الفصل الثامن

واستيقظت القرية الوادعة فجر يوم على صوت غراب ينعق.. وحيد تزوج فتاة ليل.
لم تكد تلك البقعة العزيزة على قلب وحيد تفرك عينيها مع ضوء الفجر لتستقبل شمس النهار حتى باغتها الخبر.
كثيرون لم يصدّقوا، صمّوا آذانهم، تلفتوا يمنة ويسرة فلم يروا سوى وحيد، الشاب الخلوق، صاحب تلك الابتسامة التي كما يقولون تزيل الهم عن القلب، ولم يتساءلوا حتى إن كان وحيد يفعل ذلك.
لكن الغراب الناعق من الواشين، محبي الشرّ، زاد.. من لا يصدق فليذهب إلى حيث يسكن وحيد ليطلع على الأمر بنفسه، وتكلفة الذهاب والإياب على نفقتي.
هزّ الخبر مسامع والد وحيد، أيقظه من عزّ أحلامه بعودة ولده، شعر في الأيام الأخيرة أنه متوعك لكنه قاوم واحتفظ بأمر اعتلاله لنفسه، أخفاه حتى عن الإنسانة التي عاشت معه سني عمره على (الحلوة والمرّة)، كان يعدّ لاستقبال الحبيب الغالي، ليأخذه في أحضانه ولتسرح الدموع عندها كما يحلو لها، لم يتبق في العمر الكثير، لقد أنفق سنواته وحان موعد الرحيل، لكن مع أي موعد ضربه له القدر.
لم يدرك أولا ماذا يسمع، لم يفهم مغزى الكلام، من هو الذي يشيع مثل هذا الخبر، ما علاقته بوحيد، هل هو من كارهيه وهو لم يعرف يوما من يكره ولده.
سأل نفسه، لماذا يسترسل في الكثير من التساؤلات وها هو أبو جميل قريب منه، فليطرق بابه حتى لو كان الوقت مبكرا، لم يكن في حاجة إلى أن يطرق الباب، ها هو أبو جميل قد استيقظ مثله على وقع الخبر وهو يتناول فنجان القهوة الصباحي في حديقة البيت.
هل سمعت الخبر يا أبا جميل كما سمعت، بل هل تسمع ما أسمع؟
نعم أسمع يا جار العمر ورفيق الحياة (بعينين دامعتين).
إذن الخبر صحيح، وإلا فلماذا تبكي، هل زرت وحيد كما كنت قد أخبرتني، هل هو متزوج في الأصل؟
وساد صمت طويل بين الرجلين، أبو وحيد ساهم، شارد الذهن، يتمعن في الفضاء علّه يقرأ خبرا ينفي ما يسمع، وأبو جميل غارق في حزنه، يبكي بصمت، حزنا على وحيد وقلقا على الرفيق من أن يصيبه مكروه وهو يرتجف أمامه كما يرتجف الخروف خوفا من سكين الجزار.
إذن أنت التقيته وعرفت أنه متزوج وأخفيت الأمر عني.
ونهض أبو جميل عن كرسيّه وأجلس رفيق العمر إلى جانبه.. تمهّل يا أبا وحيد، من قال إن ابنك تزوج من فتاة ليل؟
هل هو متزوج أم لا، أنت زرته بالطبع وتعرف إن كان كذلك.
نعم زرته.
ولم تخبرني؟
زرته البارحة يا أبا وحيد وعدت إلى البيت متأخرا وكنت سأخبرك اليوم.
وهل تعتقد أن من يشيع الخبر صادق؟
بالطبع لا.
هل التقيت زوجته، كيف هي، هل يبدو عليها أنها فتاة ليل؟
أبدا، هي إنسانة خلوقة جدا وراقية وحنونة حتى لكأنك لن تفرق بينها وبين واحدة من بناتك.
وهل علمت كيف تزوج، كيف تعرف عليها، لماذا تزوجها ولم ينتظر حتى يخبرني بذلك، لو فعل لكنت وافقت على الفور فلم يعد في العمر أكثر مما مضى؟
لم أشأ أن أسأله، كنت بالفعل مصدوما من فعلته، أنت تعلم أنني أحبه كثيرا وكأنه ولدي، لكنه برر لي أنه وجد نفسه في عالم غريب، كان في حاجة إلى من يسمع صوته، يحسّ بأنفاسه، وجعه، عثر على من اعتقد أنها رفيقة العمر، فتزوج.
آه، هل يعلم ولدي إن صح الخبر أنه حكم عليّ بالموت، بالعار، إبني وحيد يتزوج فتاة ليل، هل خلت الدنيا من النساء حتى يفعل ذلك؟
ولم يكن حال أم وحيد بأفضل من حال زوجها، فهي زارت ابنها وتعرفت على زوجته، كل ما فيها كان يوحي بالخلق، بالنبل، كانت أيقونة دخلت قلبها، هل يعقل أن تكون كما يشاع؟
وتأكد الخبر، وكان حقيقة، وأقيمت مراسم الحزن في بيت أبي وحيد، فقد هدّه المرض، وأدخل إلى المستشفى وعاش فترات حرجة، فيما كان أهل القرية مذهولين مما سمعوه وبات خبرا مؤكدا، على أن الكثيرين منهم لم يقفل باب قلبه في وجه وحيد، بقي هذا الشاب محبوبا من الكثيرين حتى ولو تأكدت الإشاعة، إذ لا بد من أن يكون هناك سرّ دفع وحيد للزواج من هذه الفتاة، لكن ما هو هذا السر الذي لا بد أن تكشف عنه الأيام، فلم يكن أحد من أهل القرية في وارد أن يزور وحيد، فماذا سيقول له، لماذا تزوجت من فتاة ليل؟
شخصان اثنان بإمكانهما فعل ذلك بعد أن غاب الوالد عن المسرح، وسلّم نفسه للحزن والكآبة، وبات فريسة المرض، انقطع حتى عن الناس الذين لم ينقطعوا عنه، حتى لو رأوه من وراء نافذة، مجرد رؤية للاطمئنان، فهو الرجل الطيب صاحب الأيادي البيضاء وما أكثرها، وكم من عثرة أقالها، وكم من محتاج مدّ له يد العون.
شخصان اثنان هما والدته التي لم يعرف أحد حتى بناتها الثلاث بأنها زارت شقيقهم وإلا لكانت الدنيا انقلبت فوق رأسها خصوصا بعد الخبر الأخير، أما الشخص الثاني فلم يكن غير أبي جميل نظرا للروابط التي تجمع بين أهل البيتين المتجاورين، فمن منهما يبادر إلى كشف الحقيقة.
أما وحيد الذي بلغه الخبر فقد كان مستعدا للدفاع عن موقفه، لأن زواجه من نادين لم يكن مجرد صدفة، مجرد حب من دون جذور، نزوة عابرة، كان حبا، إحساسا، قناعة، لأن القناعة في نظره كانت نظارة إن لبستها رأيت الحياة جميلة، ولأن من مبادئه أن من أحب الله رأى كل شيء جميلا، وألاّ تنظر إلى الابريق بل انظر إلى ما فيه.
لكن أكثر ما آلم وحيد هو وطأة الخبر على أهله، على والده بالذات الذي كان يتقصى أخباره من المحبين، وقد علم بمرضه ووضعه النفسي السيئ ولم يكن في مقدوره أن يفعل شيئا، لأنه لا يستطيع أن يفعل، فكيف من الممكن أن يستقبله والده الذي طرده يوما لمجرد رفض طلب، أيتقبله اليوم وهو زوج لفتاة ليل؟
نادين بدورها قتلها الوجع، أحسّت في أعماقها أنها السبب في ما آل إليه الوضع، كان الندم يأكلها، لماذا رضخت لفعل الحب بعد أن كانت ميتة، لماذا لم تقل لا لوحيد وبصوت عال عندما تقدم لطلب يدها، لماذا لم تكبت هذا الكامن بين الأضلع حين صرخ، فما كان له أن يصرخ عندما مات أول مرة مع وفاة والدتها وثاني مرة عندما سلكت درب فتاة الليل، وثالث مرّة عندما أتاها نبأ وفاة والدها تحت عجلات سائق أرعن تركه مضرجا بدمائه وهرب.
ألم يكن جديرا بها أن تطلق صرخة الرفض، فلتمت هي أما وحيد فلا، وها هي اليوم تشعر في أعماقها أنها قتلته، كثيرا ما فكرت في هذه اللحظة، ألم تشعر حين قابلت والدة وحيد للمرة الأولى بأنها كانت خارج الصورة، خارج المشهد حين فكرت بزيارة القرية، ألم تسقط على الأرض مغشيا عليها، ربما لم تسقط كما قال الطبيب نتيجة تأثير الحمل، ربما كان الحمل هو الصورة الضبابية غير الحقيقية، أرادت أن تصدق، أن تكون إلى جانب وحيد، أن تبني عائلة، أن تكون فردا في عائلة تحبها وتبادلها الحب بالمثل.
كثيرا ما فكرت بأن تهجر البيت، لكن إلى أين، إلى شقة شقيقتها، هي لم تعد فتاة ليل لتهرب، كثيرا أيضا ما فكرت بأن تسقط حملها، لكن كيف تفعل وهي التائبة إلى الله فهل تعود إلى معصيته، ثم أنى لها أن تسقط تلك الهدية التي تذكرها على مدار اليوم بوحيد، هل يستحق منها وحيد أن تطعنه في الصميم.
كانت الشقيقة سناء هي الملاذ، فكثيرا ما ذرفت الدموع على صدرها وهي تبوح لها بمكنوناتها.
هل أستحق وحيد، وهل من الطبيعي ما يتعرض له هذا الانسان النبيل، هل هذا هو جزاؤه؟
وماذا رأيت بعد من أهوال الدنيا وأحوالها يا حبيبتي نادين، أنت ما زلت فتاة صغيرة، لقد ذقت قبل المرارة، وعلى ذلك يجب أن تكوني قد تعلمت منها.
كيف تفكرين بإمكانية هجران وحيد الذي فتح لك القلب، بل كيف تجرئين على التفكير بإسقاط حملك وأنت العائدة إلى رحاب التوبة.
لا يا أختاه كل ما تفكرين به ليس من الصواب بشيء، لقد أحبك وحيد وأحببته أيضا، وبهذا الحب ستواجهان معا كل الصعاب والمشاكل، عليك فقط بالصبر والتروي وأن تكوني عضدا لوحيد الذي يعاني بدوره من ابتعاده عن الأهل، الحياة يا حبيبتي يوم لك وآخر عليك، وأنا سأقف إلى جانبك ما دمت حية.
كم كنت يا أختي متشوقة إلى اليوم الذي أطأ فيه أرض قرية وحيد لأقبّل ترابها، وأعتبرها قرية أهلي، أبا عن جد، كنت في حاجة إلى تلك اللحظة لأنني كنت أرى فيها أن العالم قد قبلني بعد ما مررت به. هل تدركين يا أختي كيف تكونين عندما تصبحين مرفوضة، منبوذة، مكروهة، وكأنك رائحة كريهة لا يريد أن يشمّها الناس، فيما أنت في داخلك وردة تتنسم عطرها تتطلع كي تهديه إلى الناس.
هل تعلمين يا أختاه مدى شوقي إلى قبول الآخر، أن يتقبلني الآخر وأنا حامل؟
معنى ذلك أنني أمهد لأكون أما نقية، طيبة، صالحة، لكي ينظر إليّ أبنائي على هذا النحو. لا أريد أن أكون أنا الأم العبء الذي يثقلهم، العار الذي يسعون للهروب منه.
كفى يا نادين جلدا للذات، أنا امرأة مثلك يا أختاه وأحسّ بشعور المرأة، إن ما مررت به يعاقب عليه القانون، ربما، يعاقب عليه الناس، ربما، هذا هو الظاهر، الناس يرون الظاهر لكنهم لا يغوصون في الأعماق، إن ما فعلته يا أختي تضحية كبيرة، لا أدري إن كانت هناك امرأة أخرى قد تشاطرك التجربة، لم تخافي وأنت تقدمين نفسك ضحية، كان في داخلك أمل أن يعيش والدنا، أن يبقى حيا مظلة أمان لك ولي، يا شقيقتي إن الناس يحاسبون على المظهر وكثيرون منهم ينسون أن هناك ربا رحوما عادلا منصفا يغفر الذنوب لمن يشاء.
حال أبي وحيد يسوء يوما إثر آخر، في نَفَسه كان يتنفس وحيد، كان في غاية الشوق لرؤيته، لعودته، كان يشعر في أعماقه بأنه السبب فيما آلت إليه الأمور، فلو لم يطرد ابنه في تلك الليلة لما آل الحال إلى ما وصل إليه، ربما كان فاتحه في الموضوع وربما خجل.
شيء واحد كان يستغرب منه والد وحيد، لم يشعر للحظة بشعور الكره للفتاة التي أخذت منه ابنه، ولو بذرّة من كره أو بغض، هو لا يدري لماذا استبعدها من قائمة الاتهام، بل كان في غاية الفضول لرؤيتها، ليقف على أي أثر فيها دفع ابنه للتعلق بها والزواج منها، وهو الانسان المثقف، المحامي، القاضي، الفلاح الذي يدرك قيمة العرض والأرض، لا شك أن في الامر سرا.
ويوما إثر آخر كان ذلك الشعور بالرضا يتمكن من أعماقه، الرضا بما قسمه الله له من تعب وهموم، ويوما إثر آخر كان يقترب من حافة التعافي، مواجهة اليأس ببأس.
مرّ شهر، شهران، ثلاثة، حتى شفي تماما، عاد إلى الأرض يحرثها ويزرعها، عاد إلى مبنى البلدية ولقاء الناس، لم يعد يشعر بعار كون أن ابنه تزوج ابنة ليل، لا بد من وجود سر قوي، خفي، خبأه وحيد في داخله، لا بد لهذا السر أن يضوع عطره يوما، كما فاح خبر زواج وحيد يوما على لسان واش كاره حاقد.
ووجد نفسه يطلب من أم وحيد أن تزور ابنهما.
فوجئت من طلبه، وهي التي كانت في سرها كثيرة البكاء والنواح، تتمنى لو ترى وحيد ولو من على رأس جبل، فقط ليقولوا لها أن تلك النقطة البعيدة هي وحيد.
لم تُصدّق نفسها وهي تركب السيارة في طريقها إلى بيت ابنها، هذه المرة في العلن وقد تستقر لأيام، أسبوع، المدة مفتوحة برضا أبي وحيد.
على باب البيت تكرر مشهد الزيارة الأولى، كان وحيد من فتح لها الباب، انحنى على رجليها يقبلهما، ومن ورائه كانت نادين تنتظر وقد انتفخ بطنها قليلا، نظرت إليها أم وحيد، ودون أن تشعر سارعت إلى احتضانها تاركة للدموع أن ترسم مشهد اللقاء.
على الشرفة الغربية للبيت كان موعد العشاء. كانت نادين نجمة الحديث.
لا أدري يا أم وحيد، بل يا أمي إن سمحت لي أن أخاطبك بعبارة يا أمي لماذا رأيت في وجهك وجه أمي.
يا أم وحيد، يا أمي، من حقك أن تعرفي الحقيقة وهذا هو وقت إعلان الحقيقة.
أنا فتاة بالكاد حصلت على الثانوية العامة، أنا ابنة عائلة بسيطة مستورة، كنا نعيش من راتب والدي الموظف البسيط وكنا مقتنعين، نرى الحياة جميلة، نرى أن الغنى هو غنى النفس وليس غنى المال، إلى أن أتى يوم مرضت والدتي، ووجدتنا لم نتمكن من شراء الدواء، على صدري لفظت أنفاسها الأخيرة، وعندما رحلت شعرت بطعم اليتم.
سعيت وأختي الكبرى بعد أن تقاعد الوالد خصوصا إلى أن نعمل، شقيقتي في صالون تجميل للنساء وأنا في محل لبيع الألبسة، وكنا مسرورين، سعداء.
ومرض والدي يا أمي، ومررنا بالظروف نفسها التي مررنا بها حين مرضت والدتي، ولم نجد ما يكفي من مال لإدخال والدنا المستشفى، كانت حياته معلقة على إجراء عملية جراحية كلفتها أكثر بكثير مما نملك وما يمكن أن نوفره من راتبينا، شقيقتي وأنا، كنت أخاف من أن أفقده كما فقدت أمي، كنت أخشى اليتم للمرة الثانية، ولم يكن أمامي طريق لجمع المال إلا ذلك الطريق الذي سلكته، فقررت أن أموت ليعيش هو، كنت ميتة يا أمي، لكنني كنت سعيدة وأنا أقترب من جمع المال اللازم، أجرى العملية ونجحت، كان ذلك بالنسبة لي حلما وأملا، خلعت عن جسدي ثوب العار، وإن كنت أشعر بأنني ميتة، خبأت سرّي في داخلي وأقفلت عليه بألف مفتاح، وسلكت درب التوبة وأنا مؤمنة برب رحيم غفور.
يوما أتاني الخبر، لقد رحل والدي تحت عجلات سيارة سائق متهور أرعن، فرّ دون أن يلقي بالا للعجوز الملقى تحت العجلات وقد غطّته الدماء، ومن ثم شاع السر، لا أعرف ممن، دفعت الثمن طعنا في كرامتي من كثير من الناس، بالكاد تمكنا أختي وأنا أن نحتفظ بإمكانية العيش في شقتنا المتواضعة، إلى أن ظهر وحيد في حياتي..
لا تكملي يا ابنتي، تعالي إلى صدر أمك، جدة أبنائك، يكفيك ماعانيت، ما ذرفت من دموع، لا دموع بعد اليوم إلا دموع الفرح.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي