الفصل العاشر

فُتِحَ الباب، استقبلنا شاب في منتصف الثلاثينات من عمره، تعجب من زيارتنا فهو لا يعرفنا! ولا نحن حتى كُنا نعرفه، كلاً منا يحاول إدراك الموقف وترتيب كلماته، سمح لنا الشاب بالدخول إلى بيته، دخلت أنا ورعد وفي تلك اللحظة حمدتُ الله أن رعد صمم على المجيء معِ، ماذا كُنت أفعل لو كُنتُ بمفردي؟

بعد دقيقة واحدة وأنا أنظر إلى المكان بتعجب وبتأمل، أُحاول أن أبحث عن أي شئ يدل على أن هذا الشاب يعرف أميرة حقاً، أو كانت تجمعهم صداقة أو علاقة في أي يوماً من الأيام ، أبحث بعيني في الحائط وبين الجُدران عن أي صورة مُعلقة تجمع بينه وبين أميرة، لم أجد؛ وهو جالس أمامي وعينه عليَ تتبعني، ثُم بدأتُ في الإلتفات إليه وسالته إن كان يعرف فتاة بإسم أميرة أم لا، وأخرجتُ صورة قديمة لها بالكاد حصلتُ عليها من غرفتها، عندما نظر إلى الصورة بدأ بالارتباك وزعم أنه لم يعرفها، ولكن ارتباكه كان أكبر دليل على كذبه، وجهتُ إليه السؤال بطريقة أُخرى وبنظرة حادة وبنبرة صوت شديدة، رعد كان جالس لم يتحدث ولكن يكفي أنه كان بجواري فقط كُنت مطمئنة بوجودهُ بجواري هكذا.

الشاب تكلم وأفصح عن ما بداخلهُ، وأجاب بنعم كان يعرفها وكان على علاقة كبيرة بها في وقتً من الأوقات، لكن الفترة هذه فهو لا يعرف عنها أي شيء وعندما ضغطُ عليه أكثر وأكثر كتب لي عنوان فتاة أُخرى، وأخبرنا أنه يمكن أن تكون أميرة مُقيمه لديها في المنزل، أخذنا العنوان واستأذنت أنا ورعد بالانصراف، نظرتُ في ساعة يدي المهلة التي قد أعطتْها ليِ السيدة نرمين على وشك أن تنتهي، لم يتبقى منها سوى ربع ساعة كفاية للعودة، فقد كُنت حريصة على أن اعود في الموعد كي لا تغضب منِ السيدة نرمين.

وصلتُ للقصر مرة أُخرى كانت سيدة نرمين لاحظت غياب رعد عن القصر، وعندما رأته معي جنّ جُنونها، طلبتْ منه أن يصعد معها إلى غرفتها تريد أن تتحدث معه لامرً هام، ونظرت إليَ نظرة غضب لأول مرة أجد تعامل سيدة نرمين معي مختلف، دخلتُ إلى القصر أُتابع وأُباشر عملي وأنا قلقة جداً بشأنها! يمكن أن تمنع رعد من الحديث معِ؟ انتظرتُ إلى حين عودتها أُكمل كل عملي كي لا تلومنِ على تقصيرِ في العمل، إلى حين لمحتها بطرف عيني وهي على الدرج قادمة.

لم تتحدث إليَ مطلقاً، سمحت لي بالانصراف لأن وقت عملي قد انتهى اليوم، بداخلي فضول لاعرف ماذا قالت لرعد عني، وهل منعته من الحديث إليَ حقاً، لا أعلم ، ولكنِ غادرتُ القصر في صمت ولم أرى رعد في ذلك اليوم مرة أخرى، حين غادرتُ كُنت أنوي العودة إلى البيت سريعاً، ولكن بعد ما حدث كله لن استطيع ان استأذن مرة أُخرى من سيدة نرمين في اليوم التالي، إذن لابد من زيارة العنوان الذي أعطاني إياه الشاب، لكي اجد اميرة وأُسعد والدتها.

أسيرُ أنا في الطُرقات وحدي أُحاول البحث عن ذلك العنوان، أخرج من طريق وأدخل في آخر، أسأل المارة لكي يُساعدوني، إلى أن وجدتهُ بيتٌ صغير، واضح أن مستوى المعيشة فيه منخفض، صعدتُ وأنا مُتئهبه لا أعلم ما ينتظرنِ، فُتح الباب، المفاجأة كانت أميرة هي من فتحت الباب بنفسها، أجل أنا أعرف ملامحها من تلك الصورة القديمة التي أحملها معِ أينما أكون، لكن هي مازالت لم تتعرف عليَ، طلبتُ أن ادخل واجلس وأتحدث إليها، وافقت ودخلت وبعد مُضايفتي تسألت:
-من أنتِ؟ هل تعرفينِ؟
بارتباك قليلاً قُلت:
-أنا اسمي فرح، أعيش مع دادة سعيدة والدتُكِ في نفس البيت، في الحقيقة أنا أبحث عنكِ بالتحديد، لكن كُنتُ أتوقع أن أجدكِ في مكان أفضل من هذا أو أقصد في مستوى أفضل لكن ماذا حدث لكِ؟
قامت من مجلسها، وبعصبية شديدة أجابت قائلهَ:
-من أنتِ لتسألي أسئله مثل هذه؟ أنا حقاً لا أفهم! أنتِ تُعطي نفسك حقٌ لا تستحقينهُ، أنا لن اعرفُك ولن أقبل أن أتحدث أمامك بأي كلمة.
حاولتُ تهدئتُها، وطلبتُ منها الجلوس وقُلت:
-أنا آسفة لأنِ لم أشرح كل الأمر، أنا فقط أظهرتُ تعجبِ، كُنت يتيمة في الملجأ، في ملجأ الأمل بالتحديد الذي كانت تعمل فيه دادة سعيدة، كانت أحن شخص بالنسبة لي في طفولتي حتى بعدما كبرتُ وأحتاجتُ لها وجدتها هي الشخص الوحيد الذي ساندني في هذه الحياة، لذا كان ولابد أن أقف بجانبها مرة واحدة وأُحاول مُساعدتها، والدتك تحتاجكِ، تحتاجكِ أنتِ وليس للأموال، هي لا تعرف حتى أنِ هُنا، أنا أراها تتألم بدون أن تتكلم، أنا أراها تنهار داخلياً والدتك لا يُهمها المال، كُل ما يُهمها هو أنتِ.

نظرتُ في ساعة يدي كُنت أخشى أن أتأخر عليها، وتقلق دادة سعيدة ولكن قُلت لنفسي إذا كان تأخرِ تلك المرة بفائدة لها فلا مانع، ولعلِ أُحاول إقناع أميرة أن تعود إلى والدتها بدلاً من هذا البيت دونَ المستوى الذي تُقيم فيه، بعد برهة سريعة من التفكير في الأمر قُلت لها:
-والدتُك علمتني معنى القناعة والرضا، وأن كل موقف سيء يحدثُ لنا في حياتنا ما هو إلا طريق لكي نصل إلى طريقٍ أفضل، أنا لا أعرف بالتحديد ما الذي حدث لكِ، ولكن كُل ما أعرفه يبدو انكِ قد خسرتِ كل شيء ولم يتبقى لكِ سوى هذا البيت، والظاهر أنه حتى ليس ملكٌ لكِ، بل هو ملكٌ لصديقتكِ كما أخبرنا صديقُك.
بتعجب ولهفة تسألت:
-صديقي! من هو صديقي الذي أعطاكِ هذا العنوان؟
قُلت بهدوء لأُطمئنها:
-صديق قديم لكِ أنا حتى لا أعرف اسمه، الآن يا أميرة أريد منكِ ان تهدئين وتحاولي التركيز قليلاً، حياتُك هُنا أفضل أم مع والدتك؟ أما كل ما سبق فالله يغفر لكِ، وأنا متأكدة أن دادة سعيدة سيدة قوية وحُبك داخل قلبها سوف يُمحي ما فعلتيه.

فكرتْ قليلاً ثم طلبت أن تدخل إلى غرفتها، كُنت انا في الخارج لا أعرف لماذا دخَلت إلى الغرفة وتركتنيِ هذا بدون ردً واضح ماذا تنوي أن تفعل؟ كل دقيقة أنظر إلى الساعة وأتمنى أن تأتي أميرة معي، أخشى أن أكون قد أضعتُ وقتي وسببتُ في قلق لدادة سعيدة وأعطيتُ أمل إلى نفسي بأن أُعيد أميرة إلى أحضان والدتها مرة أُخرى، ما يقرب من نصف ساعة وانا انتظر في الخارج، لقد سئمتُ الانتظار وقررتُ الذهاب إلى غرفتها لأرى ما في الأمر؟

حينَ كُنتُ في طريقي إلى غرفتها سمعتُ صوت بابِها يُفتح، وها هي قد جاءت أمامي أخيراً، قد غيرت ملابسها وأحضرت حقيبتها، كانت حقيبة سفر صغيرة وليست كبيرة، يبدو أن حتى ملابسها أصبحت معدودة، لا أعلم ما حدث لها ولم تتكلم حتى الآن عن ما تعرضت له، ولكن يبدو أنها كان تحتاج إلى والدتها أكثر من إحتياج دادة سعيدة لها، قوية هي تقف أمامي تُخفي شغفها لرؤية والدتها وندمها الشديد الواضح على وجهها مهما حاولت إخفائُه.

وهي تبلع ريقها وتنظر إلى عيني أخبرتني أنها قادمة معي، وأنها لن تتحدث بأي شيء سوى مع والدتها، ساعدتها في حمل حقيبتها ولكن طلبت أن تقوم بإجراء مكالمة هاتفية هامة قبل مغادرة المنزل، بالطبع سمحتُ لها، يبدو أنها تتحدث مع صديقتها التي تملك تلك الشقة وتخبرها بأنها راحلهَ، المسافة كانت بعيدة جداً عن أن نصل إلى هناك بالسير على الأقدام، ونحن نحمل الحقائب على أيدينا سيكون الأمر شاق، ويبدو أن أميرة لا تمتلك أي شيء ولا أي أموال، أخبرتُها أن تستقل سيارة ولا تقلق بشأن ثمن الأجرة، كان معِ أموال من ليلة أمس، أما تلك الليلة لم أخذ أي أموال من سيدة نرمين.

ساعدتُ أميرة في وضع الحقيبة داخل السيارة وكنتُ متوترة جداً وأعلم أن دادة سعيدة كانت في قمة قلقها عليَ، فأنا لم أعتد على هذا التأخير، وأيضاً لم أُخبرها بأنِ سوف أتأخر، لقد تأخرتُ كثيراً ما يقرب فوق الساعتين، ها قد وصلنا أخيراً، دفعتُ أجرة السائق، وانتظرتُ خروج اميرة من السيارة، أميرة كانت شاردةُ الذهن تماماً، كانت تنظر إلى البُرج وتتأمل شقتهم، كأنها تتذكر ذكرياتها فيه، حاولت أن أتحدث إليها بصوتً عالٍ لكي ألفت انتباهها، نظرت إليَ وخرجت من السيارة ووقفت في مكانها، كأنها لا تريد أن تصعد، بعد كل هذا العناء في الطريق وفي محاولة إقناعها، كانت مترددة جداً، أمسكت يدها بيدي بقوة، ونظرت إلى عيني وقالت أنها خائفة، وأن ما فعلته ليس بهين.

لكن أنا بصوتً هادئ أقنعتها مرة أُخرى أن تصعد، كُنت متاكدة أن دادة سعيدة ستغضب منها أولاً، لكن قلبها حنون لا يقسي عليها وسوف يَحن ويميل إليها ويغفر لها، وصلتُ إلى الشقة فتحتُ الباب، طلبت من أميرة الانتظار في غرفة الضيوف إلى حين أن أُمهد الأمر إلى دادة سعيدة، ثم يتحدثون سوياً.

بمجرد دخولِ بكت دادة سعيدة، من شدة قلقها وخوفها عليَ أن يكون قد أصابني مكروه أو أذى، أرتميتُ في أحضانها واحتويتُ قلقها وغضبها منِ، اخبرتُها أن السبب في تاخيرِ عليها أمرٌ هام، وكُنت لا استطيع الاتصال بها لأُطمىنها عليَ، جلستُ بجوارها وضعتُ يدي على كتفها، أحاول أن اتمالك نفسي أمامها لكي أُمهد عليها الأمر، أنا أعلم جيداً أن ذلك الشعور سيكون صعبً عليها، أن تلتقي بإبنتها بعد كل تلك السنوات وبعد كل ما مرت بيه أميرة ومنظرها وحالها الآن، قلت لها "لقد كُنت أُحضر معي شيءٌ هام يخصك وهذا سبب تأخيرِ أنا أعلم أن ما أحضرته معي ثمين وغالٍ عندكِ"

تعجبت دادة سعيدة ويبدو أنها لم تفهم حدثِ بعد، أردتُ توضيح الأمور أكثر وأكثر أخبرتها أن ما أحضرته هو شخصٌ وليس شيء، شخصٌ عزيزٌ لديها وأنها سَتسْعد إن رأتهُ، وهُنا بدأت تدرك معنى كلامي، ويبدو أن عقلها فكر حقاً في أميرة، طلبتُ منها أن تأتي معي إلى غرفة الضيوف لكي ترى من جالس ينتظرها بالخارج، قامت معي بدون أي سؤال منها ولكن يبدو عليها التأهُب الشديد، كأنها تتمنى ان تكون هي وفي نفس الوقت تخشى من رؤيتها، وقفتُ أنا عند الباب فتحتهُ لها ولكن لم أدخل معهما، فضلتُ أن أكون بالخارج اسمعهم ولا اتدخل، لعلهم لا يحبوا وجودِ في موقف مثل هذا بينهم.

كان الباب مفتوح وكُنت أقف خارجاً أخشى من لحظة التقائهما، أنظر من بعيد عليهما، دخلت دادة سعيدة ببطء شديد في خطواتها، عيناها يترقبان من الجالس، إلى أن وقفت في مكانها، تنظر باندهاش مع حزن ممزوج بفرحة، نظرة واحدة بدون حديث ولكن كانت نظراتها بألف حديثً وحديث، تُعبر عن كل ما بداخلها تجاه أميرة، حُب من الطفولة مع قلق وخوف شديد عليها مما تعرضت له ومن حالها وهيئتها التي تُظهرها أمام أُمها ممزوجة ببعض من الغضب مما فعلته بها سابقاً وتسبب في أذاها كل تلك السنوات، بعد دقيقة من النظر بينهما فقط بدون كلام، تقدمت أميرة بخطواتٍ نحو والدتها ووقفت أمامها مباشرةٌ ووضعت رأسها أرضاً، استدارت دادة سعيدة وكانت على وشك الانصراف عنها، لكن أميرة بلهفة لم تقول إلا كلمةٌ واحدة " وحشتني يا أمي"

حينها نظَرتْ إليها دادة سعيدة وعيناها مُمتلئة بالدموع لم تتحدث أي كلمة، فقط غلبها حُزنها وقلبها على عقلها ولسانها، عيناها تبكي وتنظر إلى حالِ ابنتها، تُفكر في ما قد يكون حدث لها، أميرة أنحت على ركبتيها وأُمها أمامها جالسه، تحاول أميرة التوسل إلى والدتها بأن تغفر لها وتعفو عنها، كفت دادة سعيدة عن الدموع، وبدأت تتماسك نفسها وأعصابِها وقامت بصفع ابنتها على وجهها، ثم أمسكت بيد ابنتها لتوقفها في مكانها، وقامت باحتضانها، البكاء يُسيطر على كِليهما، كانت لحظة صمت بألفِ معنى ومعنى.

لا أحد يُعجبه حاله في هذهِ الدنيا، جميعُنا نتمنى حالٍ أفضل من حالنا! من يمتلك المال ينظُر إلى الولد ومن يمتلك الولد ينظر إلى المال، من يمتلك الأم والأب والأهل والأقارب ينظر إلى ذوي الجاه والسلطة مثلما فعلت أميرة، ومن يمتلك كليهما ينظر إلى ما هو أكبر منه وأفضل منه، الطمع يتملك الإنسان دائماً، وهذا هو نتيجة الطمع إذا تملك من أنفسنا! أميرة وقعت ضحية أصدقاءٌ حولها، لا أعلم أهُم من أوشوا لها بالهروب من عالمها وتحريضها على ما فعلت، أم كان ذلك من تدبير عقلها ونفسها، فالنفسُ دائماً آمارهٌ بالسوء، وقد أفلح من نهى النفسُ عن الهوى.

في تلك اللحظة لم استطيع أن أمنع نفسي عن التفكير في حالي وحياتي أنا أيضاً، لماَ أنا يتيمة؟ لما لم أملك الأهل والأب والأم والعم والخال؟ لما لا أملك السند في حياتي؟ أحضان الأُم التي أراها أمام عيني أتمناها! لكن الحمد لله على حالي فهو أفضل من أُناسٍ كثيرين حولي، واللهُ عوضني بدادة سعيدة، هُناك أشخاص لم يجدوا من يقف معهم في تلك المواقف الصعبة، حقاً الحمدُ لله على كل حال.

تدخلتُ في تلك اللحظة، بعد أن أنتهى العِناق بينهما، جلسوا بجوار بعضهم وجلستُ أنا أمامهم، تحدثتٌ إلى دادة سعيدة وقُلت لها أن أميرة نادمة على ما حدث، أميرة تحدثت حينها وأخبرت دادة سعيدة عن ندمها وأن عقلها كان صغير وقتُها قالت:
-لم يُكفي كلمة آسف ولا ندم على ما فعلتهُ معكِ يا أمي، كُنت أرى اصدقاءِ لديهم مساحة كبيرة من الحرية لم امتلكها أنا.
بسرعة قُلت لها:
-لا داعي للعتاب وذكر ما مضى، يكفي أنكِ نادمة وجئتِ وعُدتِ إلى أحضان والدتُك.

حينها انفعلت دادة سعيدة واعترضت على ما قلت، وصممت على أن تُعاتب أميرة وتريد أن تعرف أين كانت في الفترة السابقة وماذا حدث لها؟ ولماذا عادت وندمت طالما هي كانت سعيدة بحياتها مع أصدقائها ومبهورة بهم، هدأتها وطلبتُ من أميرة أن تروي ما حدث معها بهدوء لأن هذه رغبة والدتها لكي تُسامحها، صمتت أميرة كأنها تفكر تتحدث أم لا تتحدث!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي