الفصل الثامن

صوتُ المُنبه يرن في أُذُنِ، أُحاول أن أُغلقهُ لكي أُكمل نومي، دادة سعيدة تناديني " الوقت قد حان، قد تأخرتي" بالكاد أسمع تلك الكلمات وأنا في غفوتي، صوتُها بدأ يقترب أكثر وأكثر، بالكاد فتحتُ عيناي وجدتُها تقف أمامي، أعتدلتُ في نومِ جلستُ على الفراش دقيقة لكي أستوعب، أول مرة تأتي دادة سعيدة بنفسها إلى غرفتي لكي أستيقظ من نومي.

نعم اليوم يوماً غير باقي الأيام سابقاً، اليوم هو أول يوم عمل ليَ في قصر سيدة نرمين، شكرتُ دادة سعيدة على مساعدتها أن استيقظ في موعدِ، هذا اول يوم لي وبالتأكيد كانت نرمين هانم لم تغفر لي بسهولة إن ذهبت إليها في أول يوم عمل بوقتٍ مُتأخر، انتفضتُ سريعاً من على فراشي وقمتُ بغسل وجهي وتغير ثيابي سريعاً، كُنت قد جهزتُ من ليلة أمس ما سأرتديه اليوم، لم اتناول الافطار حتى وخرجتُ مسرعتاً، فأنا أذهب إلى القصر سيراً على قدمِ، والمسافة كبيرة بعض الشئ.

ودعتُ داده سعيدة وطلبتُ منها أن تدعو ليِ، في الطرقاتِ أنا أسيرُ وحدي، ومن غيرِ سيساعدني، الوقتُ باكراً لا يوجد أحد يمشي في الطرقات، نادراً ما يمرُ أمامي أي مار على الطريق، نظرتُ في ساعة يدي، موعدِ في القصر الساعة الثامنة صباحاً والآن الساعة السابعة والنصف، أُسرع من خُطواتِ أُحاول أن اصل في الموعد المحدد الساعة الثامنة صباحاً، تذكرتُ تلك الساعة وأحداثِ معها، ففي الصباح كان موعد الإفراجُ عنِ، وفي المساء كان موعد سجني معه، يا تُرى ماذا فعل نبيل بعدِ؟ أي مسكينة تلك التي أخذت مكانِ! أتمنى لو أنصح كل الفتيات و اُحذرهم منه، لكي لا تقع أي فتاة في نفس المأزق الذي كُنتُ فيه أنا وحدي، ثم تمنيت إن كان تزوج بعدِ أن تكون فتاة لها أهل وأهلٌ أقوياء يُعلمون نبيل أن بنات الناس ليسوا لُعبة بين يديه يكسرها ويُعيد إصلاحها كل يوم.

عقلي قد شرد في تذكرِ لنبيل، ها أنا الآن قد وصلتُ في الطريق أمام القصر مباشرةً، كُلما أنظر إلى ذلك القصر أُسحر بجماله الفاتن، أكُل القصور هكذا؟ يُمكن أن يكون أهلي من الأغنياء؟ أتذكر بين الحين والآخر عن عُقدً أخبرونِ أنه كان مُعلق حول رقبتي وأنا في مهدِ حين وجدوني، أيُمكن أن يكون أهلي من الأغنياء حقاً؟ هل أنا ابنه من الحرام؟ أم أنِ فُقدتُ منهم في الطرقات؟ الآن لا داعي لكُل اسئلتي هذه لابد أن أُركز فاليوم هو أول أيام عملي.

دخلتُ القصر كالعادة لم يسألنِ أحد أين أنا ذاهبة، عجيبة أن يكون قصرٌ كبير مثل هذا لا أحد يسألنِ من أنا وإلى أين أنا ذاهبة؟ أنا أقف في الحديقة أتأملها في الحقيقة جمالٌ لا يوصف، لو كُنتُ أعيش هُنا معهم في القصر لما تركتُ تلك الحديقة ودخلتُ بالداخل، فهذا عالم وذاك عالم آخر، وصلتُ عند بهو القصر قابلني نفس الشخص الذي قابلني المرة السابقة، لكن تلك المرة قد علم سبب حضورِ، سمح لي بالدخول وأعطاني ثياب العمل لكي ارتديها، انتظرتُ أن أرى نرمين هانم أو رعد لكن لم أرى أي أحد، أرشدني الرُجل إلى الغرفة التي سأُبدل فيها ثيابي، القصر كبيرٌ جداً، صعب أن أعرف كل الأماكن الموجودة فيه بمُنتهى السهولة هكذا.

قد إنتهتُ من تغيير ثيابي، أنا عملي هو الإشراف على عمل العاملين في القصر، هذا كان يُناسبني أكثر، خرجتُ وبدأتُ أُتابع سير العمل النظافة والطعام وكل شئ، في الحقيقة لم يكُن الأمر هيناً أبداً مثلما كُنتُ أتوقع، أنا لا أعرف أي أحد ممن يعملون هُنا، ولا أعرف هل سيقبلون منِ النقد على عملهم أم يستهزئون بي، حاولتُ أن أكون غير قاسية معهم في أول يومٌ لي، ولكن كُنت أريد أحداً يساعدني ويرشدني كيف أُباشر سير العمل معهم.

الارتباك كان يظهر عليَ جداً أمامهم، سمعتُ صوتً يطلب قهوة سادة، هذا الصوت أنا أعرفه قد سمعتهُ من قبل، نظرت على اليمين قد كان رعد، جالس على الاريكة بجواره عصاة التي لا يستغنى عنها أبداً، ما زلت سيدة نرمين لم تظهر بعد، لا أعلم إن كانت تعمل او خرجت او ما زلت نائمة وتستيقظ في وقت مُتأخر، كان فنجان القهوة قد تم إعداده أخذته أنا وأخبرتُ العاملة أنِ سوف أُعطيه إلى رعد بنفسي وأن تعود هي وتكمل باقِ العمل بالداخل، توجهتُ إلى رعد ووضعتُ الفنجان بين يديه، شعر بوجودِ إبتسم وقال:
-أنتِ! أنتِ الفتاة، ليلة أمس، صحيح؟
بتردد شديد قلت:
-نعم أنا، يبدوا أن ارتباكِ يظهر عليَ إلى هذا الحد.
حرك يده وقال:
-لا، طبيعي أن تكونِ قلقة بعض الشيء في أول يوم عمل لكِ في أي مكان، لكن أنا تعرفتُ عليكِ الآن من رائحتك، هذه نفس الرائحة التي كُنتِ تضعينها ليلة أمس.

طلب منِ أن أجلس بجواره في البداية رفضت، خشيتُ أن تحضر السيدة نرمين في أي وقت و ترآني في أول يوم ليِ هنا جالسة أُثامر رعد على الأريكة، لا يُعقل هذا! ابتسم رعد وعاد طلبه مرة أخرى وأخبرنِ أنه يريد حقاً أن أجلس بجواره، قد سأل والدته نرمين هانم عنِ ليلة أمس وعلم أنِ من الملجأ، ومن نفس الملجأ الذي كان فيه هو، كلاً منا يريد أن يجلس مع الآخر لدينا أسئلة كثيرة نريد أن نوجهها لبعضنا البعض، لكن المكان والزمان ضدنا، لا أستطيع أن أجلس وأتحدث معه هكذا لا أستطيع.

تركته و رفضت عرضهُ مرة أخرى، يبدو أنه حزن من رفضي ولكن كان لابد أن أُحافظ على العمل، انتهى من تناول القهوة، كُنتُ في إتجاهي إليه لكي أّخذ منه الفنجان الفارغ، حينها ظهرت السيدة نرمين، كانت تنزل على أدراج السُلم وهي تُلقي الصباح على رعد، يبدو شدة حبها وتعلقها الشديد به، عينها وقعت عليَ، القت الصباح والسلام عليَ أيضاً، وسألت إن كُنت قد ارتحتُ في العمل معهم وإن كُنت أُريد مساعدتها في أي شيء، شكرتُها وأخذت الفنجان وأدخلته إلى الداخل، تركتُها مع رعد يتحدثون.

أنا الآن في المطبخ، هذا ليس مطبخاً عاديا، إنه مثل شقة كاملة في المساحة، هناك أكثر من أربع عاملين في المطبخ وحدهُ، من بينهم فتاة صغيرة تبدو في الثالثة عشر من عُمرها، تعجبتُ لوجودها هُنا سألتها عن سبب وجودها، أخبرتني أن والدتها تعمل هُنا وأنها تأتي معها كل ليلة لتساعدها، جلستُ بجوار تلك الطفلة، وقالت أنها تعمل هُنا عندما كانت صغيرة، ضحكتُ إليها وتعجبتُ فهي ما زالت صغيرة حتى الآن.

سألتُ الطفلة إن كانت تعرف شيءً عن رعد، أجابت بأنه أحنٌ شخصٌ هُنا في البيت، دائماً يُحضر لها الحلوى ويحفزها على أداء الواجب المدرسي ويُخبرها أن تترك العمل في المطبخ لأن هذا عمل الكبار وعمل شاق عليها وفيه شيءٌ من الخطورة، كُنتُ سعيدة بحديث الطفلة عن رعد، كُلما جلستُ هُنا كُلما انجذبتُ إليه أكثر وأكثر، نصحتُها أن تسمع حديث رعد وأن تهتم لدراستها وأن عمل المطبخ خطر بالنسبة لسنها الصغير.

تركتُ المطبخ بعد أن باشرت على العمل فيه كُنتُ مُتجهه إلى الغرف لأرى إن تم تنظيفُها جيداً أم لا، تابعتُ غرفة غرفة، ومن بينهم غرفة كانت مليئة بالأتربة، طلبتُ من المُنظفة أن تُعيد العمل هُنا وأن تحرص على أن يكون كُل شيءً نظيف وعلى ما يُرام، وصلتُ للغرفة التالية، أنا أُتابع سيري على الغرف بأكملها ما زلتُ لا أعلم هذة الغرف مِلكٌ لمن في القصر، فقط أقوم بعملِ فقط، فتحتُ الباب ودخلتُ لأتفقد حالها تفاجئتُ بأن رعد موجود فيها ويسأل من الذي دخل غرفته؟ أنا بارتباك شديد تأسفتُ منه وأخبرته أنِ لم أكُن أعلم أنه موجود في الغرفة لم أستأذن حتى في الدخول عليه، وأنِ مررتُ على كل الغرف في هذا المرر، كِدتُ أن أُغادر.

طلب منِ رعد البقاء، قام من فراشه وجلس على الكُرسي المُتحرك وطلب مني الجلوس بجواره، كُنتُ مُرتبكه وغير راضيه عن الجلوس هُنا في غرفته، جلستُ لبرهة ولكن قُمت من مكانِ سريعاً، وأخبرته أنِ ما زلتُ لم أُكمل عملي، قام من مكانه يُحاول يتحسس المكان وهو يمر، إلى أن وصل لي، أمسك بيدِ وطلب منِ أن أُساعده في الخروج، خرجنا سوياً وهو يتكأ عليَ بدلاً من عصاة التي يحملها في يدهُ الأُخرى، طلب منِ أن أُوصله إلى الحديقة، همس في أُذنِ قائلاً:
-أنا متأكد أنكِ كُنتِ تخشين الجلوس معي في الغرفة، لذلك طلبتُ منكِ أن تُحضريني إلى هنا، يُمكن أن تجلسيِ هُنا معِ بدون خوفً ولا تردد.
ابتسمتُ له ونظرتُ إليه بتعجب كيف يشعُر بيِ لهذه الدرجة! وقلت له:
-كيف تعرف أنِ كُنتُ لا أحب التحدث داخل غرفتك؟ فأنا لم أُظهر ارتباكِ في حديثِ معك!
أزاح النظارة الشمسية قليلاً من على عينه وقال:
-أخبرتُك سابقاً أنِ أعمى النظر فقط ولستُ أعمى القلب يا..، حقاً أنا لم أتعرف على إسمك حتى الآن، ما هو إسمك؟
عيني كانت تُحدق فيه من شدة إعجابِ به ومن ثقتي بأنه لا يراني، بصوتٌ مُنخفض قُلت له:
-أنا فرح، فرحٌ اسمي وللأسف قليلاً من حياتي فرح، سمعتهم ينادون عليك بإسم رعد، أهذا أسمك حقاً.
إبتسم ليَ وقال:
-نعم الكثير يتعجبون من اسمي، وليس أنتِ فقط، لا أعلم من أعطاني هذا الإسم لما أختارهُ ليِ؟ أنا تربيتُ في ملجأ منذ صغري، حين بلغتُ الخامسة عشر من عمري تبنتني السيدة نرمين، من يوم دخولي هنا إلى هذا القصر وأنا خائف كُنتُ أتمنى البقاء في الملجأ، ولكن بمرور الوقت والأيام والليالي، وبحنان سيدة نرمين الذي لم يفارقني يوماً أحببتُ القصر وأحببتُ الجلوس فيه ومع أمي، الآن هي حقاً أمي من تحملت غضبي وتحملت تعبِ وسهرت لأجلي.

كُنتُ أسمع حديث رعد بدون مقاطعة، فقط أريدُ أن أسمعه وهو يتحدث عن ما بداخله، أريد شخص يصف ليَ شعور التبني، أُريد أسمع حديثه للنهاية، ليس كل ما تعرضنا له هو أسوأ الأشياء، أحياناً نتعرض لموقف سيء ليفتح لنا باباً لطريقٌ أفضل مما كُنا عليه، لعل رعد من أسرة فقيرة لا تستطيع أن تتحمل مصاريف مسؤليته، لعل ما حدث معه كان خيراً له ولم يكن يسكن في قصرٌ مثل هذا إن لم يتربى في الملجأ أولاً، كان هذا درسً تعلمته اليوم من كلام رعد، طلبت من رعد أن يُكمل حديثه.

نظر إليَ وسالني:
-لما أنتِ شاردةُ الذهن هكذا؟ اسم فرح جميلٌ جداً، لابد أنكِ تحملين جزاً من أسمك، يقولون أن لكل شخصٌ نصيبٌ من إسمه.

لم أتمالك نفسي وضحكت أمامه، أخبرته:
-ليس معي أنا! ليس لي نصيب من الفرح في حياتي حتى الآن، لعل الفرح قادم في مستقبلي، لكن كل ما تعرضتُ له كان ظلم كبير.
سألني باهتمام:
-ما الذي حدث في حياتُك سابقاً، حاولتُ أن أسأل أمي عنكِ ولكن هي لم تُعيرنِ أي اهتمام بسؤالي هذا.
تنهدتُ مع ابتسامة بسيطة على وجهي وقلت له:
-حياتي وقصتي تطول شرحُها، لا أريد أن أضايقك معي.
حرك رأسه بأنه بانتظار حديثِ.
تابعتُ التحدث قائله:
-أنا مثلكُ يتيمه ولكن في المهد وجدوني، وكان مصيري في ملجأ الأمل لاُكمل حياتي فيها، كنتُ أظن أن الحياة يمكن أن تبتسم ليِ، وأن الأمل دائماً موجود، حين تعرفتُ على شاب يبدو ظريف لطيف هادئ الطباع، كُنت أظنه العوض الذي أَرسله الله ليِ ، ظننتُ أخيراً أصبحتُ سعيدة وأن للفرح عنوان في حياتي، كسرني ظلمني هانني، كُسرتُ بمعنى الكلمة، كُنتُ سجينهُ إلى أن أصبح لا مفر منه إلا الهروب، يوم طلاقِ منه هو يوم سعادتي هو اليوم الذي أعلنتُ أن أكون حُرة، وها أنا ذا أحاول أن أُصارع الحياة، وأُحاول أن أُثبت وجودي بين البشر، عُدتُ إلى دادة سعيدة لكي أحكي لها عن ما حدث لي، وجدتُها تحتاجينِ وأحتاجُ إليها، إلى أن أستطعتُ أن أصل إلى عمل مثل هذا.

تكلمتُ مع رعد بكل ما في قلبي وما في جوفِ لم أخشى أن أُخبرهُ أنِ حزينه أو أنِ يتيمه، لأول مرة لم أخشى وأنا أتحدث إلى أحد عن كونِ يتيمة، فهو يتمٌ مثلي، يا لهذه المصادفة، أخشى أن يكون أخي في النهاية، نحن لا نعلم من هم أهلنا ولا آبائنا و لا أُمهاتنا، لا نعلم أي شيء عن أنفسنا، والغريب أنه من نفس الملجأ الذي تربيتُ أنا فيه.

بعد حديثِ معه شعرتُ بالارتياح، شعور لم أشعُر به من قبل، كأن ما كان بداخلي هو هَمً كبير، وعند كلامي أوقعتُ تلك المسؤولية على إعتاق رعد، أخبرته أنِ أتمنى أن أجد أهلي، وأن استطيع التعرف عليهم، أتمنى لو يستطيع هو مساعدتي، لكن تذكرتُ ظروفه وأنه كفيف وبالكاد يستطيع الحركة بحرية، كان يشغُل بالي سؤالين، أولهما هو كيف أن هذا بيته ويسكن فيه لمدة طويلة، ولم يستطيع أن يتحرك فيه بحُرية كأنه لا يعرف تفاصيل بيته، ثانيهما هل هو كفيف منذ الولادة أم ماذا حدث له بعد ذلك؟

أنا أتذكر كلام داده سعيدة أن الفتى الذي أخذته سيدة نرمين لم يكن كفيف، وكان طبيعيً جداً، ولكن أريد أن أعرف ماذا حدث له، أخشى أن أجرح شعوره بسؤال مثل هذا، لكن كالعادة فضولي يغلب خجلِ منه، قررتُ أن أسال سؤالي الأول لعلهُ يتحدث ويُجيب عن سؤالي الثاني بدون أن اسأله وأُحرجه معِ.

أخذتُ نفسً عميق ونظرتُ إليه، كان يشرب كوب العصير الذي أمامه، يرتدي نظارته التي لا يستغنى عنها دائماً يرتديها، عرضتُ عليه المساعدة رفض، وقال أنه إعتاد على هذا وعلى خدمة نفسه بنفسه، سألته أنِ أُلاحظ أنه لا يستطيع التعرف على أماكن الأشياء هُنا في القصر، كأنه لم يسكن هنا منذ فترة طويلة! نظر إليَ وفهمَ المغزى الحقيقي من سؤالي هذا.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي