الفصل الرابع

شعر بيد تربت على كتفه، التفت، رأى الممرضة مبتسمة تناديه كي يتوجه إلى غرفة نادين، لقد استفاقت من تأثير البنج، وهي تسأل عنه باستمرار وبنَفَس متوتر، خصوصا وأنها أمضت ليلتها خارج منزلها، ولا شك في أن القلق قد استبد بشقيقتها التي لا تعرف أين هي، وقد تكون سهرت الليل باحثة عنها بعد أن اتصلت بمحل الملابس الجاهزة الذي تشتغل فيه وأفادوها بأنها غادرت.
فتح باب الغرفة، وجد نفسه وجها لوجه مع التي ستأسر قلبه ربما خلال لحظات.
اعتدلت نادين في جلستها على السرير بمساعدة الممرضة، التقت العيون، كان هناك وميض، بل بريق، يلمع في العيون الأربع، رسالة من هنا وأخرى من هناك، لاحظت الممرضة ذلك فابتسمت، ربما كانت تعتقد أنهما قريبان، حبيبان، خطيبان، لم تكن تدري أن المستلقية على سرير المرض سقطت بضربة من سيارة القادم للاطمئنان، اعتذرت وانصرفت.
احتار وحيد كيف يقدم نفسه للمريضة، للمرة الأولى يجد نفسه غير قادر على الحديث مباشرة، تلعثم، كان في حاجة إلى من يمدّ له يد العون وهو المحامي والقاضي المنطلق في الكلام بكل أريحية.
صباح الخير، تحية نادين للزائر المجهول، شرّعت نافذة الكلام، وأخرجت وحيد من لجة حرجه وتردده، فرد التحية، وسحب كرسيا وجلس إلى جانبها.
أنا أعتذر عما سببته لك يا نادين من ألم، إنها المرة الأولى التي أتسبب فيها بحادث، للأسف كنت أنت الضحية، لكن قبل كل شيء طمئنيني عن حالك، عن أوجاعك، أنا أعرف أنك قضيت الليلة متألمة، بعيدة عن أسرتك، وأنا جاهز لكل طلباتك لأنني المخطئ، وعلى فكرة أنا اسمي وحيد.
توردت وجنتاها وهي تردّ وقد بدا عليها بعض الارتباك، ربما لأنها المرة الأولى التي تجلس خلالها أمام شاب مثل وحيد يظهر لها مثل هذه الباقة الكبيرة من الاحترام، وربما لأنها تحت تأثير شعور لم تعرف معناه من قبل، فالخافق بين الضلوع كان له رأيه هذا الصباح.
أنا نادين، عاملة في أحد محلات الملابس الجاهزة، وكنت قادمة من محل عملي إلى بيتنا عندما تعرضت للحادثة، لا أعرف كيف وقع الحادث، ربما تسرّعت في عبور الشارع ولم أنتبه لسيارتك، وربما قد تكون أنت بعض السبب، على كل حال أنا الحمد لله بخير، بعض الجروح والكسور وأعتقد بأنني سأتعافى، وأنا في غاية الأسف لما حصل، فلا تحمّل نفسك مسؤولية الحادث وحدك، إنه أيضا القضاء والقدر.
هل اتصلت بالأهل يا نادين لطمأنتهم، وأنا في غاية الحزن لما سببته لهم من دون شك من قلق وهواجس، فليس بالأمر السهل أن تقضي صبية ليلتها بعيدة عن أهلها دون أن تخبرهم عن أسباب ذلك.
سأتصل بهم حالا، لكنني فقدت جهاز الهاتف خلال الحادث ولم أعثر عليه في حقيبتي، عندما تأتي الممرضة سأطلب منها أن تتصل بهم من بدالة المستشفى.
ولماذا الانتظار، هذا هاتفي تحت أمرك بإمكانك الاتصال عبره لتطمين الأهل.
أنا جد شاكرة لك نبل أخلاقك، لا يهم سأتصل بعد قليل، وأكرر أسفي كوني كنت سببا في عدم نومك الليلة الماضية، يبدو ذلك جليا على وجهك وعينيك.
وأنى لي أن أخلد إلى النوم يا نادين بعد الحادث، حقيقة لم أستطع النوم، فقد راجعت شريط ما حصل أكثر من مرة، وكنت في غاية القلق عليك، وربما أيضا على نفسي.
وسادت فترة صمت وسكون، قطعها صوت طرق على الباب، لتدخل بعده الممرضة للقيام ببعض الأعمال الطبية تجاه نادين والابتسامة تعلو وجهها، ربما بات مستقرا في يقينها أنهما حبيبان من دون شك، فقد لاحظت حالة الانسجام بين الشاب والصبية.
