترك أثرا، وكان أثرا جميلا متمثلا في وجهي طفلين.
أما أبو وحيد الذي كان ينتظر عودة ابنه وطفليه، فقد انهمك في المساعدة في تجهيز قبر زوجة ابنه التي لم يرها ولم يعرفها إلا من خلال الكلام.
أراد أن يثبت للجميع أنه راض عن زواج ابنه من فتاة ليل، فتاة تعرف قيمة التضحية والعطاء، لا يهم موقف البشر طالما أن هناك ربا كريما غفورا رحيما بعباده.
كان يساعد بهمة الشباب، هذا القبر الذي سيطوي داخله حبيبة ابنه وأم ولديه، أراد أن يكون هذا اليوم الحزين شاهدا على أنه سامح، بل أحبّ، لا يهمّ إن كان الحب عن قرب أو عن بعد، الأهم أنه أحبّ، وليس أجمل من حب من لم تره.
احتضن ابنه المكلوم، لم يعرف كيف يقبّله ومن أين يبدأ، ووري الجثمان الثرى وسط موجات من البكاء والعويل، التفت ناحية وحيد.. ليتني رأيتها يا بنيّ، ليتني عرفتها عن قرب، ليتني استقبلتها كما كنت أخطط، أن أضمها إلى صدري، أعوّضها بعضا من عاطفة الأب، أن نتشارك فنجان قهوة في الصباح، أن أصحبها إلى الحقول والكروم، إلى نهر القرية ونبع العين، إلى كل مكان كنت أصحبك إليه في كل مراحل حياتك، أحكي لها عن طفولتك وأنا أحمل حفيديّ بين ذراعي، أستعجل أن يكبرا لأحكي لهما القصص.
انتظر وحيد حتى فرغ المكان، أراد أن تكون له خلوته مع رفيقة العمر التي رحلت مبكرة، جلس على قبرها يبكي، يحدّث نفسه ويحدّثها.
من هنا سأكتب روايتي، قصة عمري، هنا ستكون خلوتي عندما أشتاق إلى البكاء، وهل للبكاء أن يفارقني بعد اليوم، هنا ستكتب الأيام قصتنا أنا وأنت، ستحكي عن حبنا الذي لا يموت، هنا سأنتظر ساعة الرحيل، وهنا سأرقد يوما إلى جانبك مرتاح البال والضمير.
لقد أوصيتني يوما ألاّ أنساك وأن أتذكرك في الصباح والمساء، وأنّى لي أن أنسى وألاّ أتذكرك وأنت ربيع عمري كما الربيع.
ماذا ستُسمّي ولديك يا ولدي، سأل أبو وحيد ابنه.
كما أوصتني نادين يوما وكنا نتبادل أطراف الحديث على شرفة المنزل في ليلة صيف. أوصتني أن يحمل الولد اسمك، والبنت اسم أمي.
وبكى الوالدان، ألهذا الحد كانت إنسانة نبيلة؟
النبل يا أبي ويا أمي فطرة، لا يمكن فقط أن يتعلمها المرء في المدرسة، هي صفة تولد مع الإنسان، تلازمه حياته.
على الطريق إلى النهر في رحلة صيفية للعائلة، كان الجد يحمل حفيده فيما كانت الأم تحمل حفيدتها، كان وحيد يتأمل في الطريق الذي سلكه مئات المرات، حت بات يعرف كم فيه من حبات تراب.
ليتها كانت معي، لتتعرف على مرابع طفولتي وصباي، لأحملها أيضا إلى بيادر أيامي في مواسم الحصاد، إلى الكروم حيث يزهر الخير من أكمام أشجار التين والعنب والزيتون.
وتحت ظلال شجرة الصفصاف استرخى مستغرقا في جمال اللحظة، الأبوان يعلّمان حفيديهما على السباحة، فيما انهمكت الشقيقات في إعداد الطعام.
ومع نسمات الهواء كانت أوراق الصفصافة تعزف الألحان، تأخذ وحيد إلى دروب شتّى، أجملها كان ساعة اللقاء مع حبيبة العمر، استرجع في ذاكرته شريط الأحداث عندما صدمها، حملها إلى المستشفى، وهناك في ركن هادئ من مطعم كان يحبه، أسرّ إليها بغرامه، طلب منها الزواج.
كل تلك الصور كانت حاضرة. لحظة الرحيل من البيت والقرية. لحظة الزفاف. يوم أخبره الطبيب بأن نادين حامل. لحظة حملها إلى المستشفى لتلد بعد أن داهمها المخاض. لحظة الانتظار الطويل، والطبيب يسير ناحيته بوجه حزين وعبارة.. لم نستطع إنقاذها.. لقد قاومت وحاولت أن تصمد فما استطاعت. لحظة الموكب الحزين.
في الذكرى السنوية الأولى لوفاتها، في عريس أشهر الربيع، حمل معه طفليه إلى المقبرة ترافقه أمه.
جلس طويلا أمام القبر، بكى كثيرا وتحدث إليها كثيرا.
ها قد أتيت في ذكراك الأولى وسآتي في كل ذكرى وكل يوم.
لقد عدنا يا حبيبة عمري إلى القرية التي ما برحت تسألني عنك. كل الأماكن التي كنت أعدك بأن نزورها سويا تسألني عنك. كل المواسم تسألني عنك. صفصافة النهر عزفت لي لحنا حزينا حتى أبكتني، هي أيضا تسألني عنك. إبريق الشاي على موقد الفحم يسألني عنك، لقد كنت تحبين إعداد الشاي على الفحم.
ولداك يسألانني عنك. لم أقل لهما أنك رحلت فهما لا يعرفان معنى الرحيل. يوما ما سيعرفان أنك كنت أجمل وأحلى وأطيب وأنبل أم.
لماذا يا حبيبتي أصبحت مقلّة في زيارتي في أحلامي، ألا تعرفين أنني أنتظر الأحلام بفارغ الصبر كي أراك؟
لا تطيلي عني الغياب.
أريد أن أخبرك شيئا. لقد علّمتني مهنة الكتابة. أصبحت شاعرا. كاتبا. أما آخر أخباري فإنني أكتب اليوم روايتي الأولى.
تسألينني ما عنوانها. أنت تعرفين.
لم أجد أفضل من "رُدّ قلبي" سأرويها لك عندما تكتمل.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي