الفصل الثالث

عندما تبتسم لك الأيام تفتح أمامك كل الأبواب المغلقة، وعندما تدير لك ظهر المجن ترميك وراء مرارة الأسوار، تختصر كل حياتك في مجرد محاولة للخلاص، وقد يكون ذلك مستحيلا.
بدا لي أنا وحيد أن والدي بات مهموما، وإن حاول أن يكتم هذا الأمر عني، أن يداريه، أحيانا كنت أراه سعيدا، وأحيانا أخرى وكأن كل نوائب الدنيا حطت على منكبيه فأثقلت عليه.
هكذا شعر وحيد، الشاب الأكثر حنانا على والديه، المداري بلطف وحساسية عالية لمشاعرهما التي كان يجاهد حتى لا تزعجهما ولو نسمة من هواء حتى لو حملت على جناحيها رائحة الياسمين أو عبق الورد من حديقة البيت، جنة الأيام التي نبتت بعطر والدي الأم الحبيبة.
شعر بأن الوالد يعاني بين شعورين لازماه بعد تلك الليلة، من صراعين، الأول يأخذه إلى جنته التي عاش فيها عمره كله سعيدا متفائلا، وثانيهما يحاول أن ينتزعه من جنته تلك أسير الهواجس والظنون.
لم يخب ظن وحيد، فقد كان الوالد يعاني بالفعل من الصراعين، كان في داخله يريد أن يصدق بان ولده خالي القلب وأنه لم يفتحه لإحداهن من زميلات الدراسة، وسوف يتقبل بكل امتنان ودون تردد ما سيطلبه الوالد في جلسة مؤجلة من التقدم لخطبة ابنة الجيران، فيما داخله على الجانب الآخر كان ممزقا، تنهشه الظنون بان وحيد وقع بالفعل وأنه، وهو الفتى الذي سلّمه بيديه إلى حديقة العلم ودراسة القانون لن يقبل زيجة على هذا النحو، وسيرفض أيا كانت العواقب طلب الوالد والوالدة، وسيمضي في حال سبيله مهما كان الثمن، ولو تمثُل في مقاطعة الأهل، أو بالأحرى مقاطعتهم له، وهو الابن الوحيد بين ثلاث شقيقات.
يا لقلبي الممزق التائه بين جنة ونار، تلك كانت حقيقة الوالد الذي أثقل عليه الدّيْن، دَيْن كلمة أعطاها يوما لجاره الصديق مفادها أن ابنته ستكون من نصيب ابنه، ومرّت الأيام والصبيان يكبران، وحيد ذهب إلى الجامعة وسعاد (ابنة الجار) كانت رابع بنات أبي وحيد، فقد تربت بين بناته الثلاث، وكانت واحدة من العائلة وليست مجرد ابنة جار.
هل يمكن لوحيد أن يقتلني، أن ينحر قلبي برفضه ما أريده منه، أن يجعلني حديث أهل القرية، وأولهم الجار الصديق، أنا أبو وحيد صاحب الكلمة المسموعة في أرجاء القرية كلها والتي تشهد لحضوري القرى المجاورة أعجز عن أن أفي بعهدي؟
كان صراعا بين عاطفة الأبوة، والامتثال للعهد والوعد، وحتى لو رضي وحيد بخطبة ابنة الجار، فلن يطمئن قلب الأب إلى أنه سيكون زواجا ناجحا، ربما سيكون ارتباطا لمرضاة الوالد وليس لبناء أسرة سعيدة، وهنا ماذا سيكون ذنب تلك الفتاة التي وقفت حياتها من أجل العريس المفترض، بل أي حياة سيعيشها الابن الذي كان ثمرة فؤاد، ومهجة قلب ونور عين؟
هل أخطأت في وعدي لرفيق العمر؟
أبدا، هذه عاداتنا، ثم مم تشكو سعاد، إنها فتاة جميلة، خلوقة، نعرفها منذ الصغر وقد تربت بين بناتي الثلاث حتى كنت لا أفرق في المحبة بينها وبين بناتي اللواتي أنجبت؟
هل سأكون جانيا على فلذة كبدي بأن أجبره على الزواج بمن لا يحب، أو هل سأراهن على أنه سيحبها بعد الزواج، ومن يضمن ذلك، سواء كان وحيد مغرما أو لا، فهو حتى أنه لم يسألني عن العروس التي اخترناها له أنا ووالدته؟
ليتني لم أرسله إلى الجامعة ليكون محاميا أو قاضيا، ليتني لو طلبت منه أن يكتفي بالثانوية العامة، وهي شهادة علمية لا بأس بها، ومن ثم استعنت به في إدارة أعمالي الزراعية الكثيرة، ومن يدري ربما خلفني يوما في رئاسة بلدية القرية، وهذا أمر ليس بالقليل على شاب مثله.
أنّى لي ألّا أرسل إبني الوحيد إلى الجامعة وتلبية رغبته وتسطير حلم حياته على واقع.
لله ما أقساني من أب، وكأنه يضع ابنه في فم التنين.
أنسيت يا أبا وحيد تلك القصة التي رواها لك، وكيف أنه تقاسم مصروفه اليومي مع ذلك المسكين، لا بل منحه مصروفه كاملا، وخبّأ الأمر عني ولم يفاتحني به إلا بعد سنوات، أيعقل أن أغضب على مثل هذا الفتى رقيق القلب، صاحب المثل من أجل أن أفي بوعد هو ليس مسؤولا عنه، ثم أليس من حقه أن يختار هو عروسه التي سيتقاسم معها حياته في السراء والضراء؟
هل أنا أناني إلى هذه الدرجة؟
هل أستطيع فكاكا من وعدي؟
لا لن أتملص مما وعدت به، نحن أبناء جيلنا سنبقى متمسكين بعاداتنا وتقاليدنا حتى آخر العمر حتى ولو كان الثمن ولدي، حبيبي، ثمرة عمري، أن أقاطعه، أن أطلب منه ألاّ أراه، فليختر هو حياته، يوما سأختبره مجددا وسأتصرف معه وفقا لرده عن السؤال.
أنا فعلا أب حزين.
وكان جفاء مختبئ خلف أسوار القلوب، ذلك الذي كشفت عنه الأيام المتتالية، حتى شعر وحيد بأن والده ما عاد يأتي إلى غرفته فجر كل يوم ليوقظه من نومه وليرافقه إلى المسجد لأداء الصلاة، ومن يم يصحبه لتناول الأرز بالحليب والمهلبية، النوعين المفضلين لدى حبيب العمر.
ولم تتكرر الجلسة الصيفية في الليلة المقمرة، وكأن الوالد تعمّد ذلك لكبح هواجسه وعدم استعجال نكران ابنه إن رفض الزواج من ابنة الجار صديق العمر، ولسان حاله أن ذلك اليوم آت، وعندها سيكون لكل حادث حيث.
وشيئا فشيئا بدأت تخيّم على البيت السعيد غيوم عابرة من الكآبة، كانت تدمي قلب وحيد الشاب الحنون، المحبّ لوالديه، لكن المصرّ في الوقت نفسه على ألاّ يسلم زمام نفسه بسهولة، لكنه في الحقيقة لم يكن يدرك ذلك الثمن الكبير الذي سيدفعه يوما إن هو رفض طلب الأهل، وهو الثمن نفسه الذي ستدفعه العائلة برمتها، سيذبل قلب الأب، وستذوي عينا الأم من البكاء، وستبكي الأخوات الثلاث فراق شقيقهم الوحيد، وستكتب الأيام قصة الحزن الكبيرة في تلك القرية الجميلة.
وحده الزمن قد يكون قادرا على تغيير المعادلة، ولم يكن ذلك بالأمر البسيط، فدونه انتظار طويل، ثقيل.
على أن الأمر الوحيد كان أن وحيد بات قادرا على متابعة الدراسة، فقد كان الأمر الوحيد الذي تمت مناقشته مع الوالد الذي لم يبد اعتراضا، بل منح موافقته لابنه وهو ينظر في عينيه وكأنه كان يستعطف الأيام الآتية ألاّ تغيّر معنى هذه النظرة وألاّ تحرمه منها، وعلى ذلك لم يفاتحه مجددا بأمر الزواج، ترك ذلك للظروف، عاقدا الأمل على أن وحيد لن يخلّ بعادات القرية والأهل، معاتبا نفسه كثيرا على وضعه ابنه في دائرة الظنون، إلى أن قرر يوما أن يُبيّض صحيفة سجله من هذه الشكوك ويعود لسيرته الأولى معتبرا ما حدث سحابة صيف.
يوما تخرّج القاضي من معهد الدراسات القضائية.