اعتذر وحيد من نادين وترك للممرضة أن تقوم بمهامها، ووعدها أن يأتي لزيارتها في المساء، طالبا منها الاعتناء بنفسها، راجيا أن يعود ليلقاها في حال أحسن.
هو القدر.
فقد غادر وحيد المستشفى وقد تبدل حاله، تبدد من داخله تأنيب الضمير، نسي تعب الليلة الماضية وقلة النوم، وجد نفسه مفتوحة على العمل، مستعجلا في الوقت نفسه أن يمضي الوقت بسرعة كي يعود لرؤية نادين.
سأل نفسه.. هل هو الحب الذي لم يعرفه يوما أكثر من حبه لعائلته ودراسته وعمله وأصدقائه؟
إنها المرة الأولى التي يشعر فيها أن القلب يدق ويدق، حتى أنه لا يتذكر أنه مرّ في فترة ما يسمونها مراهقة بحب عابر، حتى أنه لم يعرف معنى المراهقة، كان مسكونا بدراسته، مهجوسا بمساعدة الأهل في الأعمال ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
تذكر تلك الليلة الصيفية التي فاتحه خلالها الوالد بموضوع الخطبة من بنت الجيران، كان القلق أول ما طرق بابه، القلق من الحب، لذلك كان موقفه المعترض على الخطبة، لأنه لم يشأ أن ينقاد القلب لغير ما قد يشعر به يوما ما، كان يريد أن يدبّ في جسده هذا الشعور الذي يحسّ به الآن، أن يكون حقيقيا، عفويا من دون سابق ترصد وتصميم، أعرب عن سعادته بأنه لم ينكسر في تلك الليلة حتى أمام طلب الوالد، لأن أمر القلب موضوع يخصّه وحده، وإن كان قد عاش عقب تلك الليلة ليالي طويلة مليئة بتأنيب الضمير، لكنها لم تكن وجعا كله، كان في داخله هذا المارد الذي يرفض الانصياع، خصوصا في موضوع الحب.
أما نادين فقد كانت بدورها تحت تأثير الشاب الأنيق الوسيم، كانت مأخوذة بمنطقة وانسيابية حديثه، وتلك العاطفة التي لا تخفى في نبرة الصوت، وعلى الرغم من كل ما تعانيه، ليس من آلام حادثة الصدم، لم تستطع أن تكبح جماح القلب الذي تحرك بدوره سريعا، حاولت أن تُغيّر مجرى الذاكرة في ذلك اليوم، لكنها فشلت، وكانت سعيدة بفشلها دون أن تدري لماذا، وعلى الرغم من واقعيتها بأن من المستحيل أن تسير على هذا الدرب لألف سبب وسبب، لكن لا بأس أن تأخذ فترة نقاهة، أن تريح القلب على متن لحظة جميلة عابرة، أن تحلم ولو مرة واحدة في حياتها الندية، فقد هجرتها الأحلام منذ زمن، يوم سقطت وقعت في الخطأ والخطيئة، يوم رحل من كان الاغلى في حياتها، تلك القامة التي يسمونها الأب، يوم انكشفت وغطاها العار، عار اسمه بنت ليل، يوم سقطت شقيقتها الوحيدة مغشيا عليها وهي تغالب الدموع والحزن والوجع، وكلمة عار تلطخ جبينها، تحبسها في دائرة المشكوك فيهن، فمن يدري لربما كانت هي على درب الخطيئة الذي سارت عليه شقيقتها، ومن أين لها أن تأتي بصك البراءة، بل الأهم هل ما زالت البراءة تعني لها شيئا، بالكاد كان مقبولا أن تبقى مقيمة في المبنى الذي تقيم فيه، ولا ضير من نظرات الجيران، وصاحب ورواد الدكان في أسفل البناية، لقد اعتادت على النظرات الجارحة من كل صوب، بعضها كان مجللا ببعض الشفقة، والقلة القليلة بظل الرحمة، لكن كل ذلك ما عاد مهما، فكم من أيام حبست نفسها في شرنقة شقتها البسيطة المتواضعة، مفضلة عدم الخروج حتى إلى عملها الذي كانت محظوظة بأنها لم تطرد منه.
على متن الحلم العابر، استحضرت نادين شريط الأيام، يوم ماتت الوالدة دون أن تجد لها الدواء، بكت كثيرا على فقدانها، ألا يقولون أن الدنيا أم، ومن تلك اللحظة شعرت باليتم، بمرارته وقسوته، لامت نفسها كثيرا لأنها لم تستطع أن تفعل لها شيئا، كثيرا ما كانت تراها تتلوى من الوجع، وليس في محفظتها ثمن الدواء، تبرع لها البعض مرة واثنتين وثلاثا، وشيئا فشيئا بدأوا ينحسرون، يتضاءلون حتى اختفوا جميعا من على المسرح، وكأنهم أدوا دورهم وانسحبوا، فيما كانت هي مع كل جرعة دواء مدفوعة الثمن تتمنى الموت قبل أن ترى أمها سائرة على دربه، كانت تريد أن يأخذها ذلك الضوء الأبيض بعيدا عن دنياها، لعلها ترابط هناك في انتظار الحبيبة الغالية لتشبك يديها في يديها ويمضيان سويا في الرحلة الأبدية.
تساءلت.. هل أتى هذا الفارس الجميل اليوم ليزيح عن نفسها كوابيس الماضي، وهل سيبقى فارسا إن هو عرف حقيقة أمرها، هل ستستمر تلك البحة الحنونة في الصوت وذلك الوقع غير المعهود في النبرة، أم أنه هو الآخر سيمتطي ظهر جواده ويرحل حيث رحل الآخرون.
أنت من عالم آخر، كوكب آخر يا نادين، بهذا خاطبت نفسها عندما استكانت قليلا لمشاعرها الأنثوية، لا شأن لك بهذا الشاب، ليس مقدّرا لك أن تحبي، أن تحلمي، أن تشكلي أسرة وأنت من تحمل على عاتقها وزر الخطيئة، هل جننت حتى تذهبي أو تحاولي أن تذهبي بعيدا في حلمك، استفيقي، ألم تقولي يوما إنك ميتة، ميتة من الداخل، وإن كنت ميتة كما تقولين فكيف لقلبك أن يحيا، أن يخفق، أن يرقص، أن يحب، ثم ما ذنب هذا الشاب ان يكون هو الضحية، دعيه يا نادين في حال سبيله حتى في أحلامك، لا تجني عليه، ربما لا يستحق تلك القسوة منك ومن المجتمع.
وبدأ مفعول البنج يأخذ مجراه، ورويدا رويدا ومع آخر صورة للشاب الوسيم، أسلمت نادين نفسها لسلطان النوم، ربما عندما تستيقظ يكون هذا الحلم قد توارى نهائيا خلف السحاب.
وحانت الساعة السابعة، كانت نادين على الرغم من الصراع النفسي الذي عصف بها منتظرة حلول المساء كي تلتقي الشاب الذي بدأ يشغل قلبها، إن لم يكن قد شغله بالفعل رغم محاولات الانكار أو التنكر من قبلها حرصا وإشفاقا عليه.
لم تكن تستغرق كثيرا في النوم على الرغم من حقن البنج تخفيفا لآلام رأسها المصاب، كانت تستيقظ وتراقب عقارب الساعة وهي تتقدم رويدا رويدا إلى موعد اللقاء.
في السابعة والنصف طرق الشاب الوسيم باب الغرفة يستأذن بالدخول، لم ينتظر طويلا فلعل نادين نائمة، فتح الباب حاملا باقة كبيرة من الورد يغلب عليها اللونان الأبيض والأحمر، وجدها مستيقظة، بل متأهبة للقائه وفي العينين حكاية شوق وحنين.
كيف حالك الآن يا نادين؟
أنا بخير يا أستاذ وحيد، لماذا عذّبت نفسك وأحضرت الورد لم يكن هناك من داع.
الورد للورد، قالها وحيد وبصوت خافت.
دعينا نتعارف أكثر.
ماذا تريد أن تعرف.
ما يسمح به الظرف الناشئ بيننا على وقع صدمة سيارة (مع ابتسامة).
طبعا أنا جد آسف مجددا على ما حصل، ولننته من الموضوع الأول، فقد طلبت من إدارة المستشفى أن تهتم بك إلى أقصى حد، أريدك سالمة ومعافاة حتى أفضل مما كنت عليه لحظة الحادث، أنا سأتكفل بكل المصاريف فلا تحملي هم الأعباء المادية، ثم اعتبريني صديقا.
العفو يا أستاذ وحيد، لم يكن هناك من داع لغرفة خاصة كان بالإمكان مشاركتي غرفة مريض آخر.
بل وطلبت منهم أن يخصصوا لك جناحا لو توفر.
جناح يا أستاذ وحيد دفعة واحدة، لماذا؟
أمرك يهمني جدا، اعذريني على تطفلي، فقد بت أشعر أنني أعرفك منذ فترة طويلة فلنرفع الكلفة بيننا ولا داعي لمناداتي بالأستاذ، يكفي ما سببته لك من وجع، ثم هل اطمأنت عائلتك على وضعك الصحي، أتمنى لو أتعرف على أفرادها لأعتذر منهم على ما تسببت به.
وما كاد وحيد يفرغ من حديثه حتى دُقّ الباب ودخلت صبية في الثلاثين تقريبا أو يزيد، بدا عليها من ملامحها أنها شقيقة نادين، وكانت كذلك بالفعل.
أعرفك يا أستاذ وحيد على شقيقتي الكبرى سناء.
أهلا سناء، أنا وحيد من تسبب الحادث لشقيقتك نادين، أرجو أن تسامحيني على فعلتي.
حدث خيرا يا أستاذ وحيد.
لاحظ وحيد للوهلة الأولى أن هناك كيمياء خاصة بين الشقيقتين على الرغم من لغة العيون التي كانت تبوح بأمر آخر، فلم يشأ أن يستقرئ الموقف، ربما خانه ظنه، ربما كانت الشقيقة كثيرة القلق على أختها حتى عرفت أنها في المستشفى، لا مجال للتحليل والاستنباط، هذا ما تحدث به في سره.
هل لي أن أتعرف عليك أكثر يا أستاذ وحيد؟
بالطبع، أنا وحيد، قاض في إحدى المحاكم.
تشرّفنا بك يا أستاذ وحيد.
لي الشرف يا سيدة سناء، وأنا أكرر أسفي على ما حصل، لكن الله ستر، والحمد لله فإن نادين بخير وستتعافى قريبا، وعلى كل سأكون إلى جانبكما فيما تحتاجانه، في أي شيء، اعتبراني منذ لحظة الحادث فردا من العائلة، هذه حقيقة وليس مجاملة، ربما كان الحادث صدفة جميلة لأتعرف عليكما، على الرغم من الألم الذي تسببت به، والآن فإن عليّ أن أغادر، وأترككما لوحدكما، بالطبع شيق وحلو حديث الأخوات، أتمنى لكما ليلة سعيدة هانئة.
تركت زيارة وحيد بصمتها على علاقة الشقيقتين، حتى أن سناء كانت معجبة جدا بشخصية هذا الشاب وهي بالكاد تحدثت إليه ببضع كلمات، لا أحد يدري إن كانت قد قرأت شيئا من خلال اللقاء العابر، لقد عركتها الأيام، طحنتها، جعلت منها امرأة مجربة وهي لا تزال في سن الشباب.
هل عرف من تكونين، سألت سناء شقيقتها.
ومن أكون أكثر من مجرد اسم هو نادين مستلقية على سرير في مستشفى.
ردّت سناء.. أتمنى ألاّ يعرف أكثر، شكرا لله أنه تكفل بكافة مصاريف العلاج كما ذكرت لي ظهرا، يبدو أنه شاب شهم وسليل عائلة عرفت كيف تربيه، كما أنه يعمل قاضيا، فلوكان غير ذلك فمن أين لنا ان نأتي بمصاريف العلاج ونفقات المحامي لو حاول من صدمك أن يتملص من فعلته.
وعقبت نادين.. العالم لا يخلو من الأخيار والناس الطيبين يا أختاه، ليسوا جميعهم على حال من وضعنا حظنا العاثر في وسطهم، لا يرحمون ولا ييأسون من الكيد للناس والتربص بهم، هي الدنيا تأخذ منك أحيانا في يد وتعطيك بالأخرى، ثم بالمناسبة كيف حال عملك، هل ما زلت تترددين أحيانا عن الذهاب إلى العمل، لا داعي لأن نقلّب المواجع فما فات قد فات، يكفينا رحيل والدنا بعد أن رحلت قبله والدتنا، لم يبق من العائلة إلا نحن، أنا وأنت، هذه العائلة التي كانت جميلة يوما، قانعة، آمنة، مطمئنة في حضن والدين طيبين.
بكت سناء وهي ترى الدموع تترقرق في عيني شقيقتها الصغرى، نهضت من على كرسيّها، اتجهت ناحية السرير، وبكُمّها مسحت دموع نادين، قرّبتها إليها، احتضنتها بشدة لكن بحنان وهي ترجوها ألاّ تبكي بعد اليوم، فقد كانت نموذجا للعطاء، بذلت روحها من أجل أن يعيش والدهما، لكن المجتمع أو بعض أفراده لا يرحمون، لا يغوصون في الأعماق، لا يسامحون، يحكمون على الظاهر وينسون الأهم، الباطن، لا يقرأون في الأسباب، هم يرون بعين واحدة، الوسيلة، وينسون نبل الغاية، ربما يكون هذا هو قدرنا لكن يجب أن نواجهه، لن نبقى بعد اليوم مغلوبا على أمرنا، لقد سامحتك يا أختاه منذ صفعتك، بصقت في وجهك، لم أكن أدري حينها أن وجعك وجعي، استدرجني رد الفعل ولم أرّ الفعل، بل نبل الفعل، هناك يا أختاه رب كريم هو من يغفر، من يسامح، من يرحم، لا أريد أن أرى دموعك بعد اليوم.
واحتضنت الشقيقتان نفسيهما، التمتا على بعضهما في مشهد مبك كما في الأيام الخوالي.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي