قهر الرجال البارت الخامس عشر
"قهر الرجال" "البارت الخامس عشر"
يعيش الإنسان في الدنيا يسعى خلف ملذاته وإحتياجاته بالإضافة للنظر إلى عورات الآخرين!
ليست عوراتهم بالمعنى اللفظي وإنما يسعى لمعرفة نقاط ضعفهم حتى إذا كان بحاجة لاستغلالها ضدهم!
يفني المرء عمره دون أن يدرك حقيقة الدنيا، يتجاهل الآخرة ولا يسعى للفوز بها، فقط يعمل جاهداً للحصول على كل ما يريد ولا يأبه بالآخرين إن كان ذلك سيؤذيهم أم لا!
لم تستغرق الشرطة وقت كبير حتى صارت تحاصر المكان من جميع الإتجاهات
كانوا عناصر الشرطة يبعدوا الناس عن البحيرة كي يتمكنوا من إخراج الجثة
ما إن أخرجوها ووضعوها أرضاً حتى دعوا الطبيب الشرعي كي يفحصها
إقتربت السيدة سميرة كي ترى عامر فردعها أحد عناصر الشرطة
نظرت إليه السيدة سميرة وقالت ببكاء:
_أرجوك يا بني، إنه زوجي دعني أراه أرجوك
تنهد الشرطي وقال بنبرة رسمية بحتة:
_سيدتي لا يمكنني السماح لكِ بالإقتراب أكثر
تنهدت السيدة سميرة وانتظرت حتى غفل عنها ذلك الشرطي ومرت بجانبه دون أن ينتبه لها
إقتربت السيدة سميرة من جثمان عامر وجلست على مقربة منه دون أن ينتبه إليها أحد فالجميع منشغل بعمله، كانت ترمقه بجمود دون أن تحرك ساكناً، كانت تود أن تهتف بسعادة عارمة كأهل البلاد المحتلة حينما يأتيهم النصر! لكنها آثرت الصمت كي لا تثير الشكوك حولها!
قام الطبيب الشرعي بإزالة الشريط اللاصق عن فم عامر وقام بفتح فمه كي يفحصه لكنه فوجيء بوجود قمعة من القماش فسرعان ما أخرجها
تمكنت السيدة سميرة من رؤية قطعة القماش وقد أثار ذلك إعجابها كثيراً حتى أنها همست تحدث نفسها قائلةً:
_يا لكِ من فتاة!، جعلتيه يعاني ما كابدته أنا طوال عشرون عاماً!
إلتفت الطبيب الشرعي نحو الضابط وقال:
_أثار الحروق التي تملأ جسده هذه ليست بسبب نيران أو ما شابه إنه الأسيد
جحظت عيني الضابط وقال بتساؤل:
_مظهره بشع للغاية، أشعر بالغثيان، ماذا تظن أيها الطبيب؟ هذه جريمة قتل أليس كذلك؟
أومأ الطبيب برأسه قائلاً:
_ومع سبق الإصرار والترصد يا سيدي
زفر الضابط بقوة وقال:
_ومن الذي سيفعل ذلك بأحد عناصر الشرطة؟!
قال الطبيب بنبرة هادئة:
_أظن أنه عليك التحقيق مع دائرة أقاربه، ربما يعلمون شيئاً!
تم وضع جثمان عامر في سيارة الإسعاف كي يتم نقله إلى المشرحة وغادرت سيارات الشرطة وبدأ الناس في الإنتشار، كل منهم ذهب ليمارس حياته وكأنه شيء لم يكن!
تم إستدعاء السيدة سميرة مرة أخرى كي يتم التحقيق معها وكذلك المرأة التي رأت الجثة في البحيرة وبعض سكان المنطقة ومن بينهم كان إيهاب!
على بُعد بضعة أمتار من المنطقة كانت هناك سيارة تخص أحد الرجال الذين يعملون لدى ملاذ، كان بداخلها رجل يراقب كل ما حدث وما إن ذهب الجميع حتى قام بإرسال رسالة نصية إلى ملاذ تنص على:
_"كل شيء سار كما أردتِ سيدتي، تم العثور على الجثة والتحقيقات تجري الآن مع سكان المنطقة"
...
على صعيد آخر كانت ملاذ غارقة في النوم بينما كانت جالسة أرضاً منذ ليلة أمس
إستيقظت على صوت رنين هاتف المنزل فسرعان ما هرعت إليه بيدين ترتجف، فقد فكرت في أن والدها أخبر الشرطة أو مشفى الأمراض العقلية!
جمعت ملاذ رباطة جأشها وأمسكت بسماعة الهاتف وضعتها فوق أذنها دون أن تتفوه بكلمة واحدة فجاء صوت شخص ما يقول:
_هل هذا منزل السيدة ملاذ؟!
تنهدت ملاذ بقوة ثم قالت بجمود مصطنع:
_أجل تفضل
فسرعان ما قال ذلك الشخص:
_هل يمكنكِ أن تأتي إلى العنوان الذي سأمليه عليكِ الآن؟
ضمت ملاذ حاجبيها بتعجب قائلةً:
_ماذا؟ من أنت؟! ولمَ تريدني أن آتِ إليك؟!
تجاهل ذلك الشخص أسئلتها وقال بنبرة يملؤها الجمود والرسمية:
_من الضروري أن تأتي سيدتي
أملى عليها ذلك الشخص العنوان ومن ثَم أنهى المكالمة بعدما حثّها على أن تسرع!
قامت ملاذ بتبديل ثيابها على وجه السرعة وخرجت من المنزل بأسرع ما يمكنها وصعدت إلى سيارتها وأدارت محركها بأيدي مرتجفة!
مر الوقت ببطء شديد أو هذا ما كانت تظنه ملاذ، لكن الحقيقة أنها كانت تريد أن تصل إلى العنوان في غضون بضعة دقائق فقط وهذا ما جعله تظن أن الوقت لا يمر!
بعد مرور بعض الوقت توقفت سيارة ملاذ في العنوان تحديداً، كان ذلك المكان ما هو إلا غابة على الطريق السريع!
هبطت ملاذ من سيارتها وسارت بضع خطوات لكنها فوجئت بوجود سيارة إسعاف وسيارة شرطة بالقرب من تلك الغابة؟!
إقترب شخص ما من ملاذ وقال بنبرة جادة:
_أنتِ السيدة ملاذ أليس كذلك؟
أومأت ملاذ برأسها دون أن تذعن فقال ذلك الشخص:
_لم أكن أود ذلك لكن لا بد من أن تلقي نظرة
ضمت ملاذ حاجبيها بتعجب وقد تسلل الرعب إلى قلبها قائلةً:
_ماذا تعني؟ أنت من تحدث إليّ عبر الهاتف أليس كذلك؟ أرجوك أخبرني ما الأمر!؟
أشار إليها ذلك الشاب نحو سيارة الإسعاف قائلاً:
_هناك
ضمت ملاذ حاجبيها أكثر فقد إزدادت حيرتها لكنها تقدمت نحو سيارة الإسعاف، لم تكن تعلم لمَ خارت قواها فجأة لكنها ما إن ألقت نظرة بداخل سيارة الإسعاف حتى علمت السبب
شهقت ملاذ بفزع قائلةً ببكاء:
_أبي!!
كان والدها بداخل سيارة الإسعاف ملقى دون أن يحرك ساكناً! كان وجهه ورأسه ملطخة بالدماء! لم يكن يتنفس! كان صدره ثابت دون أن يعلو ويهبط كعادته!
نظرت ملاذ نحو الشاب وأمسكت بياقة قميصه وقالت بنبرة حادة يملؤها الفزع والبكاء:
_ما الذي حدث؟ ما الذي أصاب والدي؟ ماذا به؟
كان الشاب مدرك الحالة التي اكتنفتها لذلك لم يتفوه بكلمة واحدة فقط حاول أن يهديء من روعها وقال:
_لقد تعرض لحادث أليم ليلة أمس، لولا أن مر شخص ما من هذا الطريق لم نكن لنعلم بأمره، هو الآن بحاجة إلى دعاؤك
كانت ملاذ ممسكة بالشاب بقوة وما إن قال كلمته الأخيرة حتى دفعته بقوة بعيداً عنها ثم التفتت نحو والدها وصعدت إلى سيارة الإسعاف وجلست بجانبه
كانت تحدق به في ذهول! أمسكت بيده وقبّلتها بقوة وقالت بينما كانت تمرر يدها فوق وجهه برفق:
_أبي! لماذا؟ لا أرجوك، لا تفعل ذلك، لا تذهب هكذا، أنت غاضب مني أعلم ذلك، هيا انهض وأعدك أنني سأفعل كل ما تريد، لكن لا تتركني هكذا
شهقت ملاذ بالبكاء وأردفت بقولها بعدما وضعت رأسها فوق صدره:
_أبي، لا يمكنني تحمل رحيلك، أرجوك لا تفعل ذلك، لم يكن لدي سواك!
لم تستطع ملاذ أن تتفوه بكلمة أخرى فقط كانت تدرك ما الذي يحدث!
إعتدلت ملاذ يحنما تذكرت الحديث الذي دار بينهما قبل ساعات وأنه ذهب مغاضباً من منزلها
شهقت ملاذ بفزع وبكاء بعد أن وضعت يدها فوق فمها كي تكتم شهقاتها
نظرت ملاذ نحو والدها وقالت بصوت حانق:
_لقد ذهبت وأنت غاضب مني يا أبي! قضيت نحبك دون أن تسامحني أن تعفو عني؟!
لوّحت ملاذ برأسها يميناً ويساراً بفزع وقال:
_لا، أرجوك
كانت تتأمل وجهه بوداع فهي لن تراه مرة أخرى وهذا ما جعل هناك غضة في قلبها جعلتها تشعر وكأنه سيتوقف عن الخفقان لكنه لك يفعل!
كان وجهه ساكن، تلاشت منه التجاعيد وآثار تقدم العمر، فعلى الرغم من أنه كان ملطخ بالدماء إلا أنه كان خالي من كل ذلك!
كانت تتذكر تعبيرات وجهه كيف كانت تبدو حينما يغضب ويحزن ويضحك ويمزح! لا تصدق بعد أنها لن تراه مرة أخرى، إنه لأمر شاق على النفس أن تصدقه ولو بعد حين!
تذكرت أيضاً كيف كان يعتني بها منذ نعومة أظفارها حتى حينما توفت والدتها تكبد عناء تربيتها بمفرده، كان يهتم بها بقدر المستطاع لكي لا يُشعرها بغياب والدتها، كان يقوم بدوره كأب وكأم أيضاً
إنتبهت ملاذ من شرودها على صوت الشاب وهو يتحدث إلى شخص ما خارج سيارة الإسعاف بينما كان يقول:
_لا أعلم، لكني لا أظنها ستود رؤية ذلك
خرجت ملاذ من السيارة وقالت بوجه مليء بالدموع:
_عن ماذا تتحدث؟
تنهد الشاب قائلاً:
_في الغابة، سيارة والدكِ..
إقتضبت ملاذ حديثه واتجهت نحو الغابة فسرعان ما لحق بها الشاب كي يدلها على مكان السيارة
سار الشاب ومن خلفه ملاذ التي كانت تسير دون أن تدري بشيء وكأنها آلة أو روبوت! فقط تسير غير مدركة للأمر بعد!
توقف الشاب أمام السيارة قائلاً بحزن:
_ها هي
إقتربت ملاذ من السيارة فوجدت مقدمتها محطمة بالكامل، مظهر السيارة ذكرها بسيارة صهيب حينما جعلتها تصدم في شجرة ثم جعلت رجالها يلقونها في البحر!
إقتربت ملاذ من السيارة ومررت يدها فوقها برفق وهمست بقولها:
_لقد تألمت كثيراً يا أبي؟ ليتني مِتُّ قبل هذا، ليتني كنت بدلاً منك يا أبي
ربت الشاب فوق كتفها قائلاً:
_على ما أظن أن والدكِ كان يقود السيارة وهو في حالة من الغضب لأنه يصعب أن تنحدر أي سيارة هكذا سوى حينما يفقد السائق سيطرته على السيارة أو إن كان يقود وهو شارد التفكير!
كان وقع كلمات هذا الشاب على مسامع ملاذ كقاذفان الهون، فقد أدركت أن ما حدث لوالدها هي من تسببت به! فلولاها لما كان حدث كل ذلك!
أبَت ملاذ أن يذهب والدها إلى المشرحة وآثرت أن يتم دفنه في أسرع وقت فإكرام الميت دفنه وما إن تم ذلك حتى أقامت العزاء في منزلها
إمتلأ المنزل بالكثير والكثير من الناس رجال ونساء وشباب وشابات حتى أن العزاء لم يخلو من الأطفال، فقد كان والدها شخص هيّن ليّن رقيق القلب، كان يسعى لإسعاد الجميع ولمساعدتهم، كان يأمل أن يعم الخير على الجميع هذا ما دفع الكثير والكثير من الناس لحضور عزائه
كانت ملاذ تقف بمفردها بالقرب من باب منزلها تتلقى العزاء من الناس
كانت شاردة فقط تردد جملة "شكر الله سعيكم_ سبحان من له البقاء" دون أن تكترث من أتى ومن لم يأتي لكنها فوجئت حينما قال آسر بنبرة يكسوها الحزن:
_البقاء لله يا ملاذ
نظرت إليه ملاذ ببكاء وقالت بصوت حانق:
_سبحان من له البقاء
لم يُرد آسر أن يتركها، كان يود أن يقف بجانبها لكي لا تبقى بمفردها فقال بنبرة هادئة:
_أنا هنا بجانبكِ يا ملاذ، لن أترككِ
أومأت ملاذ برأسها دون أن تتفوه بكلمة فهي تعلم أن هذه الكلمات تُقال كثيراً في مثل هذه الأثناء! لكن آسر لم يقولها كترديد فقط وإنما كان يعني كل كلمة قالها وبالفعل وقف بجانبها وسار يتلقى العزاء أيضاً
كان آسر يختلس النظر نحو ملاذ يتأملها، فعلى الرغم من خساراتها التي تقصف ظهر أي شخص على وجه الأرض إلا أنها لا تزال تقف شامخة دون أن تثنِ أو تضعف
يعلم آسر أن الحزن تكدس في قلبها ولن يستمر هذا الثبات طويلاً بالتأكيد سيأتي وقت وستأذن لتلك الأحزان بالإندلاع وحينها ستكون تحديداً كالنيران التي تأكل كل ما يجابهها، حتى وإن لم تفعل ملاذ ذلك فالأمر خارج عن سيطرة المرء، هو شيء لا بد منه لا شأن للإنسان فيه!
كان آسر يرمقها بحزن وكم كان يأمل أن يضمها إلى صدره بقوة ويخبرها أنه سيظل بجانبها دائماً وسيبذل قصارى جهده كي لا يقترب منها الحزن ثانيةً بل سيقف كحاجز منيع بينهما، فهو على أتم الإستعداد حتى يفني عمره فداء إبتسامتها!
لم تكن ملاذ تنظر إلى أوجه الناس إلا أنها فوجئت حينما رأت جنات بمحض الصدفة!
ضمت ملاذ حاجبيها بتعجب بينما كانت ملاذ تقف على بُعد بضعة أمتار منها
كانت جنات ترمقها بنظرات غامضة عملت جاهدة على أن تبدو نظراتها حزينة كي تليق مع الرداء الأسود التي ارتدته
شردت جنات في تذكر ما حدث ليلة أمس وتحديداً عند منتصف الليل
قررت جنات حينئذ أن تنتقم من ملاذ لأنها أفسدت خطتها في الإحتيال على إياد!
إستقلت جنات سيارتها وذهبت إلى منزل ملاذ وقبل أن تهبط من السيارة رأت والد ملاذ خارج من المنزل ويبدو عليه الغضب، لم تكن جنات تعرفه لكنها استنتجت أنه يكون والد ملاذ من وجه التشابه بينهما!
أرادت جنات أن تهبط من السيارة وتذهب إلى ملاذ وتنتقم منها لكن سوّلت لها نفسها بأمر ما، تبسمت حينها جنات بخبث وقال بنبرة خافتة:
_الإنتقام لا يكون إنتقام إلا إذا أذقت عدوّك مرارة الفُقد
إتسعت إبتسامة جنات وسرعان ما أدارت محرك سيارتها وتتبعت والد ملاذ، وما إن اقترب من الطريق الذي تقبع الغابة في أحد جانبيه حتى صارت تحاصره وتصدمه عن عمد حتى جعلته يفقد السيطرة على سيارته وانحدر داخل الغابة ثم اصطدم في الشجرة
كان اصطدام السيارة قوياً للحد الذي تسبب في تهشيم زجاج مقدمة السيارة وقد تسببت القطع الصغيرة منه في بعض الجروح والنتوء في جسد والد ملاذ وخاصةً وجهه!
كان والد ملاذ يشعر بالدوار إثر الحادث والألم إثر قطع الزجاج التي اخترقت وجهه وبعض الأماكن في جسده
هبط والد ملاذ بصعوبة شديدة من السيارة، لم يستمكن من الوقوف فسقط أرضاً من ششدة الدوار
أخرج هاتفه من جيب معطفه وقام بالإتصال بملاذ لكن من سوء حظه أن هاتفها كان مغلق! فقرر أن يرسل إليها بريد صوتي علّها تعيد تشغيل الهاتف، إستمع إلى الصافرة ثم قال بصوت متهدج:
_ملاذ، ابنتي ساعديني لقد تعرضت إلى حادث أشعر أنني أحتضر..
إقتضب والدها حديثه حينما رأى فتاة ما تقترب منه باسمة الثغر قائلةً:
_ابنتك لن تأتي، ليس هناك شخص سواي
فسرعان ما قال والد ملاذ بنبرة لاهثة:
_ساعديني أرجوكِ
اتسعت ابتسامة جنات لرؤيتها إياه يرجوها ان تساعده
كادت أن تتحدث لولا أن رأت الهاتف في يده، كان يضغط على شاشته فسرعان ما انتشلته من يده وألقته أرضاً ثم حطّمته بقدم حذائها وصاحت في وجهه قائلةً:
_ابنتك لن تأتي، وإن أتت ستكون قد فارقت الحياة!
فقال والد ملاذ بنبرة متحشرجة:
_أرجوكِ ساعديني، وما إن أستعيد عافيتي ستحصلين على مبلغ ضخم من المال، فقط أرجوكِ ساعديني، لا يمكنني التنفس، أشعر أنني أختنق
ما إن أخبرها والد ملاذ بما يشعر حتى تعالت قهقهاتها بسعادة عارمة وقالت:
_لا يمكنك تخيل كم تُشعرني معاناتك بالسعادة! الأمر يثلج قلبي بلطف!.
يعيش الإنسان في الدنيا يسعى خلف ملذاته وإحتياجاته بالإضافة للنظر إلى عورات الآخرين!
ليست عوراتهم بالمعنى اللفظي وإنما يسعى لمعرفة نقاط ضعفهم حتى إذا كان بحاجة لاستغلالها ضدهم!
يفني المرء عمره دون أن يدرك حقيقة الدنيا، يتجاهل الآخرة ولا يسعى للفوز بها، فقط يعمل جاهداً للحصول على كل ما يريد ولا يأبه بالآخرين إن كان ذلك سيؤذيهم أم لا!
لم تستغرق الشرطة وقت كبير حتى صارت تحاصر المكان من جميع الإتجاهات
كانوا عناصر الشرطة يبعدوا الناس عن البحيرة كي يتمكنوا من إخراج الجثة
ما إن أخرجوها ووضعوها أرضاً حتى دعوا الطبيب الشرعي كي يفحصها
إقتربت السيدة سميرة كي ترى عامر فردعها أحد عناصر الشرطة
نظرت إليه السيدة سميرة وقالت ببكاء:
_أرجوك يا بني، إنه زوجي دعني أراه أرجوك
تنهد الشرطي وقال بنبرة رسمية بحتة:
_سيدتي لا يمكنني السماح لكِ بالإقتراب أكثر
تنهدت السيدة سميرة وانتظرت حتى غفل عنها ذلك الشرطي ومرت بجانبه دون أن ينتبه لها
إقتربت السيدة سميرة من جثمان عامر وجلست على مقربة منه دون أن ينتبه إليها أحد فالجميع منشغل بعمله، كانت ترمقه بجمود دون أن تحرك ساكناً، كانت تود أن تهتف بسعادة عارمة كأهل البلاد المحتلة حينما يأتيهم النصر! لكنها آثرت الصمت كي لا تثير الشكوك حولها!
قام الطبيب الشرعي بإزالة الشريط اللاصق عن فم عامر وقام بفتح فمه كي يفحصه لكنه فوجيء بوجود قمعة من القماش فسرعان ما أخرجها
تمكنت السيدة سميرة من رؤية قطعة القماش وقد أثار ذلك إعجابها كثيراً حتى أنها همست تحدث نفسها قائلةً:
_يا لكِ من فتاة!، جعلتيه يعاني ما كابدته أنا طوال عشرون عاماً!
إلتفت الطبيب الشرعي نحو الضابط وقال:
_أثار الحروق التي تملأ جسده هذه ليست بسبب نيران أو ما شابه إنه الأسيد
جحظت عيني الضابط وقال بتساؤل:
_مظهره بشع للغاية، أشعر بالغثيان، ماذا تظن أيها الطبيب؟ هذه جريمة قتل أليس كذلك؟
أومأ الطبيب برأسه قائلاً:
_ومع سبق الإصرار والترصد يا سيدي
زفر الضابط بقوة وقال:
_ومن الذي سيفعل ذلك بأحد عناصر الشرطة؟!
قال الطبيب بنبرة هادئة:
_أظن أنه عليك التحقيق مع دائرة أقاربه، ربما يعلمون شيئاً!
تم وضع جثمان عامر في سيارة الإسعاف كي يتم نقله إلى المشرحة وغادرت سيارات الشرطة وبدأ الناس في الإنتشار، كل منهم ذهب ليمارس حياته وكأنه شيء لم يكن!
تم إستدعاء السيدة سميرة مرة أخرى كي يتم التحقيق معها وكذلك المرأة التي رأت الجثة في البحيرة وبعض سكان المنطقة ومن بينهم كان إيهاب!
على بُعد بضعة أمتار من المنطقة كانت هناك سيارة تخص أحد الرجال الذين يعملون لدى ملاذ، كان بداخلها رجل يراقب كل ما حدث وما إن ذهب الجميع حتى قام بإرسال رسالة نصية إلى ملاذ تنص على:
_"كل شيء سار كما أردتِ سيدتي، تم العثور على الجثة والتحقيقات تجري الآن مع سكان المنطقة"
...
على صعيد آخر كانت ملاذ غارقة في النوم بينما كانت جالسة أرضاً منذ ليلة أمس
إستيقظت على صوت رنين هاتف المنزل فسرعان ما هرعت إليه بيدين ترتجف، فقد فكرت في أن والدها أخبر الشرطة أو مشفى الأمراض العقلية!
جمعت ملاذ رباطة جأشها وأمسكت بسماعة الهاتف وضعتها فوق أذنها دون أن تتفوه بكلمة واحدة فجاء صوت شخص ما يقول:
_هل هذا منزل السيدة ملاذ؟!
تنهدت ملاذ بقوة ثم قالت بجمود مصطنع:
_أجل تفضل
فسرعان ما قال ذلك الشخص:
_هل يمكنكِ أن تأتي إلى العنوان الذي سأمليه عليكِ الآن؟
ضمت ملاذ حاجبيها بتعجب قائلةً:
_ماذا؟ من أنت؟! ولمَ تريدني أن آتِ إليك؟!
تجاهل ذلك الشخص أسئلتها وقال بنبرة يملؤها الجمود والرسمية:
_من الضروري أن تأتي سيدتي
أملى عليها ذلك الشخص العنوان ومن ثَم أنهى المكالمة بعدما حثّها على أن تسرع!
قامت ملاذ بتبديل ثيابها على وجه السرعة وخرجت من المنزل بأسرع ما يمكنها وصعدت إلى سيارتها وأدارت محركها بأيدي مرتجفة!
مر الوقت ببطء شديد أو هذا ما كانت تظنه ملاذ، لكن الحقيقة أنها كانت تريد أن تصل إلى العنوان في غضون بضعة دقائق فقط وهذا ما جعله تظن أن الوقت لا يمر!
بعد مرور بعض الوقت توقفت سيارة ملاذ في العنوان تحديداً، كان ذلك المكان ما هو إلا غابة على الطريق السريع!
هبطت ملاذ من سيارتها وسارت بضع خطوات لكنها فوجئت بوجود سيارة إسعاف وسيارة شرطة بالقرب من تلك الغابة؟!
إقترب شخص ما من ملاذ وقال بنبرة جادة:
_أنتِ السيدة ملاذ أليس كذلك؟
أومأت ملاذ برأسها دون أن تذعن فقال ذلك الشخص:
_لم أكن أود ذلك لكن لا بد من أن تلقي نظرة
ضمت ملاذ حاجبيها بتعجب وقد تسلل الرعب إلى قلبها قائلةً:
_ماذا تعني؟ أنت من تحدث إليّ عبر الهاتف أليس كذلك؟ أرجوك أخبرني ما الأمر!؟
أشار إليها ذلك الشاب نحو سيارة الإسعاف قائلاً:
_هناك
ضمت ملاذ حاجبيها أكثر فقد إزدادت حيرتها لكنها تقدمت نحو سيارة الإسعاف، لم تكن تعلم لمَ خارت قواها فجأة لكنها ما إن ألقت نظرة بداخل سيارة الإسعاف حتى علمت السبب
شهقت ملاذ بفزع قائلةً ببكاء:
_أبي!!
كان والدها بداخل سيارة الإسعاف ملقى دون أن يحرك ساكناً! كان وجهه ورأسه ملطخة بالدماء! لم يكن يتنفس! كان صدره ثابت دون أن يعلو ويهبط كعادته!
نظرت ملاذ نحو الشاب وأمسكت بياقة قميصه وقالت بنبرة حادة يملؤها الفزع والبكاء:
_ما الذي حدث؟ ما الذي أصاب والدي؟ ماذا به؟
كان الشاب مدرك الحالة التي اكتنفتها لذلك لم يتفوه بكلمة واحدة فقط حاول أن يهديء من روعها وقال:
_لقد تعرض لحادث أليم ليلة أمس، لولا أن مر شخص ما من هذا الطريق لم نكن لنعلم بأمره، هو الآن بحاجة إلى دعاؤك
كانت ملاذ ممسكة بالشاب بقوة وما إن قال كلمته الأخيرة حتى دفعته بقوة بعيداً عنها ثم التفتت نحو والدها وصعدت إلى سيارة الإسعاف وجلست بجانبه
كانت تحدق به في ذهول! أمسكت بيده وقبّلتها بقوة وقالت بينما كانت تمرر يدها فوق وجهه برفق:
_أبي! لماذا؟ لا أرجوك، لا تفعل ذلك، لا تذهب هكذا، أنت غاضب مني أعلم ذلك، هيا انهض وأعدك أنني سأفعل كل ما تريد، لكن لا تتركني هكذا
شهقت ملاذ بالبكاء وأردفت بقولها بعدما وضعت رأسها فوق صدره:
_أبي، لا يمكنني تحمل رحيلك، أرجوك لا تفعل ذلك، لم يكن لدي سواك!
لم تستطع ملاذ أن تتفوه بكلمة أخرى فقط كانت تدرك ما الذي يحدث!
إعتدلت ملاذ يحنما تذكرت الحديث الذي دار بينهما قبل ساعات وأنه ذهب مغاضباً من منزلها
شهقت ملاذ بفزع وبكاء بعد أن وضعت يدها فوق فمها كي تكتم شهقاتها
نظرت ملاذ نحو والدها وقالت بصوت حانق:
_لقد ذهبت وأنت غاضب مني يا أبي! قضيت نحبك دون أن تسامحني أن تعفو عني؟!
لوّحت ملاذ برأسها يميناً ويساراً بفزع وقال:
_لا، أرجوك
كانت تتأمل وجهه بوداع فهي لن تراه مرة أخرى وهذا ما جعل هناك غضة في قلبها جعلتها تشعر وكأنه سيتوقف عن الخفقان لكنه لك يفعل!
كان وجهه ساكن، تلاشت منه التجاعيد وآثار تقدم العمر، فعلى الرغم من أنه كان ملطخ بالدماء إلا أنه كان خالي من كل ذلك!
كانت تتذكر تعبيرات وجهه كيف كانت تبدو حينما يغضب ويحزن ويضحك ويمزح! لا تصدق بعد أنها لن تراه مرة أخرى، إنه لأمر شاق على النفس أن تصدقه ولو بعد حين!
تذكرت أيضاً كيف كان يعتني بها منذ نعومة أظفارها حتى حينما توفت والدتها تكبد عناء تربيتها بمفرده، كان يهتم بها بقدر المستطاع لكي لا يُشعرها بغياب والدتها، كان يقوم بدوره كأب وكأم أيضاً
إنتبهت ملاذ من شرودها على صوت الشاب وهو يتحدث إلى شخص ما خارج سيارة الإسعاف بينما كان يقول:
_لا أعلم، لكني لا أظنها ستود رؤية ذلك
خرجت ملاذ من السيارة وقالت بوجه مليء بالدموع:
_عن ماذا تتحدث؟
تنهد الشاب قائلاً:
_في الغابة، سيارة والدكِ..
إقتضبت ملاذ حديثه واتجهت نحو الغابة فسرعان ما لحق بها الشاب كي يدلها على مكان السيارة
سار الشاب ومن خلفه ملاذ التي كانت تسير دون أن تدري بشيء وكأنها آلة أو روبوت! فقط تسير غير مدركة للأمر بعد!
توقف الشاب أمام السيارة قائلاً بحزن:
_ها هي
إقتربت ملاذ من السيارة فوجدت مقدمتها محطمة بالكامل، مظهر السيارة ذكرها بسيارة صهيب حينما جعلتها تصدم في شجرة ثم جعلت رجالها يلقونها في البحر!
إقتربت ملاذ من السيارة ومررت يدها فوقها برفق وهمست بقولها:
_لقد تألمت كثيراً يا أبي؟ ليتني مِتُّ قبل هذا، ليتني كنت بدلاً منك يا أبي
ربت الشاب فوق كتفها قائلاً:
_على ما أظن أن والدكِ كان يقود السيارة وهو في حالة من الغضب لأنه يصعب أن تنحدر أي سيارة هكذا سوى حينما يفقد السائق سيطرته على السيارة أو إن كان يقود وهو شارد التفكير!
كان وقع كلمات هذا الشاب على مسامع ملاذ كقاذفان الهون، فقد أدركت أن ما حدث لوالدها هي من تسببت به! فلولاها لما كان حدث كل ذلك!
أبَت ملاذ أن يذهب والدها إلى المشرحة وآثرت أن يتم دفنه في أسرع وقت فإكرام الميت دفنه وما إن تم ذلك حتى أقامت العزاء في منزلها
إمتلأ المنزل بالكثير والكثير من الناس رجال ونساء وشباب وشابات حتى أن العزاء لم يخلو من الأطفال، فقد كان والدها شخص هيّن ليّن رقيق القلب، كان يسعى لإسعاد الجميع ولمساعدتهم، كان يأمل أن يعم الخير على الجميع هذا ما دفع الكثير والكثير من الناس لحضور عزائه
كانت ملاذ تقف بمفردها بالقرب من باب منزلها تتلقى العزاء من الناس
كانت شاردة فقط تردد جملة "شكر الله سعيكم_ سبحان من له البقاء" دون أن تكترث من أتى ومن لم يأتي لكنها فوجئت حينما قال آسر بنبرة يكسوها الحزن:
_البقاء لله يا ملاذ
نظرت إليه ملاذ ببكاء وقالت بصوت حانق:
_سبحان من له البقاء
لم يُرد آسر أن يتركها، كان يود أن يقف بجانبها لكي لا تبقى بمفردها فقال بنبرة هادئة:
_أنا هنا بجانبكِ يا ملاذ، لن أترككِ
أومأت ملاذ برأسها دون أن تتفوه بكلمة فهي تعلم أن هذه الكلمات تُقال كثيراً في مثل هذه الأثناء! لكن آسر لم يقولها كترديد فقط وإنما كان يعني كل كلمة قالها وبالفعل وقف بجانبها وسار يتلقى العزاء أيضاً
كان آسر يختلس النظر نحو ملاذ يتأملها، فعلى الرغم من خساراتها التي تقصف ظهر أي شخص على وجه الأرض إلا أنها لا تزال تقف شامخة دون أن تثنِ أو تضعف
يعلم آسر أن الحزن تكدس في قلبها ولن يستمر هذا الثبات طويلاً بالتأكيد سيأتي وقت وستأذن لتلك الأحزان بالإندلاع وحينها ستكون تحديداً كالنيران التي تأكل كل ما يجابهها، حتى وإن لم تفعل ملاذ ذلك فالأمر خارج عن سيطرة المرء، هو شيء لا بد منه لا شأن للإنسان فيه!
كان آسر يرمقها بحزن وكم كان يأمل أن يضمها إلى صدره بقوة ويخبرها أنه سيظل بجانبها دائماً وسيبذل قصارى جهده كي لا يقترب منها الحزن ثانيةً بل سيقف كحاجز منيع بينهما، فهو على أتم الإستعداد حتى يفني عمره فداء إبتسامتها!
لم تكن ملاذ تنظر إلى أوجه الناس إلا أنها فوجئت حينما رأت جنات بمحض الصدفة!
ضمت ملاذ حاجبيها بتعجب بينما كانت ملاذ تقف على بُعد بضعة أمتار منها
كانت جنات ترمقها بنظرات غامضة عملت جاهدة على أن تبدو نظراتها حزينة كي تليق مع الرداء الأسود التي ارتدته
شردت جنات في تذكر ما حدث ليلة أمس وتحديداً عند منتصف الليل
قررت جنات حينئذ أن تنتقم من ملاذ لأنها أفسدت خطتها في الإحتيال على إياد!
إستقلت جنات سيارتها وذهبت إلى منزل ملاذ وقبل أن تهبط من السيارة رأت والد ملاذ خارج من المنزل ويبدو عليه الغضب، لم تكن جنات تعرفه لكنها استنتجت أنه يكون والد ملاذ من وجه التشابه بينهما!
أرادت جنات أن تهبط من السيارة وتذهب إلى ملاذ وتنتقم منها لكن سوّلت لها نفسها بأمر ما، تبسمت حينها جنات بخبث وقال بنبرة خافتة:
_الإنتقام لا يكون إنتقام إلا إذا أذقت عدوّك مرارة الفُقد
إتسعت إبتسامة جنات وسرعان ما أدارت محرك سيارتها وتتبعت والد ملاذ، وما إن اقترب من الطريق الذي تقبع الغابة في أحد جانبيه حتى صارت تحاصره وتصدمه عن عمد حتى جعلته يفقد السيطرة على سيارته وانحدر داخل الغابة ثم اصطدم في الشجرة
كان اصطدام السيارة قوياً للحد الذي تسبب في تهشيم زجاج مقدمة السيارة وقد تسببت القطع الصغيرة منه في بعض الجروح والنتوء في جسد والد ملاذ وخاصةً وجهه!
كان والد ملاذ يشعر بالدوار إثر الحادث والألم إثر قطع الزجاج التي اخترقت وجهه وبعض الأماكن في جسده
هبط والد ملاذ بصعوبة شديدة من السيارة، لم يستمكن من الوقوف فسقط أرضاً من ششدة الدوار
أخرج هاتفه من جيب معطفه وقام بالإتصال بملاذ لكن من سوء حظه أن هاتفها كان مغلق! فقرر أن يرسل إليها بريد صوتي علّها تعيد تشغيل الهاتف، إستمع إلى الصافرة ثم قال بصوت متهدج:
_ملاذ، ابنتي ساعديني لقد تعرضت إلى حادث أشعر أنني أحتضر..
إقتضب والدها حديثه حينما رأى فتاة ما تقترب منه باسمة الثغر قائلةً:
_ابنتك لن تأتي، ليس هناك شخص سواي
فسرعان ما قال والد ملاذ بنبرة لاهثة:
_ساعديني أرجوكِ
اتسعت ابتسامة جنات لرؤيتها إياه يرجوها ان تساعده
كادت أن تتحدث لولا أن رأت الهاتف في يده، كان يضغط على شاشته فسرعان ما انتشلته من يده وألقته أرضاً ثم حطّمته بقدم حذائها وصاحت في وجهه قائلةً:
_ابنتك لن تأتي، وإن أتت ستكون قد فارقت الحياة!
فقال والد ملاذ بنبرة متحشرجة:
_أرجوكِ ساعديني، وما إن أستعيد عافيتي ستحصلين على مبلغ ضخم من المال، فقط أرجوكِ ساعديني، لا يمكنني التنفس، أشعر أنني أختنق
ما إن أخبرها والد ملاذ بما يشعر حتى تعالت قهقهاتها بسعادة عارمة وقالت:
_لا يمكنك تخيل كم تُشعرني معاناتك بالسعادة! الأمر يثلج قلبي بلطف!.