سنتان مرّتا بسرعة على وحيد الذي كان مستمتعا بدراسته، وبوظيفته التي سيتولاها، وبطيئة على الأب المثقل بما ستحمله له الأيام، وكثيرا ما كان يرمق ابنة الجار بعطف وحنان وأحيانا بشفقة، متسائلا.. لماذا أوثقها بوعد وعهد لا حيلة لها أن تتفلت منهما وهي المجني عليها، حتى وإن أحبت وحيد، ومن قد لا يحب وحيد من الفتيات، دون أن يضع في اعتباره الوضع العلمي لولده، ومقارنته بابنة الجار التي حصلت على الثانوية العامة وبعدها جلست في البيت، لقد كانت محظوظة بتفهم والدها، والسماح لها بالدراسة، ربما لأنه كان كما أبي وحيد ميسور الحال، منفتحا على ضرورة أن تتعلم ابنته فهي ليست في حاجة للاستيقاظ مبكرا كعادة الكثيرات من بنات جيلها للذهاب إلى الحقول والكروم والبساتين، لقد كانت محظية بذلك الأب، وبجيرة شقيقات وحيد اللواتي كن جميعا شريكات في الدراسة.
وما كان يهوّن على والد وحيد أحيانا سؤاله نفسه ما إن كانت ابنة الجار تحب وحيد فعلا، فهي لم تظهر عليها أي بوادر حب، ربما كانت تخفيها، وربما كانت بالفعل لا تحبه وهي حتما لا تدري بما تعاهد عليه الوالدان، والدها ووالد وحيد، فليس من العادات ولا التقاليد إخبار البنت بذلك إلى أن يحين يوم الخطبة.
وكثيرا ما سأل والد وحيد نفسه ما إن قادرا على مفاتحة الصديق بالوعد، وإمكانية الفكاك منه إن كان ولداهما لا يحبان بعضهما، لكن أنّى له أن يسأله، لأن مجرد السؤال قد يكون طعنة، قد يُخلّف جرحا لا يندمل، لذا آثر الصمت والانتظار.
وسط هذه الصراعات النفسية كانت للقدر كلمته.
لقد انشغل وحيد بأمر ما وهو يقود سيارته يوما عائدا من عمله، فصدم شابة ورماها على قارعة الطريق.
كاد قلبه يقفز من بين جنبيه، كيف انشغل أثناء القيادة وهو الحريص على عدم فعل ذلك، خصوصا وأنه رجل قانون.
أوقف السيارة، ترجّل منها بسرعة، التف عدد من المارة حول مكان الحادث، اتجه ناحية المصدومة، فتاة في مقتبل العمر، ربما في سن وحيد أو ربما تصغره بسنوات قليلة، كانت الدماء تفور من رأسها وتغطي وجهها الجميل، تردد أولا في أن يلمس جبينها وهي تئن من الوجع مطلقة عبارة "آخ يا بيي"، قاوم تردده، حملها بسرعة، وضعها في السيارة وطار بها إلى المستشفى، وضعها في عهدة الأطباء والممرضات واتصل بالأهل معتذرا عن التأخر بسبب ظرف طارئ نتيجة العمل على أن يأتي في اليوم التالي.
انتظر وحيد لأكثر من ساعتين في ردهة المستشفى وعيناه ملتصقتان بباب غرفة العمليات، يستعجل الاطمئنان على الفتاة المصدومة، متمنيا من الله أن تكون إصابتها بسيطة، أو على الأقل ليست خطيرة.
وأخيرا فُتح الباب وأطل منه طبيب وممرضة، تقدم منهما وحيد مستفسرا، أبلغه الطبيب أن الصبية المصدومة تعرضت لإصابة في الرأس نتج عنها نزيف تم احتواؤه مع بعض الكسور في اليدين، وأن حالتها مطمئنة ولا تستدعي القلق، لكن يجب أن تمكث في المستشفى لأيام قد تمتد لأسبوع وربما أكثر.
أنا جاهز لكافة التكاليف يا دكتور، أرجو أن تحظى الفتاة بالعناية اللازمة، وأن يتم نقلها إلى غرفة خاصة، ولا بأس لوكان جناحا، أرجوك يا دكتور أتمنى أن تكون الفتاة بخير والأمور المادية ليست ذات أهمية مطلقا.
وقبل أن يغادر المستشفى بعد أن أنجز بعض الإجراءات، استفسر وحيد عن اسم الفتاة التي صدمها بسيارته، فأتاه الجواب بأن اسمها نادين.
آه يا نادين، لماذا مررت أمامي في تلك اللحظة التي كنت منشغلا خلالها بالتفكير في إحدى القضايا حتى أنني لم أر بوضوح الطريق أمامي، فكنت أنا الجاني وأنت الضحية.
وفتح وحيد باب المستشفى مغادرا على أن يأتي في صباح اليوم التالي ليطمئن على وضع الفتاة، ولم يدر أنه فتح في اللحظة ذاتها محضر حب، وقصة منسوجة بغصة، وباب قفص ليس من ذهب، وحكاية عمر يكتبها بحبر إنسان خضع لمنطق القلب وشفافية العقل وميزان العدالة وصوت الضمير، ونداء الرحمة، جميعنا قد يخطئ، وجميعنا نحتاج إلى فرصة ثانية.
وما أجمل الإبحار في هذه المواقف مع الأديب جبران خليل جبران "لا يدرك أسرار قلوبنا إلا من امتلأت قلوبهم بالأسرار، وإذا كنت لا ترى إلا ما يظهره النور، ولا تسمع إلا ما تعلنه الأصوات، في الحقيقة لا ترى ولا تسمع، وإذا تعاظم حزنك أو فرحك صغرت الدنيا، وجميل أن تعطي من يسألك ما هو في حاجة إليه ولكن أجمل من ذلك أن تعطي من لا يسألك وأنت تعرف حاجته، وبعضنا كالحبر وبعضنا كالورق، فلولا سواد بعضنا لكان البياض أصمّ، ولولا بياض بعضنا لكان السواد أعمى".
ولم يكن وحيد يدري عندما أتى صباحا ليطمئن على الصبية نادين أنه سيكون أمام حب عمره، حب من نوع آخر وقصة مختلفة، وقلب مليء بالأسرار، وتضحية قد لا تضاهيها تضحية، خصوصا إن كان للأب نصيب كبير منها، وصرخة كبيرة على موجة .. بابا.. مملوءة بالوجع، أمام وجعه يهون كل وجع، وكل تضحية.
لم يكن في حسبانه أنه منذ لحظة أمسك بقبضة باب الغرفة المستلقية فيها الفتاة الجريحة إنما يدير قبضة باب بيته يغلقه خلفه في رحلة طويلة إلى المجهول، إلى الألم، فراق الأحبة، الأهل، الأب، الأم، الأخوات، القرية، الحقول والكروم، بيادر الأيام، النهر و قيثارة الصفصافة، الذكريات الجميلة، رائحة التراب مع أول شتوة، أيام رمضان ونكهة السحور، خبز التنور وخبز الصاج منسوج بطعم يدي الأم ورائحة منقوشة الزعتر وفطيرة السكر، والقائمة تطول.
دخل بحذر، وجد المريضة لا تزال نائمة، تقدم منها ببطء، أراد أن يتعرف على الصبية التي أوجعت ضميره فلم ينم طيلة الليلة الماضية، تطلع إلى الأجهزة الطبية المحاطة بها، استمع إلى صوت أنفاسها، لا شك إنها بخير، وقف أمام النافذة يسترق النظر إلى الخارج، وقطرات من مطر تضرب على الزجاج، تخيلها معزوفة موسيقية ذكّرته بطقة مزراب البيت عندما يشتد المطر، الموسيقى هي الموسيقى أينما كانت وأيا كان مصدرها، هي في حاجة فقط إلى قلوب تفهمها.
غادر الغرفة قليلا ليسأل إحدى الممرضات إن كان يمكن له أن ينتظر في الغرفة حتى تستيقظ الفتاة، فنصحته بالذهاب إلى الكافتيريا وتناول فنجان من القهوة أو الشاي لأن المريضة لن تستيقظ قبل أكثر من ساعة، فقد حقنتها بالمخدّر صباحا لمساعدتها على مقاومة الوجع، كما أنها سألت عنه بعد أن وجدت نفسها في غرفتها، ربما لم تكن قادرة على نفقات إقامتها في المستشفى، كما استفسرت عن اسمه أكثر من مرة، ربما أعجبها اسم وحيد.
لا بأس في الانتظار، فليس على جدول القاضي وحيد اليوم جلسات في الفترة الصباحية، ولا بأس بفنجان من القهوة قبل أن يعود مجددا إلى الغرفة، عندما تستيقظ نادين.
تمتم وهو يرشف قطرات من قهوته.. جميل اسم نادين.. إنها لا تستحق أن أصيبها في رأسها وأتسبب لها ببعض الكسور.
عذرا يا نادين.. لا تستغرقي في نوم طويل.. أستعجل لقاءك.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي