الفصل الثاني عشر

جالسةٌ أنا أتأمل في تلك الحياة الغريبة، تأخذ منا أشخاص كُنا نظُنهم المقربين إلينا ويطعنونَنا في ظُهورنا، وتُصادفنا بأشخاص كُنا نظُنهم غُرباءُ عنا ويصبحون هم سندً لنا بعد أن أصبح لا أمان في هذه الحياة.

جالسةٌ أنا أتأمل رعد، ذلك الشاب الذي يمكن لو كُنت قابلته في ظروفً أُخرى لم أُعيره أي أهتمام، أنا منذ صغري المال لا يَهويني، كُنت أنظر إلى الشاب الانيق في مظهره وفي كلماته، لم أكن أنظر إلى جوهر ما أمامي لذا وقعتُ في شباك نبيل!

رعد مازلتُ مُتعجبه لهذا الإسم، من سماه هكذا هو ايضاً لا يعلم ولا يتذكر أي شيء عن ماضيه، لا يتذكر العشر سنوات الأولى من عمره التي قضاها مع اهله الحقيقين قبل اللجوء إلى ملجأ الأمل، رعد! الإسم وحده كفيل أن يهز وجدانِ من الخوف، لكن حينما رأيته شعرتُ بنبعً من الحنان بداخله، لم أتمالك نفسي أمامه ولم أستطع أن أمنع نفسي من الأعجاب به، لم استطيع أن افعل نصيحة دادة سعيدة لي.

قررتُ أن أُفتش فيما بداخله، إلى الآن لم يبوح رعد بالسر الذي يُخفيه، هذا هو الوقت المناسب لكي أعرف منه كل شئ، إذا كان هو ليس كفيفً بالفطرة ما هي تلك الحادثة التي حدثت له ولا يريد الحديث فيها؟ وكيف يمكن أن يُشفى وهو مُمتنع عن العلاج.

في ظلام الليل الحالك، وعلى نور الشموع التي أمامنا، كُنا جالسين على الطاولة في مطعم الشروق، بعد تناول الطعام والشراب، وبعد تفكير طويلٍ منِ قررتُ أن اتحدث إليه، نظرتُ إليه نظرة حُب مع قلق وبصوتٍ خافض قُلت:
-يا رعد لقد قابلتُك منذ فترة قصيرة، ولكن أثرت فيَ أكثر من أصدقاء عاشرتهم لسنوات، لو بداخلكَ تجاهي نفس الشعور والمودة التي بيننا لا تتردد أن تُخبرني بما في داخلك.

كان على وشك التحدثُ، رفعتُ يدي على فمهِ، وأكملتُ أنا حديثِ قائله:
- قبل أن تتحدث، لقد سألتُك من قبل، ما الذي أصابك بعد أن كُنت بصير؟ ما نوع تلك الحادثة التي تعرضت لها؟ ولماذا لا تسعى في إكمال علاجك؟ إذا كُنت لا تثق فيَ فلا داعي للحديث.

أنتظر رعد كأنه يُفكر أو كأن ثُقل الحديث على قلبهُ يُثقل لسانه ويمنعهُ من التحدث، عُدتُ بظهرِ إلى المقعد وأعتقدتُ أنه يرفض التحدث، لكن رايتهُ يتكئ على الطاولة بذراعيه، ويبدأ في سرد ما حدث له:
- يا فرح لم أكن يوماً حزيناً أو مهموماً، كُنت دائما بشوش الوجه للناس وللحياة، لم أُفكر في يتمي يوماً بقدر ما فكرتُ في عوض اللهُ ليِ، أحببتُ فتاة كانت كُل حياتي، من نفس عمري ومن عائلة ثرية، والدَتُها كانت صديقة لوالدتي، تزوجتُها عشتُ معها أجمل عام، أو كُنت أعتقد حينها أنه أجمل عام، كان يوم الأحتفال بعيد زواجنا، لم أذهب إلى عملى مثل عادة كُل يوم، ذهبتُ لمحل الورود وأحضرتُ باقة من الورود والزهور ذات الألوان التي تُحبها، سريعاً عُدتُ إلى البيت وأنا في قمة سعادتي، لم أكن أعلم أن ذلك اليوم هو يوم مأساتي، أحياناً أسال نفسي هل لو كُنت أعلم أن ذلك سيحدث، هل كُنت سأذهب؟ أمشى أنا على أطراف أصابعي لكي لا تشعر بوجودي زوجتي، فقط أردتُ أن يكون حضورِ في يوماً مثل هذا مُفاجأة لها، لكن كانت مفاجأة ليِ أنا!

صمت رعد حينها، كان يريد أن يلتقط أنفاسه يبدو أن ذلك الموضوع صعب عليه تذكرهُ، لا أريد أن أضغط عليه، أنتظرتُ بدون تحدُث، لكن عيني لم تُفارق وجههُ، أمسك بيده كوب الماء الذي أمامهُ شرب منه، بدأ يتصببُ عَرقاً، أنا أُلحظهُ في صمت، هدأ قليلاً، وضعتُ يدي على كتفه وعيني في عينه، أومأت رأسي إليه كي يُكمل حديثه، لكنه بالطبع لم يرآني، شددت على يده لكي يبدأ في الحديث، التقطَ نفساً عميقاً وقال:
-وجدتُها مع عشيقها، في غُرفتي وعلى فراشي، لم أتمالك نفسي، إنهالتُ عليها ضرباً وقد سقطت أرضاً، ولم تتحرك من شدة ضربِ لها، أما هو فقد فر هارباً لم اتمكن من الإمساكُ به، تركتُ البيت وأخذتُ سيارتي وكُنت أقود بسرعة فائقة، لم أتذكر أي شئ حينها سوى صورتهم سوياً أمام عيني، لا أرى الطريق ولا السيارات حولي، فقط أرى صورتِها هي وعشيقها على فراشِ، أسمع صوت ضحكاتها الخافتة، أسمع صوت أنفاسهم سوياً، آخر ما رأيته حينها ضوء أبيض كبير أمام عيني، بعدها لم أعي لأي شيء حدث، أفقتُ وكنت داخل المشفى، ولم أبوحَ بسري لأي أحد حتى والدتي، قمتُ بالانفصال عنها ولم أُسيء لسُمعتها، ضاعت حياتي بأكملها في تلك الليلة حتى نور عيني ضاع مني، وأصبحتُ كما ترين الآن كفيف مهموم حزين القلب.

لم أتخيل شعوره وقتها، فقد كان رعد في موقف لا يُحسد عليه، لا أحد يتخيل نفسهُ موضعهُ، رأيتُ دموعهُ على خديه وهو يحاول أن يتوارى بوجهه عنِ، بصوتً منخفض أخبرته أن الحياة أبداً لا تقف على أي شخص، مهما كانت مَعزتِهم بداخل قلوبنا، هُناك أشخاص لمسونا من الداخل ظننا أن هم بالنسبة لنا الحياة، لكن الموتُ أخذهم والحياة سارت بعدهم وكانوا من أفضل الأُناس في حياتنا، ما بالك إذا فقدنا شخص كان لا يستحق يوماً واحد في حياتنا.

حاولتُ أن أُهون عليه ما حدث، وأن الحُب درجات لدى البشر، منهم من يُحب المال ومنهم من يُحب السُلطة والجاه، ومنهم من يُحب الحنان وعطفُ القلوب ولا ينظُر إلى المال والجاه، وزوجتهُ السابقة كانت من النوع الأول الذي يُحب المال لم تنظُر إلى الحُب والحنان في داخل قلب رعد زوجُها، أخبرته أنه كان يجب عليه التحدُث والبوح بسرهِ منذ أن حدث، كِتمانهُ للسْر بداخلهِ كاد أن يخنقهُ، نصحتهُ بضرورة التوجُه إلى الطبيب، لكي يُكمل علاجه، وأنِ غير موافقة على البحث عن أهلي إلا أن يُكمل علاجهُ أولاً، تردد وصمم على أن لا يتحدث فيما حدث مع أي شخص، وأنه تحدث إليَ لأنني أصبحتُ بالنسبة له ليس مثل باقي الأشخاص في حياته.

كلماتهُ كانت تلمسُ قلبي قبل أن تَسمعها أُذُني، كم كُنتُ سعيدة بتلك الكلمات، أحببتُ الجلوس معه أكثر وقت ممكن، لكن أنا أعلم جيداً ظروفِ وظروفهُ مع والدته، عرضتُ عليه أن نُغادر المكان ولكن هو رفض طلب منِ أن ننتظر قليلاً، وأنه يشعُر كأن ثُقلاً كان على قلبه وعندما حكى ليَ ما حدث، شعر بأن ثُقل قلبهُ قد أزيح، لكن صممتُ على المغادرة فأنا أخشى ما يمكن حدوثه إن تأخرت أكثر من هذا الوقت، دادة سعيدة قلبها حنون ولكن شخصيتُها قوية صعب تخيل رد فعلها، أتفقت مع رعد أن يذهب في الغد إلى الطبيب الذي كان يُتابع حالته، ويُخبرني ماذا سيقول له، لكن رعد صمم على أن أذهب أنا معه، وأن علاقته بوالدته مُشتتده في تلك الفترة.

أوصلتُ رعد إلى باب القصر، وطلب هو من سائق سيارتهُ أن يوصلني إلى بيتي لكي يطمئن عليَ، عُدتُ إلى البيت، لا أعلم ما في نفوسهم تجاهي! هل أميرة تكرهُني؟ لكن لم يبدو عليها ذلك سوى تلك الليلة عندما رأتني مع رعد، هل كانت لها علاقة برعد سابقة؟ لكن رعد لم يتعرف عليها، ربما لأنه كفيف لم يعرفها، وجائز أن تكون تعرفهُ حقاً، قد تغيرت ملامح وجهها بأكملها عندما رأتهُ، أو بالأخص عندما رأتني أُراقبه، كُنت لا أفهم أي شئ في تلك الليلة، لكن ملامحهم تغيرت والنفوس تغيرت! هذا ما أنا مُتأكدة منه، هل يمكن أن تكون السيدة نرمين تحدثت بسوء عني أمامهم، لا أفهم أي شيء حتى الآن.

أنا في داخل البيت الآن، وجدتهم نائمون! داده سعيدة عادتها القلق عليَ إذا تأخرت! كيف تنام وتُغلق غرفتها بدون أن تطمئن عليَ، أميرة أغلقت باب غُرفتها بالمُفتاح، لم تترُك ليِ حتى أي غطاء، أبواب الغرف المُتبقية مُغلقة لا يوجد سوى تلك الأريكة التي استلقيتُ عليها ليلة أمس، كانت غير مُريحة أطلاقاً، ولكن لا مفر منها، لا يمكن أن أُقظهم من نومهم لأطلب منهم أي شئ، في تلك الليلة لم يغمض لي جفن، الأرق يتملك منِ، لا من عدم راحتي في النوم على تلك الأريكة فقط، بل من غرابة تصرفاتهم التي واجهتُها تلك الليلة، أميرة أنا لم أعيش معها كثيراً لا أعلم إن كان هذا هو طبعها أم لا؟ لكن دادة سعيدة لقد أقمتُ معها فترة طويلة وكُنت أنا المفضلة لها في الدار، كيف تتحول عليَ هكذا؟ أنا حقاً مُشتتة وأُحاول الاستيعاب.

انقضت تلك الليلة، لا أعلم كيف مرت عليَ الدقائق والساعات من كثرة انشغال عقلي بالتفكير، لم أغفل ثانية واحدة حتى، جاء وقتُ العمل، لم تأتي إليَ دادة سعيدة كعادتها لتعرض عليَ الأفطار، استأذنت منهم و رحلتُ، أسير كعادتي في الطُرقات إلى أن أصل إلى القصر( مكانُ عملي)، عندما دخلتُ القصر حدث ما لم أتوقع حُدوثهُ.

كانت السيدة نرمين تنتظرني على عجلً، ألقيتُ التحية عليها ودخلتُ إلى الداخل لكي أُغير ثيابي، استوقفتني هي وبصوتً عنيف أخبرتني أن لا عمل لي هُنا! وأن أعود إلى حيثُ أتيت وأن أنسى هذا القصر وهذا العمل، ولا أتحدث مرة أُخرى إلى رعد، ولا يكن لي علاقة به بعد الآن، بالإضافة إلى بعض عبارات التوبيخ التي قالتها لي، ليس ليَ أصل ولا اهل، ليس ليَ شرف ولا كلمة، أبيعُ نفسي من أجل المال، عباراتٌ وكلمات أوجعتني من الداخل، لكن سبحان منْ لَجَمَ لساني أمامها، لم أتحدث إليها أطلاقاً، حتى لم أطلب منها أي أموال مقابل الثلاث أيام عمل.

كُل ما كُنت أفكر فيه هو موعدِ مع رعد اليوم عند الطبيب، كان الموعد بعد إنتهاء عملِ في القصر، هل يعلم رعد بأن والدته طردتني من القصر؟ إلى أين أذهب الآن وأنا متأكدة أن دادة سعيدة وابنتها أميرة لم يَعُد كلاً منهم يطيق وجودي، لا وقت للوم ولا العتاب لأي أحد من يريد بقاءِ فأنا بجانبه ومن يريد رحيلي فأنا راحلهٌ، أسير في الطرقات أُحاول التفكير سريعاً، ماذا أفعل؟ إلى أين أذهب؟ من يتحمل إقامتي عندهُ، تأهتهٌ في الطُرقاتِ أسير، لا مفر من المواجهة، لابد أن أعود إلى بيت الدادة، أّخذْ كل أشيائي من هُناك وأرحل.

وصلتُ إلى هناك في وقت الظهيرة، كان كلاهما جالس في غرفته، ألقيتُ السلام عليهم، لم يُعطني أحدً منهم أي إهتمام! سوف يجن جنوني من فرق المُعاملة الرهيب الظاهر أمامي الآن، أحزن لمعاملة دادة سعيدة ليِ هكذا، فهي كانت بمثابة أمي، لم يسألني أي أحد لماَ عُدتُ إليهم في ذلك الوقت؟ أخذتُ كل أشيائي وجمعتهم في حقيبتي الكبيرة وخرجتُ من عند دادة سعيدة مثلما دخلتُ إليها بحقيبة ملابسي فقط، ولا أملك أي جُنيةً واحداً حتى.

لم أودع دادة سعيدة، فهي لم يفرق معها وجودي من عدمه، كُنت أجمع أشيائي أمام أميرة ولم تسألني ماذا أفعل! خرجتُ وأنا على أمل أن ينادي عليَ أي أحداً منهم، يبدوا أنهم كانوا يتمنون رحيلي عنهم، جيد أنني أشتريتُ كرامتي ولم أُهين نفسي، وعدم تفاجُئهم من حضوري في وقت الظهيرة وهو مختلف تماماً عن موعد عودتي من العمل، يُأكد إليَ أني أصبحتُ غير مهمة بالنسبة لهم، إما أن تكون دادة سعيدة على علم بما حدث، وتكون السيدة نرمين قد أخبرتها أنها طردتني من العمل.

أسير وأسير في الطُرقات وحدي أنا في هذا العالم، أعيش وحدي أحزن وحدي أفرح وحدي، فقد تعودتُ على الوحدة في عالمي الموحش، أحمل حقيبتي في يدي أسيرُ في الطُرقات هائمة شاردة الذهن، لا أعلم حتى في أي طريقً أنا أسير وإلى أي طريق أنا سوف أتجه، لم يخطر في بالي أي أحد ليس لي في هذه الحياة أي شخص ألجأ إليه، حتى من ظننتُ أنه هو ملجئي لا أعلم هل سيكون حقاً ملجئي؟ أم أنه سيتأثر بحديث والدته عني وهو الآخر سوف يبيعني ويتركني في هذه الحياة.

يمكن أن يكون رعد لا يعلم أي شئ عن ما كانت تنوي والدته فعله معي، وأنا ليس لي ملجأ أذهب إليه الآن، سوف أنتظر خارج القصر في نفس الميعاد الذي اتفقتُ أنا ورعد عليه، لعله ينتظرني هو أيضاً، لنذهب سوياً إلى الطبيب كما أتفقنا ليلة أمس، هذا هو الأمل الوحيد الذي تبقى ليَ الليلة، سواً قابلتُ رعد أو لم أُقابله، لابد أن أُفكر في مكانٍ أقيم فيه عوضاً عن بيت دادة سعيدة فأنا لم أعُد أقيم الآن هناك.

أقف من بعيد خارج القصر أُراقب من يخرج ومن يدخل، لعلِ أرى رعد خارجاً منه، جلستُ من التعب على حجارة كبيرة موجودة على أطراف الطريق، الجو بارد، أشعر بالبرودة الشديدة هنا، أخرجتُ قطعة من الثياب وضعتُها على جسدي لتُدفئني من ليالي الشتاء الباردة، كُنت أبدو للناس المارة في الطرقات كالمُتسولة، أتوارى من نظراتِهم، تقع أعينهم عليَ كالسهام تُصيبني، لا استطيع تحمل الكثير من تلك النظرات، وقفتُ مبتعدة قليلاً وما زال القصر على مرمى البصر، وأراه واضحاً أمامي، أنتظر؛ الساعةُ في يدي أنظر إليها الميعادُ قد حان، إذا كان رعد سيأتي فلابد أن يخرج من القصر الآن، وقفت مُترقبه، مر خمس دقائق، ها هو وجدته خارج من بوابة القصر.

لم استطيع السير إليه خوفاً من أن تكون والدتُه تراقبه من الشُرفة، ولم استطيع أن أُلوح له لأنه كفيف، ماذا أفعل إذن، سريعاً سريعاً فكرتُ في الأمر، وجدتُ صبي صغير يمر من أمامي، ناديتُ على الصبي وطلبتُ منه أن يهمس في أُذُن ذلك الشخص، وأشرتُ بيدي على رعد، وأن يُبلغهُ أن فرح تنتظره على الطريق الآخر، وطلبتُ من الصبي أن يساعده في السير إلى الطريق الآخر لأنه كفيف، كان الصبي من الأخيار ومُدرك لخطورة الأمور، وافق وبالفعل رأيته يهمس في أُذنه ويسير به في الطريق، إلى أن أوصله إلى الجانب الآخر.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي