الفصل التاسع

مرّ أسبوع على أم وحيد في ضيافة ابنها وكأنه لحظات، لم تشعر بالوقت وسط هذه الأسرة الجميلة، حتى أنها تمنت لو أنها لا تفارق ثمرة فؤادها وزوجته، معلقة الأمل على يوم قريب يلتئم فيه شمل الأسرة في القرية، في بيت العائلة برضا وقبول من أبي وحيد.
كانت ترى في نادين صورة البنت المجروحة، المكسورة، الحزينة، قرأت في عينيها الكثير من الشجن، لاحظت دموعها التي لا تكاد تبارحها في خلوات كثيرة، رغبت في أن تخرجها من هذه الحالة التي لازمتها حين شاع الخبر في القرية بأن وحيد تزوج من فتاة ليل.
لماذا أنت حزينة يا ابنتي وما سر الدموع التي تحاولين إخفاءها عنا، لقد اتفقنا يا ابنتي أن لا دموع بعد اليوم، ليس هناك ما يستحقها، الدنيا بألف خير يا ابنتي، إن كان هناك أشرار فهناك في هذا العالم الكثير من الأخيار، نحن يا ابنتي لا نصنع قدرنا، نخطئ أحيانا، والسعيد من يدرك خطأه ويعمل على إصلاحه.
هيا يا ابنتي انزعي عنك رداء الوجع، هل نسيت أنك زوجة حبيبي، وستلدين لنا الأحفاد الذين سنحميهم برمش العين؟
لا أبكي من أجل نفسي يا أمي، أبكي على الموقف الذي وجد وحيد نفسه في أتون ناره وهو لا ذنب له سوى أنه أحب، مدّ اليد لإنسانة أراد أن تشاركه حياته، وها هي تكاد تُغرقه في لجة بحر عميق.
أنا أعرف يا أمي عادات القرى وأهلها، هل من السهل أن يتناسى الناس أن ابن قريتهم تزوج من فتاة ليل.
ويل لي إن كان ذلك قد يؤذي وحيد، وويل لي إن كان ذلك سيدمّر حياة من سألد، ليتني ما خُلقت، ما وُلدت، ما أحببت، ما تزوجت.
لا يا ابنتي، لا تغرقي نفسك في بحر من الأحزان، عليك الخروج من الشرنقة التي أراد الكارهون أن يضعوك في جوفها، أن يقيّدوك بخيوطها، أنت تتعذبين وهم يتفرجون.
مضى عليّ أسبوع وأنا في وسطكم، ومع كل دقيقة تمضي تقتربين أكثر من قلبي، أنا أم وحيد يا نادين، لم يكن تعاطفي معك وليد موقف عابر ولا شفقة ولا لمجرد إرضاء وحيد، كان قبولا من أعماقي، من قلبي، أنا لست خريجة جامعة، ولا يجب أن أكون كذلك حتى أفهم الحياة، الحياة هي المدرسة يا ابنتي، أتدركين ما معنى أن يتقبلك قلب أم زوجك وأنت ما زلت تعيّرين نفسك بما يقوله البعض من أنك ابنة ليل.
يا ابنتي صدق من قال إنه "لا يعرف أسرار قلوبنا إلا من امتلأت قلوبهم بالأسرار، وفي كل شتاء ربيع نابض ووراء كل ليل فجر باسم" فليكن ما مررت به شتاء نهايته ربيع، وليكن ليلك مختوما بفجر.
إن كلامك يريح قلبي يا أمي، لكن هل سيسامحني والد وحيد؟
ربما تناهى إلى مسامعك أنه رجل قاس، ظالم، لا أدري أي صورة كونتها عنه بعد أن أمر وحيد بالرحيل من القرية وعدم العودة.
نعم يا ابنتي لا أحد ينكر أن في هذا التصرف قسوة، بل منتهى القسوة، لكن في داخل والد وحيد يا ابنتي، الملتزم بالعادات والتقاليد إلى درجة القسوة كما فعل، طفل، نعم طفل، بنقائه وبراءته.
لا تضيقي الخناق على نفسك، ولندع الأمور تأخذ مجراها، وفي نهاية الشتاء سيحل الربيع، والربيع في قريتنا جميل، يكتسي بكل الألوان، ولا تنسي أن الربيع سيكون فصل ولادة الأحفاد، ولا أعتقد ان والد وحيد سيدع ربيعه من دون ربيع، ربما كان ذلك موعد لم الشمل يا ابنتي.
وودعت أم وحيد ابنها وزوجته عائدة إلى القرية تحمل معها أجمل الذكريات، وهي تعدّ الأيام لتعود مرّة أخرى، لا شك بأنها عائدة مرة واثنتين، وطالما أن أبا وحيد رضي أن تزور بيت ابنها مرة فهو لن يمانع بتكرار الزيارة، خصوصا لجهة الاهتمام بزوجة وحيد، فهي حامل ولا بد من رعايتها، وهي تدرك كم أن أبا وحيد في غاية الشوق ليضم حفيده القادم إلى صدره، فما بالك إن كانا حفيدين، ذكرا وأنثى.
عادت أم وحيد وقد اتضحت الصورة أمامها، سرّ وحيد لم تكتشفه، هو أن زوجة ابنها حامل بتوأم، هذا السر أراده وحيد وزوجته مفاجأة للأهل، ربما لتكون الفرحة فرحتين.
كان أبو وحيد متلهفا لسماع الأخبار، كان ينتظر عودة أم وحيد بفارغ الصبر.
قرأت أم وحيد في عيني الزوج ألف سؤال وسؤال.
حدثيني عنها يا أم وحيد.
وماذا سأقول يا أبا وحيد وقد تركت بعضا من قلبي هناك، معلّقا على أمل بلقاء جديد.
هل أعجبتك يا أم وحيد؟
إنها لم تعجبني فقط، بل خطفت مني قطعة من قلبي.
إلى هذا الحد؟
وأكثر يا أبا وحيد، ليتك كنت معي.
هل سامحتها يا أم وحيد؟
أسامحها على ماذا؟
ألم تكتشفي سرّ فتاة الليل؟
عن أي فتاة ليل تتحدث يا أبا وحيد؟ لم أرَ فيها إلا إنسانة نبيلة نقية بريئة من كل ما ألصق بها من تهم.
إذن ليست فتاة ليل؟
فتاة ليل افتدت والدها بحياتها، ماتت كي يحيا؟
لم أدرك ما ترمين إليه، هلاّ أوضحت؟
سمعت منها الحكاية كاملة يا أبا وحيد. حكاية فطرت قلبي، أبكتني، سرقت لليال النوم من عينيّ، لم أكن أعلم أن هناك من يضحون على هذا النحو.
لكن كيف افتدت والدها بحياتها وهي لا تزال حيّة.
وروت أم وحيد القصة كاملة، وبين فصل وفاصل كانت تغصّ بالدمع، رأت ردّة الفعل على وجه زوجها، قرأته في دموع انسكبت على الوجه، بلّلت اللحية، كانت صرخة مكتومة، فيما خنقت العبرات البنات الثلاث، بكين بوجع.
هل هناك إنسانة على هذا النحو يا أم وحيد، هل هناك فتاة في مثل سنها تفعل ما فعلت؟
أكاد لا أصدّق ما سمعت أذناي، وكأنها أسطورة من الأساطير، أنا لا أبرئها من فعلتها، يجرحني ما ارتكبته، ولهذا قد أحتاج إلى مدة أطول لأتأقلم، ربما لو لم تكن تخصّني، ليست زوجة ابني لتعاطفت معها أكثر لأنها لم تجرحني، لكنها زوجة ابني، وأنا من دفع بعض الثمن.
وهل تراجعت عن موقفك يا أبا وحيد؟
أنا لم أقصد ذلك على وجه التحديد، إنني أشعر بالمرارة والحزن على والدها الراحل، الذي لو كان يعلم ما ستؤول إليه قضية مرضه لفضل الموت على أن تفعل ابنته ما فعلته من أجله.
أنا هنا أتحدث من موقعي كأب، هل كنت سأقبل لو كنت في موقع والد زوجة ابني أن تفعل ابنتي ما فعلته نادين؟ بالطبع لا، مسكين هذا الرجل، أنا أشفق عليه حتى بعد موته.
هذا هو رأيي كأب، أما إن كنت أسامح فتلك قضية أخرى، من الصعب بل من المستحيل أن يرى أب الكلاب تنهش لحم ابنته ولا يتحرك، حتى لو كان مشلولا فربما واتته القوة ليمشي، ليمنع ما يحدث.
هذه وجهة نظر يا أم وحيد، لكنني في الوقت نفسه لا أحكم على نادين بالإعدام.
دائما هناك جانب إنساني في كل قضية، في كل حكاية، وهنا أجد العذر لولدي الذي انتهج مبدأ الإنسانية في قصته مع نادين، هو حبيب وليس أبا، ربما تقبّل الأمر من هذه الزاوية وأنا لا ألومه، بل ربما أسامحه.
وماذا عن نادين يا أبا وحيد ألا تسامحها من الناحية الإنسانية؟

بل أصنع لها تمثالا يا أم وحيد، إن ما أقدمت عليه قد لا يتكرر، فضلت أن تموت هي ليعيش هو، هذه وجهة نظرها، وقد لا ألومها فهي مجرد صبية طرية العود لم تختبر الدنيا حتى تفاضل وتقارن.
كثير من الأمور تغيّرت، عادت البسمة إلى البيت وإن كانت خجولة في البداية، تماثل أبو وحيد للشفاء تماما، شقيقات وحيد كنّ في شوق كبير لزيارة شقيقهن وزوجته، حتى أنهن تلقين وعدا من الوالد بالسماح لهن بزيارة وحيد في القادم من الأيام، هو يريد للأمور أن تعود إلى مجراها الطبيعي لكن بتأن ورويّة، فيما كان القلب متعلقا هناك، بالبيت الذي يقطنه وحيد مع زوجته، آه ما أحلى الشوق إلى الأحباب، إلى الأحفاد، كان قد أضمر في نفسه أمرا، أن يقوم هو بمفاجأة وحيد بزيارة، كان يتخيّل كيف سيكون اللقاء، ويسأل نفسه ما إن كان سيقدر على كبح الدموع، مقاومتها، يسأل نفسه هل حري بالرجال أن يبكوا، ويجد الإجابة على وميض برق وقصف رعد، هو يحب فصل الشتاء، صوت المطر، عزف المزراب، وحيد كان يحب ذلك أيضا، أين هو الآن من شتاء قريتنا، من تناول بضع من حبات الكستناء وقد تقلّبت عل نار موقد الفحم.
نعم قرّر أن يزور وحيد في فصل الربيع، لا بأس ببضعة أشهر تكون الأمور قد أخذت مجراها، يكون قد برؤ تماما من جرح الموقف، لا يريد للقاء الابن وزوجته وربما الأحفاد أيضا أن يكون مدموغا بجرح من الماضي، وها هو وحيد قد تأقلم مع جرحه، دعه يتعلّم أكثر، يكابد أكثر، يزداد خبرة أكثر، قريبا سيكون أبا، يجب أن يدوّن في سجله الكثير من العبر التي ربما يرويها يوما لأبنائه.
أما على ضفة وحيد فقد كان الأمر مليئا بالأحاسيس المتناقضة أحيانا.
رأى وحيد أن الهوة بدأت تضيق بينه وبين والده على وجه التحديد، لا بأس بعدة أشهر عجاف، ستمضي بسرعة، وها هو يستقبل والدته في بيته ما يعني أن جرح الأب بدأ يندمل، لا بأس إن منحه بعض الوقت إن كانت النهاية ستحمله يوما إلى عائلته وقريته مع من أحب ومع طفلين، بل طفل وطفلة، سيكونان قرة عيون جدهما وجدتهما.
كان يرسم في مخيلته الكثير من مشاهد اللقاء المفترض، وهو يرى والده يستقبله بالأحضان وقد تبلل وجهه بالدمع، وشقيقاته يهرعن إلى حمل ابني الشقيق ليكونا وردتين عطرتين في حديقة العمر. هناك سيتربيان، سينموان، سيجولان في الكروم والبساتين وحقول القمح على كتفي جدهما، كما جال وهو صغير، سيتعلمان فنون الزراعة، وربما دخلا مدرسة القرية التي تعلم فيها والدهما، لا بأس أن تتكرر التجربة، سيرى فيهما فصلا منسوخا من فصله.
بين الجميع كانت نادين مختلفة، كانت سعيدة بقرب انجلاء الغمامة السوداء، كثيرة الاشتياق إلى ذلك اليوم الذي سيحملها إلى حاضرة وحيد، بيت الأهل والقرية، هي لم تعش في قرية من قبل، فتحت عينيها على الدنيا في المدينة حيث كان يعمل والدها موظفا بسيطا في إحدى المدارس، لم تشاهد كروم التين والعنب، لم تذهب إلى النهر الذي يترنم به وحيد كثيرا، لم تشاهد صفصافة، بل ما كانت تعلم ما هي الصفصافة، كل ما تعرفه أنه كان لوالدها قطعة أرض في قرية ما اضطر لبيعها بعد أن ضاقت به الدنيا، وذهب إلى المدينة، ولم يزر يوما قريته لأنه كان يخجل أن يقول عنه الناس أنه باع أرضه.
كان بطنها يكبر أسبوعا بعد أسبوع وبقدر ما كانت سعيدة بقرب لحظة الولادة كان في داخلها خوف، قلق، لم تعرف ما هو، كثيرا ما حاولت ألاّ تسلّم قيادها للظنون والوساوس، لكنها كانت تحسّ بأنها ربما لن تعود إلى القرية مع وحيد وطفليها، كيف ولماذا، لا تعرف.
لم تبح بهواجسها لوحيد، فيكفيه تعب العمل ودراسته التي لم يشأ أن ينقطع عنها، وها هو يسعى لنيل شهادة الماجستير، لذا كرّست نفسها لمساعدته، للسهر معه أحيانا كثيرة على الرغم من إلحاحه بألاّ تفعل، إذ يكفيها إدارة شؤون البيت وتعب الحمل بتوأم، غير أنها كانت تصرّ على مشاطرته تلك اللحظات.
سألها يوما.. لماذا أرى في عينيك حزنا دائما يا حبيبة العمر، هل أنت متوجسة من شيء ما. إن كنت قلقة على العودة إلى القرية فإن الأمور تسير على ما يرام، ولا بد لهذا الليل من نهاية، وأراها قريبة.
دع عنك الظنون يا زوجي الحبيب، فكل ما في الامر أنني أرهق أحيانا من الحمل، وهذا أمر طبيعي. أنا أعرف مثلك أن لكل ليل نهاية وأن لا بد للفجر أن ينبلج يوما، وربما نحن على مشارف ذلك.
إنني أستعجل يا حبيبتي مرور الشهر التاسع من حملك، فأنا أشعر كم تعانين، وعندما يطلّ علينا الصغيران ستنسين سريعا هذه الأيام الصعبة.
هل لي من طلب قد توافقني عليه يا حبيبي؟
أي طلب، أنا رهن إشارتك.
أتمنى لو تأخذني يوما إلى المطعم الذي التقينا فيه للمرة الأولى، وفاتحتني بأمر الزواج.
ولماذا هذا المطعم بالذات؟
لا أدري، هناك ما يناديني لزيارته مجددا وقبل أن أضع حملي.
ما رأيك أن نتناول غدا طعام العشاء هناك، وأتمنى لو نجلس على الطاولة التي جلسنا عليها للمرة الأولى، ونستعيد الذكريات.
ما زلت أتذكر وأنت تتحدث معي بحياء عندما عرضت عليّ الزواج، وأنا أداري صدمتي بهذا الطلب، لقد كان أجمل طلب.
وأنت كنت أيقونة بخجلك، بتورّد خديك، بارتباكك، بشرود عينيك. ما رأيك (مبتسما) لو أعيد غدا طلب يدك للمرة الثانية؟
موافقة، وسيكون طفلانا شاهدين على قصة حبنا، لا أدري ما كان مصيري لو أنك لم تظهر في حياتي.
بل ما كان مصيري أنا لو لم تظهري في حياتي.
هل ستستمر في حبي لو حدث لي مكروه أثناء الولادة؟
لماذا هذه الفكرة في ساعة سعادة، أنت تعلمين أنني قد لا أقدر على العيش من دونك.
مجرد سؤال.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي