الفصل السابع

اتعجب من نظرات دادة سعيدة وأنا أقف أمامها، هي تبتسم وتنظر إليَ وأنا حائرة مُتعجبه! كررتُ عليها حديثِ أنِ لم أملك المال ولا الطعام لها وهي ما زالت تبتسم ولا تُبالي، كُنتُ على وشك الذهاب إلى المطبخ لكي أعُد لها كِسارة الخبز لِتستطيع أن تأكلهُ، استوقفتني وطلبت منِ الجلوس بجوارها، ثم وضعت يدها على كتفي مع ابتسامة جميلة منها أخبرتني أنها تعلم جيداً أنِ جائعة وأنِ لم يدخُل في جوفِ الطعام، وقبل أن أُبرر لها ما قُلت أجابت أن الله وحدهُ الرزاق ولن ينسى رزق أي أحد، وأن أذهب إلى المطبخ، فهُناك طعام من الأُرز واللحوم وبعضً من الفاكهة أيضاً.

من أين حصلت على ذلك الطعام؟ وكيف علِمت أنِ أكذب عليها؟ ولما لم تسألني عن تأخيرِ عليها؟ كُنتُ مُشتتة لا أفهمُها، لكن هي؛ هي كانت هادئة ثابتة في مكانها، كالمُعلم الواثق من إجابته أمام تلميذهُ النجيب، بكل ثبات قالت:
-أخبرتكِ من قبل أن الرزق بيد الله، وأن نفعل ما بوسعنا تجاهُ، أعلم أنكِ لم تُحضري أي أموال ولا طعام، سيدة نرمين قد اتصلت بي هُنا وابلغتني أنكم قد اتفقتوا وبداية العمل من الغد، بعدها لم أُبالي وحمدتُ الله أنها قبلت بك سمعتُ صوت الباب يطرق، وكان الطارق طفلة صغيرة حاملة بيدها صينية كبيرة، بالكاد تقف وهي تحملها من ثُقل ما تحمله بين ذراعيها، أخذتُ منها الصينية وادخلتها بالداخل، قبل أن أسألها من مُرسل هذا ولماذا؟
قالت بكل براءة:
"أمي هي من ارسلتني إليكِ وتُسلم عليكِ كثيراً وتتمنى أن لا تحرجيها"

بدأتُ في إدراك الأمور جيداً، وكُنتُ أكاد أن أطير من سعادتي بأنِ أخيراً سوف أحصُل على الطعام، وطعام يحتوي على اللحوم مثلما سمعت، توجهتُ إلى المطبخ قبل أن أُغير ثيابي، كشفتُ غِطاء الصحن وفاحت رائحةُ الطعام منه، وكأنِ كُنتُ أريد أن أستنشق كل تلك الرائحة كي لا تنتهي، توجهتُ إلى غرفتي سريعاً وأحضرتُ الصحن وبدأتُ في تناول الطعام مع دادة سعيدة، كلاً منّا مهموم في مشاكلهِ، هي تتمنى يوماً واحد تحضر فيه ابنتها أميرة وتقضي معها ليلة واحدة حتى، وأنا أتمنى معرفة أهلي وأمي وأبي وما هو مستقبلِ.

كُنتُ أكل سريعاً من شدة جوعِ ومن كثرة الطعام أمامِ، فلا داعِ لأن أُضيق على نفسي في الطعام، لاحظت دادة سعيدة لهفتي على الطعام وابتسمت مرة أُخرى وقالت:
-يبدو أنكِ كُنتِ لستِ جائعة حقاً، يا ابنتي الطعامُ على مهل، أبقِ جزءً من معدتك خالٍ لشرابك وجزء لتنفسكِ، نحن نأكل لنعيش لا نعيش لنأكل.
كلماتُها جميلة ونصائحها دوماً في محلها، أتعجب كثيراً لماذا تركتها أميرة وغادرت؟ هل يمكن لأحد أن يكون لديه أُم مثل دادة سعيدة بحبها وقلبها وعقلها ونصائحها وتتركها ابنتها! كُلما قابلتُ أُناس أكثر كُلما تعجبتُ من هذه الحياة، عجباً لكِ أيتها الحياة لا أحد فيها يرضى بقِسمته كلاً منا يتمنى أن يُغير نصيبه.

لم أجد أحداً أفضل من دادة سعيدة ليُقدم ليَ النصيحة، لم أتردد لحظة أن أحكي لها عن رعد، لعلها تعلم من هو، ما زلتُ لم أفهم أسئلة كثيرة تدور في عقلي عنه، بدأتُ في سؤالها هل تعلم سيدة نرمين جيداً منذ فترة؟ أجابت بنعم تعرفها جيداً منذ كانت تعمل هي في الملجأ، تعجبتُ أكثر وسألتها هل سيدة نرمين كانت تعمل في الملجأ؟ أجابت بالطبع لا، لم تعمل هناك إطلاقاً، لكنها كانت تعتاد زيارة الأطفال في الملجأ، ودائماً ما تتبرع للدار بمبلغ من المال كبير، قلبها حنون وعطوف ولا تقهر أحداً، مثلها مثل علياء هانم.

سمعتُ حديثها عندها كانت دادة سعيدة قد انتهت من تناول الطعام، حملتُ الطعام بين يدي وتوجهتُ بيه إلى المطبخ، كان عليَ أن أغسل الأواني واقوم بعمل أكواب الشاي لنا، لكنِ لم استطيع الانتظار اُريد الذهاب إليها سريعاً لكي أسمع باقي حديثها عن نرمين وأبدأ في سؤالها عن رعد، بالتأكيد تعلمه، لم أغسل الأواني فقط أحضرتُ أكواب الشاي وتركتُ باقي العمل في المطبخ لحين سماع حديث دادة سعيدة، لولا أنِ أخشى أن ينسكبُ الشاى الساخن عليَ لأسرعتُ في السير نحوها، لا أعلم سر اهتمامي به هكذا، أخشى أن أكون لم أتعلم شيءً من الدرس الأول الذي تعلمتهُ على يد نبيل!

بثبات أتقدم نحو الدادة، تجلس هي على أريكة كبيرة، تشاهد التلفاز وتنتظر حضورِ بكوب الشاي الساخن، بمجرد رؤيتي أمامها تعجبت، وتساءلت كيف أنهيت مهامِ في المطبخ بهذه السرعة، أخبرتُها أنِ متعبة من مشقة اليوم، وسوف أتناول كوب الشاي معها وأذهب إلى المطبخ لِأُكمل مهامِ، جلستُ بجوارها أعطيتُ لها كوب الشاي الخاص بها بين بيدها، كانت تنظر إلى التلفاز وتُعطيه كل تركيزها، أنتظرتُ دقيقة لكن لم أتحمل الانتظار طويلاً، طلبتُ منها أن تُكمل حديثها عن سيدة نرمين.

داده سعيدة بعد التفاتها إليَ، أغلقت التلفاز ونظرت بحيِرة كأنها تُريد أن تسألني عن سر اهتمامِ بسيدة نرمين، لكن بدأت في التحدث مباشرة بعد تنهيدة كبيرة منها وهي تستعيد ذكريات ماضيها، حاولت أن تُعيد رأسها إلى الوراء وتُغمض عيناها قليلاً، ثم قالت:
-نرمين كانت صديقتي من الأساس، نحن من نفس الطبقة الاجتماعية، لكن أنا فانتِ تعلمِ ما حدث ليِ، لا داعي لذكره مرة أُخرى، في هذه الفترة تركني كل أصدقائي عندما علموا بتدهور حالتي المادية والاجتماعية ، كُلهم تخلو عني كُلهم تركوني، كُنتُ ألجأ إليهم لحاجتي للأموال، لم يُساعدني أحدا إلا نرمين، كانت هي ذو القلب الطيب هي من كانت سندِ فترة إنهيارِ، لم أتحمل الحياة وأنا أطلب منها دوماً، بحثُ عن عمل ولم أجد إلا دادة في ملجأ الأمل، وافقت وبالفعل عمِلت هُناك.
كُنت أسمع حديثها وأتخيل كم كانت تُعاني، قُمت بإماء رأسي وطلبت منها أن تُكمل، قالت بصوتً عميق وكأنها ترى هي أيضاً شريط حياتها أمام عينها:
-كان الملجأ هو حياتي، هو الوحيد الذي اِستطاع أن يُخرجني من حالتي، نرمين كانت لا تُنجب أطفال هي وزوجها، قامت بعمل عمليات كثيرة لكن لا جدوى من ذلك، كُنتُ أطلب منها أن تأتي إلى الملجأ بين الحين والأخر، لعل حالتها تتحسن عندما ترى الأطفال هناك، وفي يومً من الأيام طلبت مني أنها تريد أن تتبنى طفلٌ من الأطفال هُنا في الملجأ! تعجبتُ أنا أعلم شخصية زوجها وخوفه على سمعته الزائد، لكن أخبرتني أنها انفصلت عنه.

هُنا أدركت أن رعد لم يكُن ابنها في الحقيقة وهو ابنها بالتبني، حاله مثل حالي وهذا هو سر انجذابي نحوه منذ أن رأيته، سألتُ دادة سعيدة هل الصبي الذي تبنته كفيف وهل تتذكر إسمه؟ داده سعيدة أجابت بلا؛ لم يكن كفيف، كان اجمل صبي في الملجأ واحنهم واهداهم، لكنها لم تكن تتذكر إسمه جيداً، سألتُها أنا هل إسمه رعد؟ وقتها تذكرت الأسم وأنه حقاً هذا هو إسمه، ولكن لم يَطيل صمت داده سعيدة، وتحول تعجبها إلى أسئلة موجهة ليَ، كيف عرفت إسم رعد؟ هل قابلته هناك؟ لماذا أسأل عن كونه كفيف؟

حركتُ صِينية الشاي من بيننا ووضعتها على الطاولة التي أمامنا، وأعتدلتُ في جلستِ ووجهتُ وجهي وجسدي إليها، كأني أستعد إلى سماع نصائحها وأُريد أن يُشاركني أحد بما أشعر به تجاه رعد، أُريد أن أمنع مشاعري تجاه رعد أو أوجهها بشكل صحيح على الأقل، ما عشتهُ مع نبيل لم يكُن هين! لا أُريد أن أُصفع على وجهي مرة أُخرى.

بابتسامة بسيطة على وجهي، ونظرة حُب إلى تلك السيدة، أخبرتها كل ما في قلبي، بدون خجل ولا خوف، تخيلتُها أمي، فهي أمي حقاً التي أعرفها حتى الآن، أخبرتُها أنِ كُنتُ على وشك الرحيل من ذلك القصر الكبير، إلى أن ارتطمتُ به، أساءتُ إليه لم أكن أعلم أنه كفيف، كان يحمل كوب من العصير سكبهُ بأكمله على ثيابي، عندما علمت بأنه كفيف كُنتُ أشعر بالخجل الشديد منه، طلب مني الدخول لتنظيف ثيابي بالداخل.

أخبرتُ داده سعيدة أنِ أنجذبتُ إليه، لا أعلم السبب إن كان شفقة على حاله أَم ما هو سبب تعلقِ بمعرفة شخصيته، ولكن لقد كان كفيف، وكان يتحسس السير كأنه غريبٌ في القصر، أو أنه كفيف منذ فترة قصيرة، طلبتُ منها نصيحتها كي لا أترك قلبي وعقلي يتعلق بوهم في رأسي أنا فقط.

وضعت داده سعيدة يدها على قدمي، وطيبت بخاطري وأخبرتني أن لا سُلطان في الهوى، وأنِ ما زلتُ صغيرة ومن حقي أن أعيش مرة أُخرى وأُجرب الحُب الحقيقي، لكن لا أُسلم قلبي إلا إن كُنتُ متأكدة، نصحتني أن أترك عقلي يفكر فيه لا مشكلة في هذا، بل ذلك هو المطلوب فعلاً، أدرسهُ أفهمه عقلي يتعلق به لكن قلبي لا، هذه كانت نصيحتها لي.

تركتُها وحملت صِينية الشاي من أمامها، وعُدتُ إلى المطبخ من جديد، أُكمل مهامِ فيه، بدأتُ بغسل الأواني أقف أمام الحوض ويداي تغسل ولكن عقلي سارح هائم في حديث دادة سعيدة وفي تصرفات رعد معي، أتعجب كثيراً من إسمه، لقد أصبحتُ أتأمل معاني الأسماء، بعد تجربتي مع إسمي ومع إسم نبيل، رعد هذا من سماه هكذا!

أنتهيتُ من غسل الأواني، وتنظيف المطبخ بأكمله، بدأتُ أُفكر في يوم غد، حين أعود إليهم في القصر هل سأجد راحتي هُناك، هل ستُتاح لي فرصة مرة أُخرى لكي أتحدث مع رعد.

رعد يتيم مثلي أنا! يا لهذه المُصادفة، ونفس الملجأ الذي تربيتُ فيه! لكن أنا يتيمهٌ في المهد لا أعلم من هم أهلي، أيُمكن أن يكون هو مثلي؟ يتيمٌ في المهد! أم أنه جاء في الملجأ وهو كبيرٌ بعض الشئ، لماذا لم يأتي إليَ أحد يتبناني وأنا في الملجأ؟ طوال فترة إقامتي هُناك أيُعقل لم يختارني أحد إطلاقاً، يا لهذا الحظ السيء!

عُدتُ إلى دادة سعيدة مرة أُخرى أُخبرها أنِ قد أنتهيتُ من غسل الأواني وتنظيف المطبخ، وسألتُها إن كانت تريد منِ أي شئ قبل أن أذهب إلى غرفتي، أجابت بلا؛ كانت قد أغلقت التلفاز وجلست على فراشها، قُمتُ بفرش الغطاءِ عليها، أطفأت النور وكِدتُ أُغادر غرفتها، لكنها طلبت منِ أن أنتظر وأخرجت من تحت وسادتها سلسلة صغيرة معلق بها قلب، فتحتهُ كان بداخله صورتين، لم استطيع التعرف على الصورتين، أخبرتني أن الأولى لها وهي شابة في العشرين من عمرها، كانت زهرة مُتفتحه قبل أن يغدُر الزمن بها وتغدُر بها أميرة، تساءلت ومن صاحب الصورة الثانية؟ أجابت أنه زوجها نور عيونها.

أحياناً يكون الزوج هو كماشة لزوجته، كُلما مر عليهم الأيام والزمن يخنقُها أكثر وأكثر، كُلما أخذ وقتهُ معها كُلما خنقها أكثر وأكثر، يُصبح هو عَقبة في حياتها وفي طريق سعادتها وحياتها بأكملها، وأحياناً أُخرى يكون هو طوق النجاة لها من الغرق، يكون هو مصدر سعادتها ونور حياتها، مثلما قالت دادة سعيدة حينما تذكرت زوجها.

أصابني نوعٌ من الفضول الشديد عندما سمعتُ من دادة سعيدة أن زوجها هو نور عيونها، أُحب أن أسمع قصة زواج سعيدة إلى النهاية، سئمتُ من سماع قصصِ وقصص من حولي ودائماً ما تكون النهاية تعيسة، سألتُها أكُنتِ تُحبِ زوجك إلى هذا الحد؟ تنهدت تنهيدة طويلة، ثم قالت أنه لم يكن زوجي فقط، بل كان أخً أبً حبيباً حنوناً عطوفاً، فيه يجتمع كل الصفات الجميلة، وأنه لا يستطيع أن يُغضبها في يوماً من الأيام، كان مستواه المادي أقل منها ومع ذلك لم تُشعره هي بأي أذى نفسي أو معنوي، لم تُقلل من شأنه إطلاقاً، دائماً ما كانت تدفعه إلى الأمام للأفضل.

نظرت دادة سعيدة إلى السلسلة بين يديها وقالت:
-هل تعلمين من أحضر ليِ تلك السلسلة؟
تعجبتُ قائله:
-لا أعلم، أهو من أهداها لكِ.
أومأت رأسها وقالت:
-نعم هو من أعطاها لي، كانت أول هدية يُعطبني إياها بعد زواجنا مباشرة، وهو من وضع صورتي وصورته بهذا القلب، وقال لي أنه قلبه هو ويريد مني أن أُحافظ عليه.

كُنت أسمع حديثها والدموع تملأ عيونها، سيدة كبيرة في السن ما زال الحُب يسكن قلبها، ما زالت تتذكر زوجها وحبيبها وتقول أنه نور عيونها، لابد أن هذا الزوج حقاً كان يُعاملها بإحسان وحُب، جلستُ اتقرب منها أكثر وشغفِ يدفعني لسؤالها ما الذي كان يفعله هذا الزوج معها؟ يجعلها تتذكرهُ و تعيش على ذِكراه بكل حُبً هكذا، أخبرتني أنه كان مثل أي زوج بينهما خلافات ومشاداتات ولكن كان لا ينسى الفضل بينهما وقت الخلاف، كان طيب العِشرة كريم الأصل، يمسح دموعها من على خديها، يُشاركها كل عقبات تقابلهم في حياتهم ويحافظ على كرامتها أمام الجميع، لم تُحب غيره ولم يُحب هو غيرها.

كُل ما قالتهُ دادة سعيدة كانت تجعلني أتخيل نفسي مع زوجٌ مثل هذا، يكفي أن أشعُر بأمان وأنا في بيته، كُنتُ أعيش كالمُهدده، كان بيتي كالقفص بالنسبة لي، بعد سماع حديثها استاءذنتُ منها واطفأت النور عليها وغادرت من غرفتها وذهبتُ إلى غرفتي، غرفتي بسيطة هادئه يبدو أنها كانت غرفة أميرة ابنته دادة سعيدة، الوانها مُبهجه، أريد أن أرى اميرة تلك، ما هو شكلها ولماذا تتصرف بحماقة هكذا مع والدتها، على الرغم من حب دادة سعيدة الشديد لابنتها الوحيدة أميرة، أخذتُ أبحث في الغرفة عن أي صورة لها، لعلِ أجد أي شئ يوصلني إليها.

لم أجد في الغرفة بأكملها أي صورة لأميرة ولكن وجدتُ بعض الورق القديم لها، شهادات ميلاد وأوراق حكومية مكتوب عليها اسمها، أخذتُ ابحث في تلك الأوراق وجدتُ مُذكراتها بخط يدها، ومعها سجل بأرقام هواتف أصدقائها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي